دور إيران في الإرهاب
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
مع الوقت اكتشفت إيران أن تنفيذها المباشر لعمليات شبه عسكرية خارج إيران لابتزاز الدول الأخرى التي تمر معها في أزمة سياسية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية ومواقف متشددة من الطرف المتضرر من تلك العمليات والمجتمع الدولي. فضلا عن ذلك إلحاق الضرر بسمعتها الدولية. على الرغم من أنها تحقق كسبا مؤقتا في وسط متخلف ينظر إلى تلك العمليات الإرهابية على أنها قدرة خارقة لإيران في تحدي الدول الكبرى، التي تطلق عليها اسم دول الاستكبار العالمي، ضمن خطة خديعة كبرى لتضليل الرأي العام الإسلامي من أنها الدولة المعبرة عن طموحاتهم في القضاء على سياسة التغريب والعودة إلى المنابع الصافية للإسلام.
لهذا نرى إيران وبحكم خبرتها التي اكتسبتها من بقايا وزارة الخارجية من زمن الشاه أو متحولي الولاء من السافاك والذين أعادتهم إلى وظائفهم السابقة، ومن خبرة بعض الدول والأطراف المتحالفة معها مثل النظام السوري وبعض السياسيين اللبنانيين الذين أخذوا بشعارات الخميني عن فلسطين ومحاربة الامبريالية وخاصة الأمريكية، ومنهاج رجال الدين الشيعة في استغفال البسطاء، تحولت إلى تشكيل أحزاب ومليشيات في ساحات عربية حصرا كالساحة اللبنانية لخصوصيتها العربية والإقليمية والدولية ولجو الديمقراطية المفتوح فيها، ولتتولى تنفيذ المهمات التي تستطيع إنجازها بنجاح لا تتوافر له الشروط نفسها داخل الساحة الإيرانية، من دون أن تتحمل إيران الرسمية شيئا من المسائلة السياسية أو الدبلوماسية أو القانوني لتلك العمليات، وربما تبادر وزارة الخارجية في طهران إلى إبداء الأسف على الأقل تجاه سقوط ضحايا، بل قد تذهب أبعد من ذلك فتصدر بيانا تستنكر وقوع مثل تلك العمليات،قصد التنصل منها ولكنها في كل بيان لها تذكّر بأن مثل هذه العمليات ما لها أن تحصل لولا الشعور بالظلم الناتج عن دور الولايات المتحدة في العالم، وكأنها تريد أن تؤكد أنها هي الطرف الوحيد الذي يرفض الظلم وتقدر على مواجهة أمريكا، وأنها على الأقل تتعاطف مع القضية التي من أجلها تم تنفيذ عمليات سقط فيها ضحايا بمن فيهم المنفذون، فتعرض نفسها كوسيط مستقل للبحث عن حلول مناسبة لأزمات العالم، لكن إيران في الواقع تحرص على ألا يفلت الخيط من يدها، ذلك أن أيا من تلك العمليات ما كان له أن يتم من دون أن تخطط بتفاصيلها ودوافعها وصفحات تنفيذها بما في ذلك التمويل والمواد المتفجرة من جانب الطرف المنفذ بأي حال من الأحوال.
