ممانعة عبد الإله بلقزيز التضليلية بمواجهة ثورة الربيع العربي، في كتابه ما بعد "الربيع العربي"
يتكوّن الكتاب من مقدمة أنكر فيها الكاتب عدّ "الربيع العربي" ثورة، لأنّ شبابها هدموا بنى اجتماعيّة، وأوصلوا الحياة السياسية العربية إلى أقصى درجات الانحطاط، إذ انتقل العرب من عصر الدولة إلى عصر الإمارات والطوائف والقبائل، وتحوّلت الأحزاب إلى ميليشيات.
ثمّ استهلّ كتابه بأسئلة تتعلق بعملية التغيير المنشود منذ خواتيم عام 2010، ووصف الحماسة للتغيير بعنفها وعنفوانها اللاعقلانيين بالصادمة والمخيّبة والسوداوية، التي أدخلت النّاس في شعور اليأس الممزوج بانكسار لعاملين: نفسي، يتعلق بالمزاج الجمعي العربي المحبط والمنكسر نتيجة الاستبداد والفساد والفقر والتهميش قبل ثورة تونس، والافتقاد لوجود معارضات سياسية معوّل عليها. وثقافي يفسّر الانعطاف الحادّ من الانتصارية إلى الانكسارية نتيجة الثقافة السياسية القصووية والشعاراتية مع الاستخفاف بالمسألة البرنامجية، إضافة إلى العفوية والتحريضية. وتناول مفهوم التغيير الثوري المتضمن تغييرًا شاملًا للبنى والعلاقات الاجتماعية – الاقتصادية المترافق مع تغيير علاقات السلطة وتركيبها الطبقي، كما ذكر عدم تطابق "ثورات" السنوات الخمس الأخيرة مع مفهومه للتغيير الثوري، حيث أنّ هذه الثورات لم تمسّ نظام العلاقات الإنتاجيّة ومواقع السيطرة فيها. وذكر أن أخطر مظاهرها العنف المسلّح الذي يجب ألاّ ينتهج إلاّ في مواجهة المحتل الأجنبي، أمّا في الداخل فتوسّله آيلٌ بالبلاد إلى الفتنة والحرب الأهلية واستباحة الوطن أمام التدخلات الخارجيّة. ثمّ أعفى الحركات الاحتجاجية الشبابية من مسؤولية اتساع الفجوة بين المطالب وإمكانية تحقيقها نظرًا لخبراتها الصعيفة، ويحمّل المسؤولية لقيادات حزبيّة منظّمة انضمت إلى الحراك بعد انطلاق موجاته، عدا الإخوان المسلمين في مصر الذين انساقوا مع شعار الشباب بإسقاط النظام وهم على دراية أنه لن يتحقق، وأوحوا للناس أن الديمقراطية تساوي صناديق الاقتراع.
عدّ الكاتب دولتي المغرب وسلطنة عمان ناضجتين، إذ استجابت السلطتان فيهما لمطالب الإصلاحات السياسية بحنكة وحكمة فضمنتا الاستقرار، ثمّ ذكر النتائج السلبية لـ "الربيع" وهي: الجنوح للعمل المسلّح الذي أدى إلى الفتنة والحرب الأهلية والصراع العصبوي الطائفي والمذهبي والقبلي...، والسماح بتدخلات خارجية، والدخول في متاهات إسقاط الدولة والمجتمع وتدمير مقدراتهما، وتغلغل قوى الإرهاب في الداخل العربي، ثم أضاف تجهيل جيل بكامله نتيجة حرمانه من التعليم والتربية، وتوليد الإسلام الحزبي. وذكر إيجابياته بـ: يقظة القوى الشبابية وازدياد فاعليتها، وطرح بعض ممنوعات السياسة في الحياة العامة العربية، وإزاحة أنظمة فاسدة من السلطة، وانهيار حاجز الخوف من الاستبداد، وعودة الناس إلى السياسة، وازدياد الوعي بأهمية الدولة واحترام رموزها كالجيش والقضاء. وشدّد الكاتب على ضرورة استخدام الوسائل السلمية المدنية في عملية أيّ تغيير، وعدم حمل السلاح إلاّ في وجه المحتلّ الأجنبي، والاسترشاد برؤية برنامجيّة سياسيّة مرتكزة على توافقات جامعة، والتنظيم للحركة الاجتماعية لأنّ العفوية رديف الفوضى، والتقليص من دائرة خصوم الحركة الاجتماعية التغييرية والتقليل من جبهات الصراع، ونشر ثقافة سياسية ديمقراطية في المجتمع.
