مستقبل التجاذب الأوروبي التركي بعد استفتاء الدستور
باتت العلاقات التركية الأوروبية مثقلة بأعباء جسيمة، كشف بعضَها موسمُ الاستفتاء على تعديل الدستور التركي. ولا يبدو منحى التأزيم المتبادل مبرراً بمنطق المصالح التقليدية النمطية والمقاربات الإستراتيجية المباشرة، وهو ما يُطلق العنانَ لتأويلات ثقافية وتاريخية مشبعة بمبالغات.
فأوروبا تبقى بحاجة إلى تركيا بصفة لا تقل عن حاجة الثانية للأولى، والأواصر المتشابكة بين الجانبين مما لا يمكن التضحية به على مذبح جولة انتخابية أو تصعيد لفظي.
مواقف أوروبية حذرة لم تتلق أنقرة التهاني الهاتفية من زعماء أوروبا، وجاءت أبرز المواقف الأوروبية حذرة بعد ظهور نتائج الاستفتاء. فقد تصرفت الأطراف الأوروبية باحتراس من مغبة الظهور في هيئة من يرفض النتائج أو يشكك في شرعية الاقتراع ذاته، لكنها أشارت إلى اتساع معسكر المعارضين للتعديلات وأشارت إلى شكاوى من بعض التجاوزات.
أما العناوين الصحفية فأبرزت مقولة الانقسام في الشارع التركي، وأوحت بأنّ الاستفتاء هو نهاية الديمقراطية التركية مع حقبة الحكم الأوحد بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان.
وإذ دعت المفوضية الأوروبية القيادة التركية إلى "التوافق"، وعبرت عن شكوك ضمنية بشأن بعض ملابسات العملية الانتخابية؛ فإنّ العاصمة الأوروبية الأبرز (برلين) قالت إنها تحترم النتائج ودعت القيادة التركية إلى "الحوار" مع معارضيها، وهي لغة تسعى للإمساك بالعصا من منتصفها، فلا هي ترفض نتائج الاستفتاء ولا هي تتجاهل منتقديه.
وينسجم هذا الموقف مع نبرة التهدئة التي حرصت عليها الحكومة الألمانية مؤخراً نحو شريكها التركي في عدد من الملفات الإستراتيجية المهمة لأوروبا ككل، رغم حدة حملات المعارضة الألمانية تجاه أنقرة، وتشنج مواقف بعض السلطات والإدارات المحلية في ولايات الجمهورية الاتحادية من الفعاليات التركية المؤيدة للتعديلات الدستورية.
بوسعنا تحديد اتجاهين أساسيين في المواقف الأوروبية من القيادة التركية، يحاول أحدهما التحلي بالتوازن والحذر القلِق، وتجسده المفوضية الأوروبية والدول الكبرى لا سيما ألمانيا، ويتجلى الآخر في دول لا تشعر بمسؤولة مباشرة عن صياغة العلاقات الإستراتيجية الأوروبية مع الجانب التركي، كما يتضح في حالة النمسا وهولندا وسويسرا والدانمارك مثلاً.
فهذه الأخيرة (الدانمارك) قالت -على لسان رئيس وزرائها لارس لوك راسموسن في تغريدة له- إنه "من الغريب أن نرى الديمقراطية تقيِّد الديمقراطية"، معرباً عن قلقه الشديد من الدستور التركي الجديد. أما النمسا فقد واصلت بعد الاستفتاء تصعيدها بحق تركيا، فاعتبرت أنّ النتيجة أظهرت مدى انقسام البلاد، وأنّ التعاون التركي مع الاتحاد الأوروبي بات أكثر تعقيداً.
من المفارقات أنّ الأصوات الأوروبية التي أعلنت أنّ أنقرة صارت بعيدة عن دخول أوروبا الموحدة بعد الاستفتاء، هي ذاتها تقريباً التي أظهرت من قبل تصميماً على عرقلة هذه العضوية والمماطلة بها. ويتجاهل هؤلاء أنّ أوروبا الموحدة فقدت بريقها تقريباً، وأنّ أحلام اللحاق بها لم تعد خيار الأتراك الوحيد.