لقد حرصت إيران وما تزال على توظيف القضية الفلسطينية في تبرير عملياتها الإرهابية، لما لها من مكانة متقدمة في نفوس العرب والمسلمين وخاصة المسجد الأقصى، على الرغم من أنها في الجانب الفقهي في المذهب الجعفري الاثني عشري لا تنظر إلى الأقصى بنفس القدسية التي ينظر إليه سائر المسلمين، فهو مجرد مسجد كسائر المساجد المنتشرة في شتى الأرجاء اليوم، وليس قيمة استثنائية مقارنة بأي مرقد من مراقد الأئمة الاثني عشر بل وتجعلها متقدمة عليه كثيرا، وتشكك في صحة حديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي يقول فيه (تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا "المسجد النبوي الشريف" والمسجد الأقصى)، وبالتالي لن يطول بنا الوقت كي نكتشف أن الغرض سياسي بالدرجة الأولى ولعب على الأوتار النفسية للمواطن العربي من جهة ومن جهة ثانية وهو الأمر المهم تأليب العالم على العرب بسبب هذه القضية التي تصورهم كإرهابيين بنظر الغرب الذي يؤيد إسرائيل في دعايتها المضادة للأمة العربية، ومن هنا أيضا نلاحظ أن إيران لم تنشغل بأي ملف من الملفات الخاصة بالمسلمين في أي مكان على الرغم من محنة المسلمين في كثير من الساحات الدولية، مثل أفغانستان البلد المجاور لها والذي تعرض لاحتلالات منذ وصول الخميني إلى السلطة تارة من زعيمة المعسكر الاشتراكي أي الاتحاد السوفيتي وتارة من جانب زعيمة المعسكر الرأسمالي والشيطان الأكبر أي الولايات المتحدة، وربما يقول قائل بأن إيران استغلت الساحة اللبنانية خاصة بسبب وجود المكون الشيعي فيها، وهنا يأتي الرد بأن عرق الهزارة ومعظمهم من الشيعة في إقليم هرات غربي أفغانستان، بل وعلى حدود إيران الشرقية يقتضي منها أن تهب للوقوف ضد الاحتلالين السوفيتي تارة والأمريكي تارة أخرى، على العكس من ذلك أكدت التقارير التي كشفتها مصادر أمريكية بأن الولايات المتحدة حصلت على دعم إيراني لتسهيل احتلال كل من العراق وأفغانستان، بل إنها وظفت قضية اللاجئين الأفغان الذين شردهم الاحتلالان السوفيتي ثم الأمريكي توظيفا سياسيا ومذهبيا رخيصا وبدأت تساومهم على تغيير مذهبهم وتجندهم في حروبها النظامية وغير النظامية وإلا ألقفت بهم على حدود بلدهم ليواجهوا مصيرا مجهولا في العراء أو داخل بلدهم، إيران ركزت بخطة دعائية سياسية على القضية الفلسطينية ليس صدقا أو إيمانا بها، وإنما اعتبرتها استثمارا سياسيا ناجحا إلى حدود غير متصورة للتمدد على الوطن العربي انطلاقا من العراق و الاستحواذ على ثرواته ومن ثم توظيفها في خدمة مشروعها التوسعي وتحويله بقوة السلاح من مصد بشري قوي ضدها، إلى قوة مجندة لصالحها، ومن ثم استكمال شرعيتها الناقصة بالتوجه جنوبا واحتلال أرض الحرمين الشريفين كي تقول بأنها مسيطرة على مهبط الوحي ومدينة رسول الله ثم حاضرة علي بن أبي طالب أي الكوفة وعاصمتي الدولة الأموية دمشق والدولة العباسية بغداد.
وهنا نصل إلى لب الاستراتيجية الإيرانية، وهي أن إيران لا يمكن أن تخوض معركة مباشرة مع قوى دولية كبرى لأنها تعرف أن الثمن لن يكون زهيدا في مواجهة غير متكافئة، هذا من جهة ومن جهة أخرى تحرص على اختيار الساحة العربية للتحرك فيها لشعور عميق عندها بأن العنصر العربي عندما يسقط، فإنه يسقط سقوطا مدويا بحيث لا يبقي موبقة في القاموس إلا ويرتكبها خاصة إذا استندت إلى تفسير ديني يبررها بل ويجعلها محل فخر ومباهاة، وهنا تستطيع إيران تحقيق عدة أهداف في وقت واحد:
1 – إيران لا تمتلك القدرة والشجاعة الكافيتين لتعمل في الواجهة أبدا، لأنها لا تستطيع الدخول في مواجهة مع الدول الكبرى ولا تريد ذلك في أية أزمة مباشرة مع أي من بلدان العالم الصغير منها والكبير.
