الأزمةُ الخليجيّةُ، والخياراتُ الصعبةُ أمامَ السّياسة الخارجيّة الأردنيّة
المتابعُ لتقاطعِ التحرّكات الأردنيّة على المستويين الداخلي والخارجي " الإٍقليمي والدولي" معَ محاولاتِ إعادة هندسة المنطقة والإقليم بعد مجيء إدارة (ترامب)، مع دعمٍ لا محدودَ من بعضِ القوى الإقليمية العربيّة، وممانعةٍ من جانبِ بعض الدول الإقليمية، يلاحظُ العديدُ من المفارقات التي تعكسُ حجمَ ما تواجهه الأردنُ من تجاذبات ما بينَ دعاوى تحفيزٍ وجذبٍ، باتجاه محاور تشكّلت، وبينَ عتبٍ وضغوطٍ، وربّما محاصرةٍ إقليميةٍ قادمةٍ .
وعلى خلفيةِ التحوّلات المتسارعةِ على المستويين الإٍقليمي والعالمي، باتَ هناك مجموعة من الثوابتِ المهمّةِ التي تحكم السياسة الخارجية الأردنية، والتي ينبغي أنْ تكونَ حاضرةً في حساباته أكثرَ من السابق، تتمثلُ في دعم الجبهة الداخلية ووحدتها، وتماسكِ النسيجِ الاجتماعيّ، وحمايته من أية ارتدادات وهزّات محتملة ومتوقعة، وهذا اتضح من خلال تعامل الدولة بشقها الأمني والسياسي مع حادثة الجفر، وممارسة ضبط النفس في التعامل معها، إلى جانب قضية السفارة الإسرائيلية التي جاءتْ مفاجئةً للدولة الأردنيّة، وأربكتْ خياراتها التي كانتْ تسيُر نحوَ إيجاد مقاربة لحفظ التوازن لمصالح الأردنّ الخارجيّة، في وسط هذا الإقليمِ الملتهبِ، بالمقابل يحرصُ الأردنُّ الرسميّ على عدم الانزلاق في أزمةِ الخليجِ الثالثةِ من ناحيةٍ ثانيةٍ، ورفض الانخراط في المحاورِ الإقليميةِ الطارئةِ التي تشكّلتْ بفعل تداعيات التطورات البينية الخليجية، وأخذ الدروس وإعادة التقييم لما تمَّ بعدَ حادثةِ الأقصى، فضلاً عن محاولاتِ الأردنّ تدعيم علاقاته الدولية لجهة محاولة وقف الإجراءات الإسرائيلية العدوانية، في ظلّ "غناء الدول العربية كلٌّ على مواله " للتعامل مع هذه الأزمة، لتعزيز صورته أمامَ شعبه، واحتساب نقطة رابحة أمامَ الرأي العام الداخلي وفق حسابات، أبسطَ ما يمكنُ وصفها بأنّها ضيقة .
ولكنْ معَ أهميّة هذهِ الثوابت السياسية الأردنيّة التي تشكلت إلا أنّها في الوقت نفسه من شأنها أنْ تقلّل هامشَ المناورة الأردنية، ولا سيّما تجاهَ ملفّات وقضايا تمسُّ صميمَ المصالح الأردنية، ودورها ومسئولياتها الإقليمية ومعَ الإقرار المسبق، بأهمية إعادةِ تحديدِ ملامح الدور المطلوب، ومتطلباته، وتكاليفه السياسية والاقتصادية والأمنية، فإنّ تحييدَ العديدِ من المتغيرات الدولية والإقليمية الضاغطة ذاتِ التأثير السلبيّ على المصالح العليا الأردنيّة يتطلب زيادة هامش المناورة والتحرك إقليمياً ودولياً للتخفيف من الضغوط التي باتَ يعاني منها الأردنّ؛ وهنا يكمنُ التحدّي، أو المأزقُ ما بينَ متطلباتِ تفعيل الدور، وتحمل تكلفته، وهى كبيرة ومتعددة المستويات والاتجاهات، وبينَ القبولِ بالحدّ الأدنى، والممانعة التي تضعها العديدَ من القوى الإقليمية قبلَ الدوليّة.
