في ذكرى رابعة ، هل كان من الممكن اجتناب المجزرة ؟
تحل علينا هذه الأيام ذكرى فض اعتصام رابعة العدوية بما تحمله من قصص الآلام و الأوجاع و الوحشية و في ذات الوقت الصمود و الثبات و التضحية و الفداء ، كل هذه المعاني المتناقضة تجمعت على أرض رابعة الطاهرة فيما مشهد لن ينساه أحد أبد الدهر ، اللهم الا أصحاب العقول و الضمائر الصدئة .
في رابعة كان قدر الله لي أن أكون موجودا يوم الفض أعيش لحظاتها الطويلة كما عاشها الجميع حينها ، و أشاهد أحبة لي وهم يسقطون بين شهيد و جريح و لا زلت على هذا الحال حتى أصابتني رصاصة غادرة في ظهري من أحد القناصة عند المنصة قبيل الغروب و ظللت أنزف ساعات طويلة حتى أخرجت من الميدان و لكن الرصاصات كانت تنهال علينا من الكمائن حتى استطعت الوصول الى مكان آمن و للقصة تفاصيل كثيرة ليس محلها هذا المكان .
ذكرت تلك الواقعة لأن السؤال الذي شغلني كثيرا بعدها ، هل كانت المجزرة يمكن اجتنابها ، أم أنه لا مهرب منها ؟
هل كان من الممكن حقن هذه الدماء أم أن ذلك كان مستحيلا ؟
و فائدة إجابة هذا السؤال هي توثيق الواقعة و ملابساتها للتاريخ كما عايشتها ، و ثانيا حتى تستفيد الأجيال القادمة التي يقع على عاتقها انجاز الثورة ، و ثالثا لتتحدد المسئوليات و من ثم المحاسبة على ما حدث و خصوصا أن هناك دماء غزيرة عزيزة سقطت .
لكي نفهم القصة نحتاج الى أن نقوم بإطلالة سريعة على المشهد حينها و الذي يتلخص في هذه العناوين الرئيسية : انقلاب عسكري بقيادة السيسي و دعم كل أجهزة الدولة و مؤسساتها السيادية بلا استثناء ، فضلا عن الدعم الإقليمي و الدولي المعلن و غير المعلن ، على الجانب الآخر رافضين للانقلاب معتصمين في ميدان رابعة العدوية و معلنين من على منصة رابعة أن هدفهم هو اسقاط الانقلاب و استعادة الشرعية و تصعيد في سقف المطالب يقضي بإعدام قادة الانقلاب و تطهير مؤسسات الدولة من كل من شارك فيه .
أيضا كجزء أساسي من المشهد هناك شريحة كبيرة من المجتمع داعمة للانقلاب العسكري الذي اصطنع مسرحية ثورة ٣٠ يونيو لإصباغ المشروعية الشعبية على الانقلاب .
هذه الشريحة تقابلها شريحة أخرى أكبر رافضة للانقلاب و داعمة للشرعية و بين الشريحتين توجد ثالثة صامتة و غير معنية بما يحدث و هذه تمثل أكبر الشرائح أو ما يطلق عليها إعلاميا " حزب الكنبة " .
كانت رسائل قادة الانقلاب العسكري لقيادة الاعتصام المعلنة و غير المعلنة أنه لا عودة لما قبل ٣ يوليو و أنه لا حدود لفرض ذلك بالقوة و قام قادة الانقلاب وقتها بتوجيه رسالتين قويتين للمعتصمين في مجزرتي المنصة و الحرس الجمهوري كان الشهداء بالمئات و بمنتهى الوحشية و أثناء الصلاة و هم عزل ، لم تكن هناك رسالة أقوى من ذلك لإيصالها للمعتصمين أنه لا تراجع و لا حدود للبطش أو القتل لتمرير الانقلاب .
على الجانب الآخر كان قادة اعتصام رابعة حريصين على سلمية الاعتصام و رغم كونه محاط بمنطقة مؤسسات عسكرية الا انها ظلت آمنة ، و اقتصرت فعاليات الاعتصام على لونين أساسين من الفعاليات و هما منصة رابعة و اللغة الخطابية العالية بها و التظاهرات التي تخرج من الميدان للاحتجاج على الانقلاب .
و هنا تبرز الإشكالية التي عنونا لها المقال ما الحل أمام قادة الاعتصام للتعامل مع الأزمة و تجنب المجزرة ؟ ، و قد كنت قريبا من مجريات الأحداث أو ملابسات اتخاذ القرار حينها .