لقد أتقنت إيران تشعبات اللعبة الدولية وما يمكن أن يجره عليها خرقها للقانون الدولي، وكي لا تستثير الرأي العام العالمي وأجهزة الإعلام الدولية ضدها، راحت تجنّد القوى المحلية على هيئة مليشيات ومنظمات أضافت إليها صفات (التحرير) وألبستها شعار الممانعة والمقاومة، وأغدقت عليها المال والسلاح والتدريب، لأنها تعي جيدا أن هذا النوع من الاستثمار سيتحول إلى مشروع مكتفٍ ذاتيا في ميزانيته وفي مرحلة لاحقة إلى مشروع رابح، كما حصل مع حزب الله اللبناني الذي تحول مع الوقت إلى أكبر تاجر مخدرات في العالم وراعٍ لعمليات الخطف وخاصة لشخصيات سياسية وتجارية أجنبية والتي تنتهي بفديات كبيرة تستقر في نهاية محطتها الأخيرة في خزانة إيران، ولعل أحدث شواهد هذه الصفقات الرابحة عملية إطلاق سراح المختطفين القطريين الذين دفعت بلادهم فدية ذكرت مصادر أنها 600 مليون دولار وذكرت مصادر أخرة أنها 800 مليون، ومثل هذه الإيرادات وفي زمن العقوبات المفروضة على إيران يمكن أن تسد جانبا مهما من مصادر الدخل الحكومي بالعملة الصعبة، وجانبا من احتياجات إيران في مختلف الأغراض، فوجدت إيران في المنظمات التي جندتها تحت لافتة المذهبية والولاء لآل البيت الذي لا يتحقق من وجهة نظرها إلا بالتبعية المطلقة للولي الفقيه في إيران وجدت ضالتها الكبرى، ولم تتوقف عند هذا الحد بل أجادت دور الوسيط في مشكلة هي اختلقتها عن طريق أدواتها المحلية وهي نفسها التي تضع شروط الحل والثمن الذي تريد قبضه من الدولة الكبرى من دون أن تتحمل التبعات السياسية المترتبة على هذا الفعل المدان.
2 – تأكيد مشاع كراهية الغرب للعرب وتكريس صورة العربي الإرهابي في الذهن الجمعي في دول الغرب والطرق على مقولة إن العرب هم الإرهابيون وأن مواجهتهم لا يمكن أن تنجح من دون دور إيراني في أي تحالف دولي، لا سيما وأن القضية الفلسطينية ستكون شعارا لكل عملية يتم تنفيذها وسرعان ما تأخذ صفة "إرهابية"، واستماتت طهران في تعميق الشعور بالإسلام فوبيا في معظم دول العالم وأن الإرهاب ينحصر عند السنة فقط استنادا إلى مقولة إن الفقه الشيعي يعطل فرض الجهاد في زمن غيبة الإمام المهدي.
الزعامة الإيرانية عندما كانت تتحرك بواسطة أدواتها في لبنان، كانت حريصة على أن تكون انعكاسات هذا السلوك على العرب حصرا، في حين أنها هي التي تكسب من وراء جدار شاهق وستار معتم، كل المغانم السياسة والمكاسب المالية من أية عملية "إرهابية عربية" فتحصل على الأموال والتنازلات السياسية عن طريق المنظمات التي تنفذها لمصلحة إيران حصرا ونيابة عنها، وحيثما كانت إيران تمر باحتقان سياسي في قضية أو أزمة مع الغرب، فإنها تكلف حزب الله اللبناني لتنفيذ عملية اختطاف أو قتل لصالح الطرف الذي تريد منه إيران تنازلات وهنا تدخل السفارة الإيرانية مباشرة أو عبر وسطاء كوسيط لحل الأزمة والتي لا تنتهي إلا بحصول إيران على ثمن ما.
منذ وصول الخميني للسلطة وجد أن أفضل لعبة له هي توظيف القضية الفلسطينية كجسر لمشروعه في نشر ولاية الفقيه، ففلسطين هي السلعة الأكثر استقطابا لمشاعر الشباب العرب المتحمسين والذين يشعرون بمأساة الشعب الفلسطيني والذين قضوا عمرهم وهم يسمعون أناشيد التحرير والعودة ولكنهم لا يلمسون من الناحية الفعلية شيئا على الأرض، مما ضاعف من خيبة أملهم في النظام الرسمي العربي وشعاراته التي وجدوها مجرد أوهام ومخدر يراد منه تخديرهم وتعطيل جهودهم، ولهذا كانوا يجدون في الشعارات الثورية التي أخذت ترتفع في طهران عاليا وكأنها الترياق الذي سينتشلهم من حالة التردي التي وصلوا إليها، فاندفعوا متحمسين مع أية عملية مضادة لإسرائيل أو الدول الغربية الداعمة لها وخاصة الولايات المتحدة، واعتبروها التعبير الأكثر تطابقا مع ما يؤمنون به من قناعات سياسية وفكرية حتى لو جاءت من قوى خفية.
