حتمية التاريخ أن ينال العلماء والدعاة الربانيون نصيبهم من الأذى لأنهم ورثة الأنبياء
اقتضت إرادة الله عز وجل أن تجعل للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ورثة يرثون عنهم العلم الذي علمهم الله عز وجل من أجل هداية الخلق إلى الحق. والعلماء وهم دعاة كالأنبياء إلى الحق يعتبرون استمرارا للنبوة في كل عصر ومصر يوجدون فيه لأن إرادة الله عز وجل اقتضت ألا تنقطع النبوة ووراثتها في عصر من العصور أو مصر من الأمصار حتى لا تكون للناس حجة على الله عز وجل حين يجمع الخلق ويسائلهم ويحاسبهم عما كسبوا في حياتهم الدنيا ، وأول سؤال يطرحه على الخلق (( ألم يأتيكم نذير )) ولا يملك جميع الخلق إلا الجواب ببلى وهو جواب إقرار يؤكد أن رسالة الله عز وجل للبشرية قد بلغت إما بواسطة الأنبياء أو بواسطة ورثتهم من العلماء . ولقد ثبتت وراثة العلماء وهم دعاة ، ولا ينتصب للدعوة إلا عالم أو آخذ علم عنه في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . أما كتاب الله عز وجل فقد ورد فيه : (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم )) كما ورد فيه : (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) كما ورد فيه أيضا : (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) . هذه نصوص قرآنية تزكي العلماء وهم أهل للشهادة وهم أخشى العباد لله الذين يسألهم الناس عن علمه ، وهم بذلك مراجع بتكليف منه عز وجل . وأما السنة فقد ورد فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " كما ورد في السنة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير " هذان النصان يؤكدان وراثة العلماء للأنبياء وفضلهم على الناس بسبب هذه الوراثة . ولما كان الله عز وجل قد جعل أنبياءه إسوة وقدوة للخلق ، فإن الذين يرثونهم يكونون إسوة وقدوة للخلق أيضا . ولما كان الأنبياء عبر تاريخ البشرية قد تعرضوا للأذى وهم يؤدون واجبهم في هداية الخلق لإخراجهم من ظلمات الجهل والهوى إلى نور العلم والحق ، فإنه لا مفر لورثتهم من أن ينالوا نصيبهم من هذا الأذى وهم يقتفون أثر الأنبياء في مهمتهم. ولقد قص علينا القرآن الكريم أنباء الأذى الذي لحق الأنبياء ، ومن ذلك قوله تعالى : (( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله )) فحتمية التاريخ أن يلحق الأذى برسل الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وحتميته أيضا أن ينال ورثتهم من العلماء نصيبهم من الأذى كل حسب نصيبه من الإرث النبوي ، وأكثر العلماء تعرضا للأذى أكثرهم إرثا نبويا . وإذا كان نصيب الأنبياء والرسل أشده ، فإن ورثتهم من العلماء يتفاوت نصيبهم من الأذى حسب نصيبهم من الإرث النبوي . ومعلوم أن الأذى قد يصغر فيكون ضررا غير جسيم ، وقد يعظم فيكون ضررا بالغا . ولقد بلغ أذى خليل الله إبراهيم عليه السلام قمة الضرر حين ألقي في النار ، وكم من نبي قتل ، وذلك منتهى الأذى . ولقد سجل التاريخ البشري أنواع الأذى البالغ الذي لحق بورثة الأنبياء من العلماء ، وقد قتل منهم عدد كبير ، وذاق منهم عدد كبير شتى أصناف الأذى (( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما استكانوا والله يحب الصابرين )) . ومعلوم أن أشكال الأذى اللاحق بالعلماء والدعاة تختلف حسب العصور والأمصار ، وما يكون فيها من طغاة و جبابرة وظلمة يقلقهم العلماء والدعاة الذين يعملون على تخليص الناس من طغيانهم وجبروتهم وجورهم . ولا يوجد جبار طاغية إلا ولحق أذاه العلماء والدعاة . ومن أنواع الأذى الذي يلحق العلماء والدعاة تلفيق التهم الباطلة لهم ونهش لحومهم من طرف الطغاة وسفهائهم الذين يسلطونهم عليهم . وفي كل عصر تقدّ لورثة الأنبياء تهم حسب أهواء الطغاة . ولقد قدّ فرعون طاغية زمانه تهمة لنبي الله موسى عليه السلام ، و سجل القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى على لسان فرعون : (( ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد )) . بهذا المنطق يتحدث الطغاة في كل زمان ومكان. وفي زماننا هذا وهو من أسوأ الأزمنة حسب ما نعاينه من سوء أحوال البشر خصصت لورثة الأنبياء تهمة العصر وهي تهمة " الإرهاب " حيث يتهمون بأنهم ينظرون له ، وأنهم