كانت الإشكالية التي وقعت فيها قيادة الثورة و هو خطأ استراتيجي قاتل هو سوء تقدير الموقف طيلة حكم الدكتور مرسي هو استبعاد سيناريو الانقلاب العسكري رغم الرسائل المتعددة التي وصلتهم تحذر من ذلك و من جهات موثوقة و محترفة لكن استمر سوء التقدير حتى وقع الانقلاب و لست هنا في معرض التفصيل في هذه النقطة و لكني ذكرتها لأن هذا الخطأ القاتل كان أحد الأسباب الرئيسية في رفع تكلفة الاعتصام بهذا الشكل .
من البديهيات المنطقية أن ميزان القوة بين الدولة و المعتصمين مختل بشكل لا يسمح لحد أدنى من العقل بأن يفترض أن المعتصمين يمكن أن ينتصروا على الدولة بمؤسساتها و قوتها ، و بالتالي نكون أمام الخطأ الاستراتيجي القاتل الثاني هل كان من الحكمة تجميع كتلتك الصلبة كاملة في مكان واحد و غير حيوي !!! ، وسط محيط ميداني يتحكم فيه النظام الانقلابي كاملا ؟؟
و هذا سوء تقدير للموقف ثاني لأنك عمليا حصرت الثورة في ميدان رابعة حتى لو كانت هناك تظاهرات في عدة محافظات أخرى مهمة الى ان كتلتك الصلبة كان غالبها في الميدان أي أنك سهلت على النظام دون أن تقصد عملية الاحتواء و السيطرة على الكتلة الأهم في الحراك .
حتى هنا و يمكن ان نختلف أو نتفق حول الجدوى من الاعتصام حينها و في هذا المكان تحديدا ربما أكون مخطئا أو على صواب ليست هذه هي الإشكالية الأساسية في هذا المقال .
الإشكالية هي أن قادة الاعتصام و بعد ادراك أن النظام لن يعود للوراء خطوة واحدة و أنه لديه الاستعداد لإبادة المعتصمين في سبيل إنجاح الانقلاب و دلل على ذلك بمجزرتي المنصة و الحرس الجمهوري، و في ظل الاختلال الهائل في ميزان القوة بل لا يوجد أصلا قوة لديك لتواجهه ، بل تفتخر بأنه لا قوة لديك و تطالب العالم بأن يأتي و يتأكد من أنه لا قوة لديك و بعد كل هذا تصر على الاستمرار في الاعتصام !!
و هنا ننتقل الى الخطأ الاستراتيجي الثالث و القاتل كذلك وهو غياب الرؤية و الاستراتيجية للتعامل مع الأزمة رغم أنه كانت هناك سيناريوهات متعددة للتعامل معها انتجها عدد من الباحثين و كنت واحدا منهم ، لكن متخذ القرار لم يجرؤ على تنفيذ أي منها فلا هو قادر على المواجهة و لا قادر على الانسحاب حتى لا يخذل أنصاره و مؤيديه .
لكن كان هناك طريق ثالث وسط كان يمكن عن طريقه اجتناب المجزرة أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى وهو الانسحاب التكتيكي الذي يقيك المواجهة التي لست مستعدا لها أو يظهرك وسط انصارك بالمتراجع ، كان يمكن الإعلان عن نقل الاعتصام لمكان آخر لسحب الناس من الميدان و بكل تأكيد لن يسمح لك النظام بنقل الاعتصام و تكون قد انهيته دون اعلان ذلك و يتفرق الناس حتى لو استخدم العنف معهم فسيكون بكل تأكيد محدود لأن اشتباكات الشوارع لا تسمح له بالسيطرة الكاملة كما في حالة الاعتصام .
كان يمكن كذلك الخروج من الميدان بتظاهرات ضخمة تسحب معظم المعتصمين من الميدان لأماكن مختلفة و عندما يجد الأمن الميدان شبه فارغ ستتم محاصرته و يمنع المتظاهرين من العودة اليه و بالتالي تتفرق الجموع و تحقن دماءها أو تقل خسائرها للحد الأدنى .
هذه الحلول كانت ستحافظ على قوتك و تعيد انتشارها في المحافظات و تحقن بها كثير من الدماء و تعطيك فرصة لاستكمال رؤيتك لمواجهة الانقلاب .