ومن أجل عدم الاسترسال في هذا الحديث ومن أجل الذهاب إلى الوقائع عبر متابعة ميدانية على الأرض لتاريخ إيراني حافل ومزدحم بصنع المنظمات الإرهابية أو تشجيع الموجود منها حتى في حال وجود تناقض بين التوجهات الفكرية للطرفين، فإيران تجيد فن دعم الأضداد من دون اكتراث، ماليا وتسليحيا وتدريبيا وبتوفير المظلة السياسية والأمنية لها إذا اقتضت الضرورة، حتى صارت أرقاما مؤثرة في أوضاع البلد التي تتواجد فيها، على الرغم من أن الحكومة الإيرانية تتعامل مع مثيلاتها من حركات تطالب بحقوقها السياسية بوحشية تفوق الوصف.
إلا أننا نؤكد بأن المنظمات الظاهرة على السطح، هي ليست الوحيدة التي تحظى بالدعم الإيراني، فهناك منظمات أخرى تسعى لتقديم خدمة للمشروع الإيراني بطريقة أكثر نضجا وذلك عن طريق خطاب متوازن في حديثها عن السياسة الإيرانية فتارة تنتقد ولكن على استحياء وتارة نراها تغالي في تأييدها لإيران على نحو يتجاوز ما تفعله قوى إيرانية محسوبة على الولي الفقيه في الداخل الإيراني، تتهم أوساط سياسية شيعية متنفذة في صنع القرار الإيراني، حزب الدعوة بأنه صنيعة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي على الرغم من أن الشاه كان يتبنى خطابا تحديثيا وليس خطابا دينيا، لكنه في واقع الحال كان يعتبر نفسه مدافعا عن حقوق الشيعة السياسية والاجتماعية في كل مكان بل وممثلا لهم أمام حكوماتهم، وانعكس هذا التصور على ما كان يحمله الخميني بعد وصوله إلى السلطة في إيران في 11 شباط/ فبرابر عام 1979، على قيادات حزب الدعوة من احتقار وازدراء وضغينة رافقته منذ تأسيس حزب الدعوة وحصول التصادم الفكري بين الطرفين، لأنه ناصب كل المؤسسات التي تولدت في عهد الشاه داخل إيران وخارجها أو بأمره عداء لا مزيد عليه، فضلا عن شعور الخميني بأن الحزب ومرجعية محسن الحكيم ناصباه العداء في أثناء وجوده في النجف لاجئا من إيران التماسا من الحكيم والدعوة لرضا الشاه، وانعكس هذا الأمر بوضوح على العلاقة بين مؤسسات الدولة الإيرانية وكوادر الدعوة الذين اتخذوا من إيران مقرا لأنشطتهم الإرهابية ضد العراق بعد وصول الخميني إلى السلطة.
ربما تعقدّت حياة قيادات حزب الدعوة في إيران نتيجة انعكاس توجهات الخميني على تعامل أجهزة الدولة والأمن والحرس الثوري من حزب الدعوة الذي كان ينظر إليه الإيرانيون على أنه شبيه بحزب الشاه (رستاخيز)، ففضل كثير من قيادات الدعوة ترك إيران والتوجه إلى دمشق والعيش على ما تدره عليه أعمالهم في مجالات التهريب والجوازات المزورة والمهن العادية في حي السيدة زينب كما فعل نوري المالكي، في حين فضل البعض الآخر العيش في أوربا كما فعل إبراهيم الجعفري وموفق الربيعي وعاشوا على الاعانات المالية التي تصلهم من حكومات البلدان التي يقيمون فيها وما زالوا يحتفظون بجنسياتها، أما الحديث عن عروبة توجهات حزب الدعوة ورفضه لولاية الفقيه فما هي إلا محاولة للزعم بتميزه فكريا وسياسيا عن إيران، فإيران هي التي رفضت حزب الدعوة وليس العكس واستبعدته عن مشاركتها في صنع القرار ولكنها مدّت له الأيدي وفتحت له أبوابها بعد أن وجدت أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق لم يتمكن من تحشيد التأييد اللازم مما اضطره عام 2007 إلى الإعلان عن تغيير مرجعيته من الخميني إلى شخصية دينية أخرى وتوقفه عن الإيمان بولاية الفقيه.