يقودُنا ذلكَ إلى التساؤلِ عن جدوى التحرّك الأردنيّ النشطِ على الصعيدين الإقليميّ والدوليّ، وقدرة هذا التحرّك على بلورة أولوياتِ المصالحِ الأردنيّة بدون تكلفةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ باهظةٍ. فلا شكَّ أنّ المحافظةَ على الثوابتِ الأردنيّة، قديمًا وحديثًا، قد كلّفَ الأردنَّ الكثيرَ من التضحيات والتأثيرات التي ما تزالُ تداعياتها قائمة (جمود عملية السلام بسبب التعنّت الإسرائيلي، وصول إدارة جمهورية جديدة برؤيةٍ داعمةٍ لإسرائيل" إدارة ترامب "، وتغليب منطقِ الربحِ والخسارة في علاقات أميركا الخارجية، ورفض الأردنّ الانضمام للأحلاف الطارئة، وتكاليف ذلك عليها في حال تصاعدِ حدّةِ الأزمة : حلف دول الحصار ومصر ضدّ قطر، وقضية سمعة هذه الدول " المحور السعودي " لتحقيق مطالبها من قطر بحيث باتتْ على المحكّ، واستمرار (عاصفة الحزم)، واستنزاف السعودية والإمارات فيها، إلى جانب معركة كسر العظم مع الدوحة اقتصادياً ومالياً، وتبعات ذلك على عملية تعهد الرياض وأبوظبي، في ضمان استمرار تدفق المساعدات على الأردنّ، وهل يضعُ الأردنُّ ذلكَ ضمنَ حساباته الخاصّة، إلى جانب مساعي (واشنطن) المحمومة لغرف الصناديق السيادية الخليجية بحجج وذرائع ما أنزل الله بها من سلطان وانعكاسات ذلك على الأردنّ .
لا شكَّ بأنَّ التمايزات والتضارب في المصالح الأردنية الحالية إقليمياً ودولياً أصبحتْ ظاهرةً للعَيان، مما سيربكُ معهُ حسابات صانع القرار السياسيّ، ويؤثرُ على مسار بوصلة أهدافه الخارجيةِ، وربّما هذا قد يقوده إلى إجراء عملية مقايضة للمواقف الأردنية، والتي من شأنها أنْ تطرحَ معضلة "أزمة الخيار" ما بين القبول بتهميش وحصار الموقف الأردني، وبينَ الاشتباك والتداخل في العديد من الملفّات التي تحملُ تكلفةً سياسيةً وربمّا إستراتيجية، كما تعكسهُ عملية التجاذب التي تتعرضُ لها الأردنُّ في مسألة القضية الفلسطينية، والأحلاف الطارئة التي تشكّلتْ، وسعيها لاستعادة مكانتها في قضايا المنطقة وأزماتها الطارئة .
ومن الواضحِ أنّه ليسَ مسموحًاً ولا مقبولًا دوليًا وإقليميًا أنْ يرسمَ الأردنُّ دوره، وتحركه بعيدًا عن التجاذبات الإقليمية القائمة أولاً والدولية ثانياً، ولا أنْ يصيغَ موقفًا عربيًا مشتركًا تجاه أي قضية، حتّى الفلسطينية رغمَ وجود ثابت في الموقف العربيّ، لكنْ جرى اختراقها؛ فالأولوياُت والمصالحُ والمخاطرُ متباينةٌ بينَ الدول العربية نفسها، حتّى التي كاَن من المفترض أنّها متحالفٌة مع الأردنّ، وهو ما تجلّى بوضوح في محاولات التقارب المحمومةِ معَ إسرائيل، وهو يعكسُ وضعاً معقّداً للغاية بالنسبة للأردنّ التّي كانتْ ترغبُ في توظيف ذلك كأوراق ضغطٍ على إسرائيل خدمةً لخيارات الحلّ بالنسبة للقضية الفلسطينية .