أشاد الكاتب بشجاعة الذين سكنوا الساحات صادحين بأصواتهم عبر الميادين مطالبين بالحرية، ولكنّ الخسائر كانت كبيرة وذكر منها: دول تتفكك، وموت فائض عن الحدّ، فتن وحروب وعصبيات، إرهاب يزحف، وجيوش تُستنزف، وآثار تنهب، مهجّرين وجرحى ومعتقلين... ثمّ حذّر من ثقافة عفوية الشارع التي وصلت إلينا متأخرة بمناسبة انتفاضات "الربيع" ودخلت من طريق قوى التمويل الأجنبي والإعلام المرتبط بها. وأشار إلى أن العفوية والإضراب عن التنظيم وخصام الحزبية السياسية آل إلى فراغ رؤيوي وبرنامجي وإلى العدمية والتلاشي للشباب أمام قوى منظّمة كالإخوان المسلمين، وكالسلطة والجيش والأحزاب والبيروقراطية ، فانتصر التنظيم على العفوية وآلت إليه المقاليد.
قسّم الكاتب تجارب "الربيع" إلى: التي أسقطت النظام سلميًّا وهي تونس ومصر، والتي أسقطت رئيس الجمهورية من دون النظام في اليمن، وفي المغرب وسلطنة عمان والبحرين والأردن ولبنان حافظت على الطابع السلمي المدني بمطالبها، بمقابل انحراف الانتفاضة نحو العسكرة في سوريا وليبيا كماهي في العراق، ويجزم بعدم فعالية العسكرة بمواجهة الأنظمة في مجتمعات هشّة البناء تفتقر إلى الاندماج الاجتماعي، وآية القول: إنّ تسليح الانتفاضة أدّى إلى الموت الجماعي والتهجير القسريّ وخراب الاقتصاد وتمزيق الروابط الاجتماعيّة واستباحة الوطن أمام التدخلات الخارجية... ثم يذكر خطورة إقحام الدين في العمل الاجتماعي الذي يولّد ديناميّة انقساميّة داخل الجماعة على عكس دوره التوحيدي بمواجهة المستعمر الأجنبي. ونبّه لوجود فوارق بين بلد وآخر في مستويات الاندماج الاجتماعي تبعًا لثلاثة عوامل هي عامل المواريث التاريخية، والعامل الكولونيالي الذي رعى استراتيجية التقسيم ومثالها سايكس بيكو، وعامل البناء الوطني الداخلي بظلّ الدولة الوطنية العربية المستقلة. واستنتج أنّ النجاح الذي حققه "الربيع" في مصر وتونس ليس صدفة، بل لتمتع هذين البلدين بقدر من الاندماج الاجتماعي، ولخلوهما من أسباب الانقسام طائفيًّا أو عشائريًّا، على عكس لبنان والعراق والسودان وسوريا وليبيا.
ثمّ ذكر أنّه لم يتحقق تطابقًا بين الدولة والأمة في الوطن العربي سوى قي القرنين الأول والثاني الهجريين، ثم تعدّدت فيه الدول والممالك، فظاهرة التفكك والتجزئة عريقة، وفكرة الأمة ظلّت أكبر من فكرة الدولة في الوعي العربي إلى أن اكتسبت معنى قوميًّا حديثًا في القرن العشرين. وقد ترافق مع اندحار السلطنة العثمانية ازدياد النفوذ الغربي في البلدان العربية من طريق الادعاء بحماية الأقليّات، ثم تقاسمت فرنسا وبريطانيا مناطق الاحتلال بإجراء جراحة كولونيالية تقسيمية استهدفت الأمة العربية زارعةً ألغامًا موقوتة يفجّرونها بحسب مصالحهم، وصمموا جامعة الدول العربية تحت سقف السياسات الكولونيالية، ثمّ أقاموا دولة إسرائيل. وعرض لسياسة إعادة ترتيب المنطقة على مقتضى مصالح أمريكا وحليفاتها منذ سبعينيات القرن الماضي، فتغيّت بتفكيك الدولة القطرية وتقسيم الشعب الواحد إلى جماعات أهلية منفصلة، أما في مصر فالنسيج الوطني والاجتماعي متماسك فامتنع التقسيم على الرغم من ديمومة حلم الدوائر الإمبريالية والصهيونية بإسقاطها مع دورها المركزي المصطدم بوطنية مصرية عالية.