ولكن الخميني وإن كان لم يخلع رداء احتقار حزب الدعوة في داخل نفسه، إلا أنه وجد في النهاية أن حزب الدعوة وبصرف النظر عن حجم انتشاره في الساحة العراقية، فإنه مرتزق رخيص التكاليف ويستطيع تجنيده لخدمة مشروع ولاية الفقيه حتى إذا واصل شعاره المعلن بعد الإيمان بها، وحرص على عدم إظهار مشاعره الحقيقية تجاهه والتعامل معه كقوة تمثل جانبا من توجهات الشيعة في العراق لاسيما وأن وجهات نظر الخميني نفسها لم تكن تحظى بإجماع شيعي حتى داخل النجف أو قم، فكيف الحال بالنسبة لشيعة العراق المتقلبي المزاج السياسي والنفسي وكذلك شيعة إيران؟
ورأى الخميني في النهاية أن استمرار تجنيد حزب الدعوة لخدمة أهدافه في ما يسمى بشعار تصدير الثورة أهم بكثير من الالتفات إلى الوراء، وإذا كان هذا الحزب من انتاج الشاه، فإن خلاف الخميني مع الشاه يتعلق بسياسات الأخير في الداخل بالدرجة الأولى، خاصة وأن الحزب أثبت بالتجربة القاطعة والدلائل الميدانية أنه مخلص ووفي في تبعيته لإيران من دون أن يسأل عن هوية الحاكم فيها أو توجهاته السياسية والفكرية.
لهذا فقد نصح مستشارو الخميني المقربون سيدهم بأن يمنح حزب الدعوة فرصة أخرى ويضعه في اختبار الولاء لاسيما وأن شعار تصدير الثورة بحاجة إلى أدوات محلية أكثر من حاجته إلى جيوش إيرانية جرارة لاسيما وأن الخميني وجه ضربة لجنرالات الجيش الإيراني بعد وصوله إلى السلطة، ولم يسمح لضابط يحمل أكثر من رتبه عقيد بالاستمرار في الخدمة، بل إنه ذهب بعيدا في هذا التوجه، ومنح رتبا أعلى لضباط استشرف فيهم الولاء لنظامه الجديد كولائهم لحكم الشاه، إذ أنهم ضباط مهنيون وضعوا خدمة المشروع الإيراني نصب أعينهم من دون أن يسألوا عن العقيدة السياسية والدينية للحاكم في طهران، وظن الخميني أنه مع الوقت يستطيع تغيير قناعات الضباط الذين أبقاهم في الخدمة وتحويل ولائهم كتسديد فاتورة مقابل الحفاظ على حياتهم أو إبقائهم في الخدمة.
لقد أنعش وصول الخميني إلى السلطة في إيران في 11 شباط/ فبراير 1979 آمال الحركات الدينية الشيعية في تحقيق أهدافها نتيجة دخول قوة لم تكن بالحسبان، بعد وصول ظهير قوي إلى السلطة إلى البلد الوحيد في العالم الذي يجاهر بأنه يحتكر تمثيل الشيعة في العالم، لا يتردد في تقديم الدعم لها من أن يقيم وزنا لأهم مبدأ من مبادي القانون الدولي وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واعتبره مبدأ من مبادئ القوانين الصليبية أي التي وضعها العالم الغربي، وبهذا التبني لحزب الدعوة يمكن تأكيد أن إيران تظل على تمسكها برعاية كل الولادات التي ترعاها من قبل أي حاكم من حكامها وإذا ما جاء النقيض فسرعان ما يكيف نفسه مع الحالة ويمنح المولود نفس الرعاية الأبوية بل رعاية الأمومة، على خلاف ما هو سائد في البلاد العربية إذ أن المزاج السياسي يلعب بأعصاب مشدودة مع الحركات والتنظيمات السياسية، فربما يتم قمع حركات وأحزاب رعت نشأتها حكومة بلد ما ولكن تغير الظروف السياسية تتحول حكومة ذلك البلد إلى أكبر قوة قمع لهذا الحزب، وهذه قضية في غاية الأهمية في الفرق بين العرب والفرس.
