رابعة التي لا أستطيع نسيانها
في ركن ما من حاسوبي الشخصي، أحتفظ بألبوم لرابعة.. صور ومقاطع فيديو للمجزرة.. كل ما كُتب عنها.
أحتفظ بذلك المشهد الذي هزني، والذي ما زال قادرا على استدراج شلالات من الدموع من عينيّ.. مشهد الطفل الملتاع الذي يقف أمام جثمان أمه الشهيدة المستكينة في راحتها الأبدية، غير مصدق أن هناك من تجرأ على سلب أمه منه.
لعل سنوات عمره لم تساعده على فهم ما حدث. ولكن دعني يا صغيري أصارحك أننا نحن الكبار لم نفهم!
جلسنا مثلك نشاهد ما يحدث غير مدركين.. سنوات عمرنا لم تزودنا بما يكفي من الخبرة لهضم ما حدث.
فتيات رقيقات الملامح يرتدين الزي الإسلامي ويمسكن بمصاحفهن وهن جلوس.. صلاة التراويح من ميدان رابعة والصفوف المتراصة، جسد واحد كبير من آلاف الأجساد يكبر، ويركع ويسجد ويقوم.
صور أخرى.. أطفال يلعبون، تستطيع حتى في الصورة الصماء أن تسمع ضحكاتهم..
تُرى هل كان الطفل الذي حملوه في ملاءة وقت المجزرة بينهم؟
شاهدت تلك الفتاة الجالسة في الفراغ بين الخرائب تحوم فوق رأسها سحب من دخان مشؤوم يضحك في شر، وفوقها شمس أغسطس الحارقة ترسل أشعتها بلا هوادة، بينما اطرقت هي إلى الأرض في سكينة بنظرة غير عابئة وأخذت تدق بطبق معدني.. بدت كما لو كانت تهز كتفها للدنيا كلها في استهتار.
هذه فتاة جلست تنتظر أجلها غير عابئة..
ما الهول الذي رأته فتاة رقيقة في تلك اللحظات وجعلها تنتظر نهايتها بذلك الثبات؟
الطفل الذي يرفع أذان الظهر والفوضى تحطم كل ما حوله، وهو غير عابئ بما يجري ويصر على رفع أذان الصلاة في موعده. ربما قرر الصغير أنه مهما كان الأمر, فلابد من رفع الأذان!
من ربى ذلك الصغير ليتصرف كهؤلاء الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ؟
مررت على صورة أمي التي لا أعرفها، كانت تقف بجسدها الواهن أمام جرافة عسكرية تستعد لسحق عظام ابنها الجريح الملقى في عجز على الأرض بعد إصابة ما.
استطعت رغم المسافة والزمن أن أسمع صوتها الواهن يعلو هدير محرك الجرافة الشريرة. أم أخرى انحنت على قدمي ضابط بدين تستعطفه من أجل أمر ما.
قلبي سمع نبرات صوتها الكسيرة وعيناي رأت دموعها رغم زاوية التصوير. لابد أنها كانت تحاول استنقاذ روح ابنها. ومصور ما يسرع لالتقاط صورتها!
أم أخرى تجلس في عجز تضع يديها تحت خديها، ترمق جثمان ابنها الممدد أمامها في كفنه الأبيض.
قصة أخرى تختبئ خلف قماش الكفن الأبيض، حياة كاملة اختُطفت، آلاف التفاصيل اليومية. مزاح الشاب مع أمه، صورته وهو يقبل يدها وخديها في مناسبة ما.
عشرات الصور والتفاصيل توقفت بضغطة زر بندقية ما.
شاب آخر يجلس ناظرا إلى جثمان مسجى أمامه بدموع متجمدة، ربما كان شقيقه أو ابنه. لا أحد يعلم الا الله.
الجرافة التي ضلت طريقها، فسارت فوق جثامين الشهداء وامتزج صوت صريرها بصوت عظامهم. مشهد رابعة والنيران تغطيها وتأكلها والذي بثه إعلام العسكر ربما لإرهاب من يرفع صوته.
أسمع بأذني هاتين زفير النيران الراقصة فوق أرض كانت عامرة منذ ساعات. أسمعها غاضبة تلعن من أشعلوها، وتدعو الله أن يطردهم من رحمته، ولكنها لا تملك من أمر نفسها شيئا.
أرى الجنود بأقدامهم الغليظة يطؤون أرض المسجد بعد أن أحرقوه.. ضابطان من جيشهم يلتقطان صورة تذكارية باسمة أمام المسجد بعد المجزرة.
في الركن ذاته أحتفظ بصور أسماء صقر وحبيبة أحمد عبد العزيز وهالة أبو شعيشع وأسماء البلتاجي. شهيدات المجزرة وما قبلها.
لا أعرفهم ولا يعرفونني.. لكننا أخوة. أحييهم كل صباح أو كل مساء.
قلبي وعقلي توقفوا هنالك حيث ارتقوا..
لا أعرف كيف يمكن لبشر أن ينخلع من كل شيء، فيهلك الحرث والنسل.. الله وحده يعلم..
وأنا لا أشغل نفسي بالأسباب. كل ما أعرفه أن الزمن بالنسبة لي متوقف هناك في رابعة، وأنني لا أستطيع نسيانها.
وسوم: العدد 716