من المفهوم الامتناع الأوروبي عن الترحيب بتركيز النفوذ القيادي في تركيا كما يقضي به التعديل الدستوري، لكنّ أوروبا ذاتها تنسج الأواصر مع استبداد عسكري صاعد على أنقاض الربيع العربي، وكأنّ المشترك في الموقفين المتناقضين ظاهرياً هو التحفظ الأوروبي غير المعلن على صعود تجربة ناجحة مسنودة شعبياً، وقادرة على التصرف إستراتيجياً في عالمها باستقلال عن إرادات أوروبية وغربية.
التفاعل الأوروبي مع الاستفتاء لم تكن أوروبا بعيدة عن حملة التعبئة للاستفتاء، فقد تصرفت بعض أطرافها كمن يسعى لتعزيز كفة القائلين بلا. اتضح هذا مثلاً في عرقلة فعاليات مؤيدة للتعديلات في كل من ألمانيا وهولندا والنمسا وسويسرا، حيث يتركز المخزون التصويتي لأتراك المهجر. أما الرسالة الأهم التي بعثت بها أوروبا للناخبين في الداخل التركي فهي عدم ارتياحها من تمرير التعديل الدستوري.
لا يمكن التهوين من هذا التأثير الأوروبي، فقد كان واضحاً من استطلاعات الرأي أنّ الفجوة ضيقة أساساً بين مؤيدي التعديلات ومعارضيها، وتأكد ذلك بعد فتح الصناديق. لكنّ التصعيد الأوروبي ضد الاستفتاء كان كفيلاً باستثارة بعض الناخبين الأتراك فارتدّ لديهم بتأثيرات عكسية، وإن شجّع آخرين على رفض التعديلات وربما التظاهر ضد النتائج وسط اهتمام إعلامي أوروبي بتحركاتهم.
لا تخلو الانتقادات لإجراء الاستفتاء التركي -تحت حالة الطوارئ- من وجاهة، سوى أنه يقع إغفال أنّ فرنسا مثلا تخوض انتخاباتها العامة والرئاسية تحت حالة الطوارئ أيضاً، وأنّ جولات اقتراع مهمة تجري عبر القارة في ظل مخاوف أمنية تدفع بمزايدات سياسية وحُمى شعبوية تستهدف مكوِّنات مجتمعية محددة.
أما رواية الانقسام المجتمعي بعد الاستفتاء فقد غابت حتى عن التعليقات الرسمية بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي تم حسمه بفارق طفيف رغم تداعياته الجسيمة.
وعلى مدار سنة كاملة سبقت الاستفتاء تسارعت تقاليد الشيطنة الإعلامية بحق القيادة التركية، فغدا اسم أردوغان مقترناً في التناول الأوروبي بالهلع والمخاوف والطغيان، وحظي الرئيس التركي بوفرة من الأغلفة المرعبة والعناوين البائسة.
ليس يسيراً على قادة أوروبا بعد هذا التصعيد معايشة قيادة أردوغان ودياً، وهي التي أطلقت مفردات شديدة اللهجة مثل النازية والفاشية والصليبية في الرد على مواقف وتعبيرات أوروبية قاسية نحو تركيا.
ولأنّ أوروبا لا تتحدث بصوت واحد ولا تتوافق توجهاتها السياسية مع تعبيراتها الإعلامية دوماً؛ فإنّ منحى التأزيم والتوتر سيبقى قائماً، خاصة مع وفرة الأطراف التي لها مصلحة مؤكدة في استثارة القيادة التركية ودفعها إلى الظهور في مشهد متشنج.
بين أوروبا وتركيا الجديدة لأوروبا مخاوفها وتحفظاتها إزاء تركيا وقيادة أردوغان تحديدا، وبواعث ذلك تكمن في حقيقة أنّ إستراتيجيات القارة ليست مستعدة لدور متعاظم تنهض به "تركيا الجديدة"، كما تقلقها الوجهة الثقافية الملحوظة في بلاد الأناضول لا سيما مع مظاهر الإحيائية العثمانية، رغم اتساعها لاقتصاد السوق الحر وأنماط الحياة الغربية، علاوة على أنّ أوروبا الموحدة لم تستسغ بعدُ منطق الشراكة الندية مع أنقرة التي جسدها اتفاق اللاجئين سنة 20166.