ثمّ انتقل لقراءة مشروع هندسة أمريكية لمنطقة الشرق الأوسط ورسم خرائط كيانات جديدة مع انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي مرّ بخمس محطات وهي: حرب عاصفة الصحراء على العراق عام 1991، ومؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وأوسلو ووادي عربة في عام 1993، وعقد مؤتمرات دورية للتنمية لتوليد تعاونًا مع إسرائيل، وغزو العراق 2003، ثمّ الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 . وكان: "الربيع"المناسبة المثاليّة للذهاب بسياسة الفوضى الخلّاقة إلى ذروة يصبح معها الانحدار مآلًا وحيدًا للكيانات العربية. وقد توسلت أمريكا توليد ولاءات جديدة بديلًا عن الولاء للدولة مفردة الكيان الصهيوني لتحقيق استراتيجيتها، إضافة إلى الأدوات العربية المحلية المناهضة للأنظمة الوطنية، ثمّ تدخلت عسكريًّا، ونجحت في تقسيم السودان وتمزيق لبنان وتدمير الدولة في العراق وتمزيق سوريا...، ثمّ عدّد الكاتب التدخلات والغارات العسكرية الأمريكية طيلة نصف قرن.
وأكّد بلقزيز أنّه منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن بدأت الولايات المتحدة بخيار التفجير الداخلي للأوضاع العربية، وذلك لسببين: أولهما، أقلّ كلفة من حروبها المبا شرة في الأموال والأرواح، وثانيهما، إلهاء الشعوب عن مواجهة قواتها المحتلة.
ثمّ كانت الانتفاضات التي بدأت بمطالب إصلاحيّة وتحوّلت إلى حركات مسلحة وميليشيات مستوردة، واستنزفت الأنظمة ومزقت النسيج الاجتماعي الداخلي بعد تدمير الدولة ومؤسساتها وأحيت التكوينات العصبوية التقليدية، وأورد مثالًا سوريا، دون أن يشير إلى تحوّل السلطة السورية إلى فصيل طائفي يقاتل فصائل طائفية آخرى، نتيجة سوء معالجتها لفعاليات حراك الثورة السورية السلمية في السنة الأولى من عمرها. ثمّ يؤكّد أن أهم أهداف أمريكا هو كسر جيش الدولة، وليس صدفة أن خمسة جيوش عربية تعرّضت للتدمير (العراق، ليبيا) أو الاستنزاف (الجزائر، سوريا، ومصر)، مع سكوته عن إرهاب السلطات الشمولية العربية واستبدادها والدور الداخلي الأساس في تفسير مجريات أحداث ثورة الربيع العربي .
إن مشروع التفكيك الأمريكي يجدد السايكسبيكويه التي مزقت أواصر الوطن العربي وانشأت دولًا على أساس الجغرافيا السياسية، واليوم يتطلع الأمريكان لتجزئة المجزّأ على أساس الجغرافيا الأنثروبولوجية وإنشاء كيانات سياسية أصغر. ثمّ يستنهض الكاتب موارد المقاومة لإسقاط المشروع الأمريكي، ويذكُر المقاومتين اللبنانية والفلسطينية كطليعتين في مواجهة المشروع الكولونيالي التفكيكي، ومن جديد يخفي دور حزب الله وإيران في جرّ المنطقة لصراعات طائفية توافقًا مع توجهات السياسة الأمريكية والإسرائيلية.
يحيل الكاتب مطالبة المتظاهرين بالخبز والكرامة والحرية لمحض الصدفة، وقد ترجموا توقهم الجماعيّ لكسر الحيف والتهميش والفاقة أملًا ببناء نظام اجتماعيّ جديد. وينذر بتكرار الانفجارات الاجتماعية إذا لم يتمّ تدارك عواملها الاجتماعيّة بالتصحيح لتضمن حياة سياسية طبيعيّة. كما ذكر استغلال عبارة (الإسلام دين ودولة) وادّعاء النخب الحاكمة أن شرعيتها مستمدة من الدين، فردّت عليها الجماعات الإسلامية بنفس أسلحتها وعدّتها مجافية لأحكام الشريعة؛ ثم وضّح كيف أنّها فهمت الإسلام من خلال السلاح معلنة الجهاد على السلطة الكافرة؛ فأدخلت المجتمع برمّته في نفق الموت الجماعيّ، وشاركهم علمانيون انتهازيون قصد تغيير النظام بالقوة.
