أشقاءَنا في لبنانَ و العراق: دوامُ الحال من المُحال
ليس مِنَّةً أن نقول: عندما قامت حرب تموز في عام ( 2006م)، فتحَ السوريون بيوتهم لإخوانهم اللبنانيين، و أصبحتَ ترى سياراتهم تجوب طول سورية و عرضها، و أخرج السوريون ـ على ما فيهم من عُسرٍ و ضيق ـ ما ادَّخروه من متاع الدنيا، و ألقوه في أحضان إخوانهم المكلومين، بسبب بطش آلة العدوان الهمجية.
و ما زلتُ أذكر عندما جاءني أحدُ أبناء منطقتي، و ألقى إليَّ بصُرَّة كان فيها من ( الفكَّة ) أكثر ممَّا فيها من المئات و مضاعفاتها من الليرات السورية، و ألحَّ عليَّ أن أوصلها إلى القائمين على اللجنة المكلفة بإيصال المساعدات للأشقاء اللبنانيين، و لمَّا طلبتُ منه أن يحتفظ بها لعياله المساكين، قال بنبرة حزينة: ( يا أخي هذا كل ما خبئته للأيام الجاية، الله يوفقك لا تخجلني ).
أرأيتُمْ نُبْلَ أهل سورية، و كرمَ أخلاقهم، و طيبَ مَعدِنهم؟
و طبعًا لن أفيض في بيان ما كانت عليه الحال عندما وقع جيرانُنا في العراق تحت نير الاحتلال الأمريكي، و كيف غصَّت ( حلب، و دمشق )، و باقي المدن السورية بما يقرب من مليوني مهاجر عراقيّ.
لا شك أنه قد ظهرت حالات من الانتهازية، من بعض ضعاف النفوس الذين وجدوا في ذلك فرصة سانحة للكسب المادي من خلال محنة هؤلاء؛ إلاَّ أن عموم أبناء سورية قد أظهروا من الخصال الحميدة ما فاجأ القاصي و الداني.
لقد أسكنوهم في بيوتهم المعدَّة للإيجار بمبالغ رمزية، و أصبح أصحاب البقالات، و الدكاكين يبيعونهم ( دَيْنًا ) كما لو أنهم يعرفونهم من سنوات طويلة، و ما زلت أذكر قصة كانت لأحد معارفي، جرت مع أحد هؤلاء الضيوف: و ذلك أنَّه بينما كان في طريقه إلى بيته، وقف ليتبضَّع ما يصنع منه طعامه، فوجد شخصًا بجواره، و عرف من خلال لهجته أنه من العراق، فسلم عليه، و أصرَّ على أن يصطحبه ليتغدّى معه، فكان ذلك.
و الطريف في الأمر أنه أبقاه عنده عدة أيام، و هو لا يعرف عنه إلاَّ أنه ( أبو ثامر )، و لمَّا عاتبناه على هذا ما قام به: إذْ كيف يأتي برجل، و يدخله بيته، و لا يعرف أصله و فصله، قال: يكفي أنه من العراق، و العراق أفديه بدمي، و مالي.
هذه هي أخلاق السوريين، و هكذا هي طباعهم، لا يضنّون بما في أيديهم من أجل الغريب، و لاسيّما عندما يعرفون أنه من أهل المصائب، و النكبات.
و لكن تعالَوْا بنا لنرى ما حلَّ بهم عندما ضاقت بهم أرضُه بما رحُبَتْ، و اضطُرَّوا إلى اللجوء إلى بلدان الجوار، لقد كان من نكد الأيام عليهم أن يجدوا من قاسموهم لقمة عيشهم قد تلفَّعوا دِثار الطائفية المقيتة في ( لبنان، و العراق )، و سخَّروا ما ملكوا من ذرابة اللسان، و حبر الأقلام، لا بل حتى السلاح، لينكؤوا بها جراحهم، بعدما أتى عليهم الزمان، فأَجلسَهم على موائد اللئام؛ لذلك عتبنا على إخوتنا في هاتين الدولتين أن يكفُّوا عن السوريين سفهاءهم، فما حلّ بهم يكفيهم، و دوامُ الحال من المُحال، و بُشراهم أنّه سيكون لهم من ذاكرة السوريين نصيب.
و قديمًا قال أحدُ شعراء بني سعد:
وَ مَا الْدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوْنا بِأَهْلِهِ ... وَ مَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فالدهرُ يدورُ بالناس كما يدورُ الدولابُ الذي يُستقَى عليه، و أشدُّ ما يتعذب في هذه الحياة هو صاحب الحاجات؛ لكثرة العقبات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق أهدافه.
وسوم: العدد 728