يبدو واضحاً أنّ أوروبا لم تتهيّأ بعدُ للقبول بتركيا قطباً صاعداً ضمن عالم متعدد الأقطاب، فتركيا المرغوبة هي الشريك المحدود التطلعات أو الملحق بأوروبا من الدرجة الثانية، في هيئة دولة تكافح للاحتفاظ بتماسكها واستقرارها مع طموحات محسوبة.
وحتى سنة 2002 كانت الأنماط القيادية المتعاقبة على الحكم في أنقرة تتصرف نحو أوروبا بروح التطلع إلى اللحاق بالقاطرة الأوروبية، أما الخيوط فكانت تنتهي في أيدي نخبة عسكرية تمسك بمقاليد الأمور، بما ضمن للأوروبيين ثباتاً معقولاً في وجهة الأناضول رغم تعاقب الحكومات.
كما لم تسعف التوازنات الاقتصادية والإستراتيجية الجانب التركي وقتها لرفع رأسه عالياً في مواجهة شركائه الأوروبيين، الذين عكفوا على تطوير مشروع الوحدة المكلل بالوعود والعوائد.
ثم صعد حزب العدالة والتنمية مشفوعاً بتأييد شعبي منقطع النظير، فوجد ترحيباً في العواصم الغربية ابتداءً، وبدا أنه نموذج ليبرالي محافظ للعالم الإسلامي. أدرك الأوروبيون آنذاك مصلحتهم مع تركيا متعافية اقتصادياً ومستقرة سياسياً، وتخوض إصلاحات ديمقراطية تقترب عبرها من أوروبا.
اجتذبت تركيا استثمارات أوروبية هائلة مع مؤشرات نمو ناهزت في بعض الأعوام 8%، وهو منسوب لم تحلم بمثله العواصم المنهمكة في إنقاذ اليورو. افترض بعضهم وقتها أنّ إلحاق تركيا باقتصاد السوق على هذا النحو النشط سيجعلها متشابكة حيوياً مع الغرب، ولن تقوى على التملص من شبكة الأمان الاقتصادية هذه.
لكنّ تركيا أخذت تراكم الإحساس بالثقة الذاتية والاقتدار، ومضت بدأب في مشروع نهوض متعدد المسارات تجاوز التوقعات المسبقة كافة. اجتازت قيادة أردوغان اختبارات قاسية كادت تطيح بالتجربة مراراً، ثم خرجت بنفوذ هائل لم يحظ بمثله من قبلُ سوى أتاتورك مؤسس الدولة الحديثة، وهذا بعد محاولات انقلاب محبوكة بعناية.
ظلّت الورقة التركية عرضة لمزايدات استعمالية وتجاذبات داخلية في أوروبا، إلى درجة سدّد معها قادة دول وحكومات وزعماء أحزاب لكمات لفظية لأنقرة بتعبيرات مشبّعة بالغطرسة.
لكنّ قيادة أردوغان تفرض الآن تغييرا في قواعد اللعبة، فتتصرف بثقة غير مسبوقة في مواجهة الأوروبيين، الذين خاض بعضهم مزايدات في مواجهة الأتراك العالقين منذ القرن الماضي في غرفة الانتظار على أمل دخول رواق النبلاء.
صاغت أنقرة في سنتها الأخيرة خطاباً جديداً نحو أوروبا بالتلازم مع متغيرات كبرى؛ مثل ملف اللاجئين والمحاولة الانقلابية والاستفتاء الدستوري. وينطوي هذا الخطاب على مبدأ الندية ومقايضة المصالح، مع نبرة شديدة النقد لأوروبا عموماً ولبعض دولها خصوصاً إن استدعى الموقف ذلك.
لم تتردّد القيادة التركية في الاشتباك اللفظي وكيل الصاع صاعين عندما استشعرت استفزازات منفلتة من عواصم أوروبية صوبها. واتضح -في هذا السياق- أنّ أنقرة ليست متحمسة لاسترضاء الأوروبيين المنزعجين منها، كما لا تبدو مكترثة بحلم عضوية الاتحاد الأوروبي الذي يُرجّح أنه آخذ في التلاشي.