عدّ الكاتب أن النظام الإقليمي العربي يعيش أزمة بنيوية عميقة، وكشف"الربيع"عن أسوأ مخبوءاتها، مذكّرًا بخطورة العنف الذي يعبّر عن أزمة السلطة وأزمة المعارضة التي إذا غُيّبت عن الفعل السياسي، فتتخلّق معارضة متشددة ومسلّحة.
كما تناول أهم أسباب أزمة المعارضات العربية ومنها: فقدانها للمشروع السياسي، وفقرها إلى ثقافة سياسية، والفقر الحاد إلى القيم الديمقراطية، وعلاقتها الموسمية بالجماهير، والتكوين العصبوي لها، واستغلال الدين في السياسة.
ثمّ يعرض للطبقة الوسطى حاضنة السياسة التي تزداد مساحتها طردًا مع تعاظم أدوار الطبقة والعكس صحيح. ويذكر أنّ أزمة الاجتماع السياسي العربي ناجمة من إخفاق بناء الدولة الوطنية الحديثة، وحدّد أبرز علاماتها السياسية: انصرام المدّ القومي 1967، واجتياح اسرائيل للبنان 1982، وصعود التيار الإسلامي بدءًا من الثورة الإيرانية عام 1979، موجات الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، وانهيار الشيوعية، فالعدوان على العراق عام 1991، ومؤتمر مدريد 1991... وتحدث الكاتب عن المعارضات اليسارية الفاقدة لهيمنتها على المنظمات الشعبية والنقابية...نتيجة انشقاقاتها التي أفقدتها وحدتها التنظيمية، فتهالكت مع موسم الانتفاضات العربية وكانت الأضعف أمام الأنظمة السياسية المقاومة للتغيير المدني باستماتة، والقوى الشبابية المدنية التي أطلقت الحراك، والقوى الإسلامية التي ركبت أمواجه، والجماعات المسلّحة الإرهابية، فالتحقت بتلك القوة أو تلك. ويقدّم عرضًا لتطور المعارضات العربية منذ بداية القرن العشرين. وذكر الخيبات ابتداء من مصر ماي 1971، مع تزايد تسلّط الأنظمة التقدمية وقمعها للحقوق والحريات، التي أدّت إلى نزعة ليبرالية فاحشة، ثم ذكر التماهي مع الديمقراطية الليبرالية والتخلّي عن خيار الثورة... إلى أن بدأت الحركات الشبابية المدنية في احتجاجاتها مطالبة بالإصلاحات وصولًا إلى إسقاط النظام، ثمّ انخرطت المعارضات الراديكالية في قرقعة السلاح انخراطًا رمزيًّا، وسلكت الدروب المتعرّجة للصدام الأهلي الذي تحوّل إلى حرب مجنونة مطلقة العفريت الطائفي والقبلي من قمقمه، فمات مئات الآلاف وجرح وهجّر الملايين...
برّرت بعض المعارضات العربية تعاونها مع الأجنبي بطغيان الاستبداد والاضطهاد والبطش بقادتها وقواعدها واعتقالهم ونفيهم متناسين أنهم يعرضون استقلال الوطن وسيادته إلى الانهيار والسقوط.
ويختم بضرورة استيلاد سياسات مختلفة عن توجهات المعارضات التي كسرت كل المحرمات فاشتغلت مع الدوائر الأمريكية والبريطانية منذ ثمانينات القرن الماضي، كالمؤتمر الوطني العراقي الذي تكوّن مع البرنامج الأمريكي لتحرير العراق منذ تسعينيات القرن الماضي وبمساعدة إيران، ثمّ عمّمت الحالات العميلة في المعارضات العربية خارج العراق برعاية أموال وسياسات عربية جهلاء.
[1] - عبد الإله بلقزيز، ما بعد "الربيع العربي" (المركز الثقافي للكتاب: الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2017
وسوم: العدد 719