يتحملون بذلك مسؤولية الذين يرهبون الناس من خلال ممارسة العنف الأعمى . ولقد انطلقت هذه التهمة من دولة إسرائيل التي اتخذت منها ذريعة لمواجهة المقاومة التي تهدف إلى طرد الاحتلال الصهيوني من الأرض المغتصبة بالقوة . وعن الكيان الصهيوني تلقف أنصاره استعمال وتوظيف مصطلح "إرهاب " وتم تمطيطه ليشمل كل من يعارض الاحتلال الصهيوني . ومن أجل إضفاء الصبغة الشرعية على هذا التمطيط بثت عصابات إجرامية عمدا وعن سبق إصرار في منطقة الشرق الأوسط بعد زعزعة استقرار بلدانه بدءا بغزو العراق ، وهي عصابات أريد لها أن تمارس الإجرام والعنف والإرهاب باسم الدين الإسلامي ليسهل تمطيط مفهوم الإرهاب، ويشمل كل من له صلة بهذا الدين ولو كان معارضا لإجرام تلك العصابات ومنددا به . ومعلوم أن اتهام علماء الأمة الربانيون بتهمة " الإرهاب " عبارة عن مؤامرة مكشوفة من أجل إلحاق الأذى بهم لأنهم يعارضون الاستبداد والطغيان الذي يتهدد المسلمين في أقطارهم ، ويهددهم في عقيدتهم ومعاشهم . ولقد سجل الوحي أن الذين يؤذون الأنبياء وورثتهم العلماء إما كفار أو منافقون حيث قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : (( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )) فهذه الآية تدل على اجتماع الكفار والمنافقين على إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك شأنهم مع ورثته من العلماء في كل عصر ومصر . ولهذا العصر كفاره ومنافقوه من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأفواههم وقلوبهم مع ملة الكفر . ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع أذاهم ، ووقف المفسرون عند دلالة هذا الأمر الإلهي ، فرأوا أنه يحتمل الحقيقة والمجاز ، فإذا فهم على حقيقته كان الأمر بعدم مقابلة أذى الكفار والمنافقين بمثله ، وإذا فهم على مجازه كان الأمر عدم الاكتراث والاغتمام بما يصدر عنهم من أذى . وقد ذهب بعضهم أن هذا الأمر الإلهي يفهم على حقيقته ومجازه معا ، وهو الأصوب لأنه ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاري الكفار والمنافين في الأذى بالرد عليهم بالمثل وهو الذي شهد له رب العزة بأنه كان على خلق عظيم . وما ينبغي لورثته من العلماء من بعده أن يخالفوا سنته في التعامل مع أذى الكفار والمنافقين . ومعلوم أن أذى الكفار والمنافقين للعلماء في هذا الزمان عبارة عن استفزاز لهم للرد عليه بالمثل، وذلك لإقامة الحجة عليهم ، والنيل منهم . وما دام أذى هؤلاء للعلماء في هذا العصر هو إلصاق تهمة " الإرهاب " بهم ، فإنهم يهدفون من وراء ذلك إلى إيقاع العلماء في الرد على تهمتهم بمثلها بشكل أو بآخر قد يفسر افتراء عليهم بأنه دعم وتشجيع للإرهاب . وهذا ما حصل بالفعل حين ألصقت تهمة الإرهاب بحركة المقاومة الإسلامية حماس ، وهو اتهام مصدره الكيان الصهيوني ، وألصقت نفس التهمة بالعلماء الذين يؤيدون هذه المقاومة المشروعة بالكتاب والسنة . وإذا كان أعداء الإسلام من كفار و من يجاريهم ممن وضعوا أنفسهم في خانة النفاق بهذه المجاراة يلصقون تهمة الإرهاب بالعلماء ، فإن هؤلاء العلماء ملتزمون بالتوجيهات الإلهية وهي الصبر على الأذى وعدم الاكتراث والاهتمام به ، وعدم الرد عليه بمثله ، وقد تكفل الله عز وجل بالدفاع عنهم وهو وكيلهم بل أكثر من ذلك آذن بالحرب من يعاديهم كما جاء في الحديث القدسي : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " . وليبشر الذين يؤذون أولياء الله عز وجل من ورثة الأنبياء بحرب من الله جبار السماوات والأرض الذي لا غالب إلا هو .
وأخيرا بقي أن نشير إلى طائفة من المتجاسرين على العلماء والدعاة في هذا العصر من المحسوبين على المسلمين ، وهو تجاسر سببه الأهواء والمصالح والأطماع . والمتجاسرون على العلماء من الطماعين إذا أعطوا رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون، وينالون من العلماء بسبب ذلك ، نقول لهؤلاء إنكم تصيبون لحما مرا ، وإنكم على ضلال وأنتم تظنون أنكم على صواب لركوبكم غروركم ، وطالما أهل الغرور راكبوه، وعليكم يصدق قول الشاعر :
ولورثة الأنبياء نقول ما قاله الشاعر أيضا :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .
وسوم: العدد 724