وبالتّالي، فإنّ التحدّي القائم حالياً يتلخّصُ في القدرة على بلورة رؤية سياسية وانتهاج إستراتيجيةٍ واضحةٍ تعكسُ مسارَ التحرّك الأردنيّ وسطَ ألغام الأزمات والملفّات المتشابكة والمتشعبة بأطرافها وقضاياها، فلا يمكنُ الآنَ فصلَ ملفّات القضية الفلسطينية، والأزمات المتفجرة في سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا عن بعضها البعض، ولا تحييد تأثير هذه الملفّات على واقع ما تشهدهُ دول المنطقة من مستجداتٍ ومتغيراتٍ، وإنْ كانَ شعارُ مكافحة الإرهاب، وتنظيم داعش هو العنوانُ الأكبرُ الذي جمعَ الدول العربية الخليجية معَ الأردنّ، فإنَّ الصراعَ العربيّ الإسرائيليّ كانَ يجبُ أنْ يكونَ العنوانَ الأكثرَ بروزًا ودافعًا للكثير من التطورات والمستجدات القادمة لتعزيز التضامنِ معَ الأردنّ، خاصّةً معَ "صراخ " الأردنِّ يومياً أنْ المسألة الفلسطينية تمثّل القضية المركزية للعالم العربيّ، والمحرّك وراءَ دوّامة العنفِ، والصراع في المنطقة عموماً .
هذهِ الخريطةُ من الصراعاتِ، وحالات التنافسِ المحمومِ المرتبطة بإعادة توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة هندسة المنطقة تمتدُّ بدورها إلى مساحةٍ أخرى تتقاطع فيها التحدّيات والمخاطر أمامَ السياسة الأردنية؛ فتطوراتُ الوضع في الخليج، ومصر، وليبيا، تشيرُ إلى أنماط أخرى دولية تسعى جاهدةً إلى إعادة هندسة هذه المنطقة مستنده إلى الصراعات البينية والداخلية وعدم الاستقرار، وبثّ الفوضى، وإشغالها عن التعاطي مع الموضوع الفلسطيني المتفجر والمفتوح على كل الاحتمالات، إلى جانب تهميش مطالبات الأردنّ المستمرة بالتركيز على حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية بشكلٍ سريعٍ وحاسم ٍ.
يقودُنا ذلكَ إلى هامش المناورة المتاحِ أمام السياسة الخارجية الأردنية . وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من الملاحظات المرتبطة بنموذجٍ واحدٍ من المسارات التي توضّح، وتفسّرُ حجمَ التضييق، والضغط الإقليمي والدولي على التحركات الأردنيّة تجاه القضايا الإقليمية :
-الملاحظةُ الأولى، تتعلّقُ بحجم الهجوم الدبلوماسي الخليجي للدخول على خط القضية الفلسطينية من خلال موضوع أزمة الأقصى، وبدون تنسيقٍ مسبقٍ معَ الأردنّ، وبشكلٍ غير مفهوم، ولا يهدفُ في الواقع إلى إحداث ضغطٍ على الجانب الإسرائيلي للجلوس على مائدة المفاوضات لإحياء عملية السلام الميتة أصلاً، حيثُ يمكنُ وضع هذا التحرّك في خانة محاولة إضعاف الموقف الأردنيّ، ومحاولة تحقيق هذه الدول لشعبيةٍ آنيّةٍ على حساب الاتجاه نحوَ إعادة التوازنِ في التعامل معَ القضية الفلسطينية، مما فُهم على أنه يهدفُ أساساً إلى محاصرة للدور الأردنيّ ومحاولة إضعافه، لأسباب غير واضحة .
فمحاولاتُ التحفّظ، ورفض الدور الأردنيّ، والسعي إلى تحجيمه، وبالتالي الضغط عليه لأسباب غير مفهومه، وهو ما يمكنُ قراءته من خلال التحركات لحلّ موضوع الأقصى ودون التنسيق معَ الأردنّ .
إنّ التحرّك الأردنيّ في مساحة القضية الفلسطينية من شأنه أنْ يخلقَ حالة من الاحتكاك والتنافس وربّما الصدام مَع بعض الدول العربية؛ ولاسيّما معَ عدم ترحيب بعض الأطراف بهذا الدور.