و حتى لو بدء النظام في اعتقال الناس من البيوت فعندها كان سيفعلها و هو خائف مرتبك لم يستقر بعد و في كل الأحوال سيكون الوضع أخف وطئه من المجزرة ، كما أن خروج التظاهرات بقوتك الأساسية في المحافظات و صدها لقوات الأمن كان سيجعل الثورة حدث شعبي ينتقل من محافظة الي محافظة و من المدينة الى القرية و تدخل مصر في حرب استقلال حقيقية ضد الاحتلال العسكري و وكلاءه .
و لكي تتأكد من صحة ما أقول أذكركم بأن تظاهرة رمسيس ارتقى فيها نحو ٧٠ شهيدا فقط رغم أن اعداد المتظاهرين كانت تفوق أعداد المعتصمين بالميدان في أيام كثيرة ، لكن تعامل القوات مع مجموعات متحركة في الشوارع أصعب بكثير مع كتل بشرية ساكنة في مكان واحد .
سيحاول البعض بوعي أو بدون وعي سحب القارئ من فكرة المقال الأساسية الى فكرة عاطفية حماسية من أن المقال طعن في الأبطال و أنه ليس وقته و أنهم غائبين ليشعل جدلا سفسطائي عاطفي لا تحقن به دماء و لا يحاسب عليه مقصر و لا يسترشد به في المستقبل .
و حتى تعلم كارثة ذلك لأنه لم يجري تقييم و مراجعة لما حدث في رابعة بسبب هذه الدعاوي تكرر ما حدث بشكل مصغر في رمسيس !! ، لقد خرج مئات الألوف في تظاهرة مليونية ضخمة امتدت لكيلومترات و عندما بدء الأمن بالتعامل معها بعنف و سقط الشهداء طالبتهم قيادة الثورة بالانسحاب و التراجع و كأنك فوجئت باستخدامه العنف !!!!!
رغم أن مجزرة رابعة لم يكن قد مضي عليها سوى أيام قلائل و اباد فيها النظام المجرم البشر و الحجر و أحرق الأحياء و الأموات ، فلماذا أخرجتهم دون حماية و دون رؤية واضحة و طالبتهم بالتراجع حين بدء باستخدام العنف ليعتقل المئات يومها و لا زالوا معتقلين !!! ، و يستشهد العشرات أثناء انسحابهم !!!
إن النظام المجرم الفاشي الدموي ليس بدعا في تاريخ الثورات فكل الثورات عبر التاريخ تقوم على انظمة مستبدة تقتل الناس و تعذبهم و تعتقلهم و لكن قدرتك على مواجهته و التصدي لإجرامه و تشتيت و تفتيت قوته و طاقته هو ما يستنفذه سريعا و يعجل بسقوطه .
ان عوامل الثورة و مسبباتها كلها مجتمعة في الحالة المصرية الآن ، و ما لم يكن هناك عبرة و استفادة من دروس الماضي و تربية لجيل الشباب الثائر فلن نراوح أماكننا حتى تجري علينا سنة الاستبدال .
إن كثيرين ممن هم في صدارة المشهد الآن كانوا جزء من مشهد رابعة و ما تلاه لم يعترفوا بخطأ أو تقصير بل يظنون أن لديهم الحكمة الكاملة و العقلية الفذة و لأن الحساب غائب وصلت الثروة الي ما آلت عليه من توقف أقرب الى الموات ، فلو جلست مع نفسك في لحظة صدق تعدد ما تم إنجازه فعليا على الأرض لم تجد منجزا واحدا ملموسا ، اللهم الا قصص الثبات و البطولة للثوار في مصر و للمعتقلين و اسرهم ، و هذا الثبات محض توفيق من الله و ليس منة من أحد عليهم ، أما بمقاييس الواقع فلا منجز حقيقي تم لصالح الثورة بل تراجع في كل الملفات .
انني اعتمد بعد الله على شباب الثورة الذين دفعوا ثمنا غاليا و تعلموا دروس في بضع سنين ما استغرق بعضهم أعمارهم كلها ليتعلموا بعضا منها ، فهؤلاء بإذن من ينصلح بهم الحاضر و المستقبل بنقاءهم و اخلاصهم و حماسهم و همتهم العالية و حسن ادراكهم و تخطيطهم لواقعهم و مستقبلهم.
وسوم: العدد 733