تتجلى في ظلال التجاذب اللفظي أزمة ثقة متعاظمة بين أوروبا وتركيا. فقد سببت المواقف الأوروبية المتراخية في لحظة الانقلاب العسكري وما بعدها جرحا غائرا عندما قرأت فيها أوساط تركية رسالة خذلان في ساعة الحقيقة، بل رأى بعضهم أنها تحمل شبهة تواطؤ ضمني ضد الدولة التركية وقيادتها وتقدمها. وتتفاعل هذه التأويلات مع تراكمات شتى؛ ليس أقلها عرقلة استيعاب تركيا ضمن الأسرة الأوروبية.
سؤال المستقبل المتبادل تترقب العيون الأوروبية التفاعلات التركية الداخلية بعد الاستفتاء، وما إن كان سيتشكل حراك سياسي ومدني مناوئ لقيادة أردوغان أو سيقع الطعن حقاً في النتائج بصفة جدية.
وينضج حالياً خطاب أوروبي يتحسب من التقدم التركي إلى وعود عام 2023، وتصعد المنصة "جوقة الخبراء" الذين يقرعون الهواجس من العودة العثمانية واستعادة الحضور التركي في أقاليم البلقان وغيرها. ورغم المبالغة المفرطة في هذه التحذيرات؛ فإنها تُذكي مزايدات السياسة والانتخابات، وتعزز "التركوفوبيا" التي يراهن أصحابها على تطويق تركيا بالعزلة المعنوية وصرف الاستثمارات الأوروبية عنها.
لكنّ أوروبا لن تقوى في الواقع على التضحية بعلاقات إستراتيجية مع تركيا، فبديلها هو هاجس انزلاق بلاد الأناضول إلى الشرق الإسلامي، وتعزيز محاور إستراتيجية قد تنشأ في مواجهة أوروبا، بالشراكة التركية مع روسيا، أو باقتراب أنقرة من طهران مثلاً.
ولا يملك الأوروبيون ترف خسارة شريك إستراتيجي مهم مثل تركيا بينما يستشرفون المتاعب مع إدارة دونالد ترمب، وتنتابهم الهواجس من السلوك الروسي في جوارهم الشرقي وفي البحير الأبيض المتوسط، علاوة على اضطرابات الجوار العربي.
كما تدرك أوروبا أنّ ورقة الضغط العاجلة التي تقبض عليها أنقرة عنوانها اللاجئون، وهو ما يفرض عليها التفكير ملياً قبل التساهل في انزلاق علاقاتها مع الأتراك إلى أزمة عميقة.
ثمة خسائر وقعت بالفعل تقتضي الترميم المتبادل، لا سيما من الأطراف الأوروبية التي يتصرف بعضها بتشنج بالغ مع تركيا إلى حد استعمال لغة خصومة وازدراء. وتسكب العناوين والأغلفة والتغطيات الزيت على نار التصعيد، وتتعرض للرئيس التركي بإيحاءات مشبّعة بالإهانة، وتعتبر أنّ تركيا أصبحت "أردوغانستان"، بتعبير صحيفة "فينرتسايتونغ" التي تصدرها الدولة النمساوية.
الأرجح هو أن ترزح الحالة بين تركيا وأوروبا بين مد وجزر، وأن تظل رهينة اختبارات متبادلة مع تحولات الأطراف حتى 2023. فلن تعود الجمهورية التركية بعد الاستفتاء كما كانت، وتفقد الأسرة الأوروبية يقينها بالمستقبل الوحدوي أو استقرارها المعنوي في عالم سريع التغيّر، كما يصعب تقدير ألوان الحكم التي ستتعاقب على أقاليم القارة.
وإن وقع مؤخراً فرز مراتب القرار الفعلي في الاتحاد الأوروبي تحت عنوان "أوروبا المتعددة السرعات"؛ فإنّ أنقرة قد تختار بدورها أسلوب تركيا المتعددة السياسات والمواقف نحو الدول الأوروبية، حسب سلوك كل منها.