-الملاحظةُ الثانية : محاولاتُ بعض الدول الخليجية تخفيض مستوى التنسيقِ معَ الأردنّ في الملفّات المتقاطعة والمتشابكة، حيثُ لم يقمِ الأردنُّ بأي دورٍ فيما يتعلّقُ بالأزمةِ الخليجيةِ الحاليةِ رغمَ كونه رئيساً للقمة العربية؛ لأسبابٍ دفعتِ الحرجَ عن الأردنّ من ناحيةٍ، وحجمت من دوره من ناحيةٍ أخرى، وهو ما أريدَ لهُ فعلاً .
-الملاحظةُ الثالثةُ : تكثيف العديد من القوى الدولية والإقليمية لوجودها العسكري والأمني في منطقة الخليج، وتعدّد الأهداف لهذه القوى ما بين توظيف سياسي واقتصادي واستراتيجي، وتعزيزاً للسيطرة من خلال التواجد العسكري المباشر لبعض القوى الإقليمية في منطقة الخليج ذات أبعاد جيو- إستراتيجية من ناحيةٍ ثانيةٍ، على خلفية الأزمة معَ قطر، مما يسهم في تعظيم فرص تطوير علاقات هذه الدول مع المنظومة الخليجية، والذي قد يفرضُ قيودًا ومنافسةً قويةً على مستقبل علاقاتِ الأردنّ معَ دول المنظومة الخليجية؛ ولا سيّما تصاعد الدور المصري من خلال القاعدة المزمع إنشائها في البحرين إلى جانب الوجود التركي العسكريّ المكثّف هناك .
وإذا ما أضفنا إلى ذلك خريطة التواجد العسكري الغربي المباشر وغير المباشر، لظهر حجم التحدّي الملقى على عاتق السياسة الأردنية التي كانت إلى وقت قريب لا تتوانى عن الوقوف مع الأشقاء الخليجين في هذا المجال والتي كانت تشكّل ورقةً رابحةً توظفها عمّان في علاقاتها الخليجية .
-الملاحظةُ الرابعةُ : إنّ انفجارَ الخلافات الخليجية – الخليجية، وعملية التراشق غير المسبوق، إلى جانب تسريبات إعلامية عن تبادل معلومات استخباراتية لكل طرف لإدانة الأخر، والمسارعة لتقديمها إلى المنظومة الدولية، خدمةً لمصالحها، وما تفرضُه الأزمة المتفاقمة من أطرٍ للتدخل، دونَ الحديث عن إيجاد مخارج حقيقية وبناءة للأزمة، فضلاً عن ما تقوم به الإدارة الأمريكية من جهودٍ حثيثةٍ، وغير مسبوقةٍ؛ لتغذية مصدر التوتر بينَ الأشقاء الخليجين، وإبقائها على صفيحٍ ساخنٍ، مما يتطلبُ منَ الأردنّ إعادة النظر في التعاون الخاص بمجال الاستخبارات، وتبادل المعلومات مع الدول الخليجية في هذا التوقيت بالذات خشية من توظيفها في حالة السجال السياسيّ الخليجيّ الحاصل، الأمر الذي قدْ يؤدّي إلى تسريبها، وانعكاس ذلك سلباً على أمن الأردنّ .
هذا التنافس والتكالب على هذه المنطقة، يُوضّح مدى تعقّد وتشابك مسارات التحرّك الأردنيّ في هذه المرحلةِ الصعبةِ التّي تمرُّ بها المنطقة، والتّي ما تزالُ تداعياتها قائمةً، وما ملفّ التدهور الحاصل في العلاقات البينيةِ الخليجيةِ، بكلّ مخاطره وتهديداته إلا مظهر واحد من تشابكات متعددة تعكسها أنماط العلاقات والتفاعلات مع هذه الدول من جانبٍ، وبيئةٍ تنافسيةٍ عاكسةٍ لجملة من التحديات والمخاطر التي تلقي بظلالها وتداعياتها على دورِ الأردنّ، ومصالحه وأمنه واستقراره من جانبٍ آخرَ.
د. نبيل العتوم
رئيس وحدة الدراسات الإيرانية
مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 732