منذ وصول الخميني إلى السلطة، بل حتى قبل ذلك أصبحت عمليات الخطف، وظيفة سياسية مهمة في قاموس ولاية الفقيه، تضع لها الخطط والإمكانات من أجل نجاحها ولعل أول ما يؤشر على سلوك النظام الجديد مع الآخر هو ما نفذه من يسمون أنفسهم بالطلبة المؤمنين بخط الإمام في هجومهم على سفارة الولايات المتحدة واحتجازهم 52 أميركياً من منتسبي السفارة كرهائن لمدة 444 يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979 حتي 20 كانون الثاني/يناير 1981، بعد توقيع اتفاقية الجزائر التي أطلقت في أمريكا الأموال الإيرانية التي كانت قد حجزتها بعد سقوط نظام الشاه.
وكانت العاصمة اللبنانية المكان المفضل لإيران لتنفيذ خططها في هذا المجال، وذلك لأن أية عملية هناك ستكون الخبر الأول على مستوى الإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وثانيا لوجود شخصيات مهمة تستحق المجازفة أيا كان ثمنها، ولأن الساحة اللبنانية صارت بحيرة تسبح فيها أسماك القرش الإيرانية والموالية، وهنا يجد أن نثبت حقيقة هي أن العمليات الانتحارية لم تكن اختراعا سنيا كما تصور إيران وأجهزة الدعاية المسخرة لخدمتها، ولكنْ ومن قبيل تثبيت الحقائق نرجع إلى أربعة أحداث إرهابية رئيسة وخطيرة في آثارها وتأثيراتها على ما أعقبها من أحداث، وهي تؤكد بشكل لا لبس فيه بأنّ منهج العمليات الانتحارية بالسيارات المفخخة لم يكن من ابتكارات تنظيم القاعدة في بداياته، وإنْ كانت القاعدة قد أخذت به لاحقا وتوسعت باعتماده، وإنّما كان من ابتداع قوى وتشكيلات شبه عسكرية مرتبطة بإيران وحصرا بأحد المكاتب المرتبطة بمكتب العمليات الخارجية في الحرس الثوري والذي يطلق عليه اسم مكتب حركات التحرر.
وأول هذه العمليات، تلك التي استهدفت مبنى السفارة العراقية في بيروت في 18 كانون الأول/ ديسمبر عام 1981 وهي الحادثة المعروفة التفاصيل والنتائج، إذ اندفعت شاحنة محمّلة بالمتفجرات يقودها انتحاري من حزب الدعوة هو "أبو مريم الكرادي" الذي يعتبره حزب الدعوة "أول استشهادي إسلامي في التاريخ الحديث" نحو المبنى الرئيس للسفارة، مما أدى إلى انهياره بالكامل على من فيه، وقد خطط للعملية "جواد" والذي عرفناه فيما بعد باسم نوري المالكي وتسلم منصب رئاسة الوزراء بعد إبراهيم الجعفري، كان المالكي في تلك الفترة يشغل موقع "مسؤول العمليات الجهادية في حزب الدعوة" وتمت تحضيرات العملية من قبل المخابرات السورية مع منظمة أمل اللبنانية.
وكانت الساحة اللبنانية البداية بالنسبة لتدخل إيران في مجال الخطف الخارجي حيث تم في العام 1982 اختطاف (96) أجنبياً في لبنان بينهم (25) أمريكياً فيما يعرف بـأزمة الرهائن التي استمرت 10 سنوات ولم يتم إطلاق سراحهم إلا بعد عزل العراق بموجب سلة غير مسبوقة من قرارات مجلس الأمن الدولي بسبب دخوله إلى الكويت، وعقد صفقات سياسية ومالية و عملياتية.
وسوم: العدد 718