جاسوسية سياسية -1-
دأبت مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية على دراسة المتغيرات التي تطرأ على حركات التحرر بعد كل سلسلة من إجراءات التضييق والملاحقة، وهي في كل مرة ترسل شخصية أكاديمية أو شعبية أو قريبة من الدوائر الرسمية، لتلتقي بقادة تلك الحركات فتستمع إلى تطلعاتهم؛ التي تفهمها على أنها خططهم المستقبلية، وتلاحظ مدى ليونتهم؛ التي يحرص أولئك القادة على التظاهر بها؛ والتي يفهما الزائرون على أنها تمثل الحد الأدنى الذي يقبل به القادة في تلك المرحلة. ويتباحثون معهم سبل تحقيق مطالبهم، وهو مدخل ليتقدم الزائرون ببعض العروض التي لا تصطدم مباشرة بثوابت القادة، فيشرع هؤلاء بدراسة تلك العروض وهو ما يُسفر عن تشكيل عقلية براغماتية قابلة للتعاطي مع أي طرح لا يؤثر مباشرة على مبادئهم. بينما يعود أولئك الزائرون إلى بلادهم فيضعون كلمات القادة موضع الفحص والتحليل ليلاحظوا مدى التغير الذي طرأ على مواقفهم بعد كل جولة من التضييق، فإن لاحظوا أي تطور إيجابي يصب تجاه السياسة الغربية، يعتبرونه نجاحاً نسبياً فيعكفون على إعداد جولة تالية من التضييق والملاحقة والدعاية تضاعف نسبة التغيير في موقف قادة حركات التحرر، وهكذا، حتى تجد حركة التحرر نفسها بعد سنوات وقد تقلصت طموحاتها وابتعدت عن أهدافها الأولى.
إن هذا بالضبط ما تعرضت له حركة فتح منذ سنوات السبعينات وما بعدها، والعاقل مَن اتّعظ بغيره؛ فقد جاءت بعثة البروفيسور روجر فيشر في أيلول 1970، وأعلنت أن هدفها إشراك الفلسطينيين في الحوار الدائر حول أزمة الشرق الوسط وصولاً لتحقيق تسوية سياسية، وهي " تريد أن تعرف ما هو الحد الذي يمكن أن تقبل به الثورة الفلسطينية كبديل عن الكفاح المسلح".
كما كُلِّف روبرت إيمز:رئيس قسم وكالة المخابرات الأمريكية في بيروت: لإيجاد علاقة مع فتح تبرِّئ ساحة أمريكا من ادعائهم بأن واشنطن لا تسمع لهم، مما يدفعهم إلى تملُّق الاتحاد السوفييتي، ولأجل ذلك بدأ اتصاله في عام 1972 وجرى في عام 1976م أول اجتماع سري للغاية بين روبرت إيمز وياسر عرفات في بيروت.
وفي 3/11/1973 أُرسل الجنرال فيرنون وولترز، نائب مدير وكالة المخابرات الأمريكية، ليلتقي خالد الحسن وماجد أبو شرار في الرباط بالمغرب، وكانت مهمته تقضي بجس نبضهم، وأفكارهم السياسية بشأن الاعتراف بإسرائيل، والعلاقة المستقبلية مع الأردن.
كما كُلف ملحق في السفارة الأمريكية في القاهرة؛ لإجراء اتصالات مع مندوب منظمة التحرير: سعيد كمال، تركزت أسئلته على استطلاع توجهات المنظمة المقبلة.
وفي 28/3/1975م استقبل أبو عمار في بيروت جورج ماكغفرن، رئيس اللجنة الفرعية لشئون الشرق الأوسط في مجلس الشيوخ الأمريكي الديمقراطي، وشرح له أبعاد قرار إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، ومفهوم الدولة الديمقراطية. وأوضح ماكغفرن أنه لا يمكن تجاوز الواقع الفلسطيني أو تجاهله، وعلى السياسة الأمريكية أن تتجه لمعالجة القضية الفلسطينية وضرورة الاعتراف بالمنظمة، وضرورة قيام كيان وطني فلسطيني لأجل استقرار المنطقة.
وفي 22/6/1975م، استقبل أبو عمار في بيروت، وليم فولبرايت، الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي تحدث عن أمله في أن يتوافر النص القانوني الذي يؤمِّن كياناً خاصاً للشعب الفلسطيني. وفي ديسمبر 1975م، أجرى مسئولون أمريكيون حواراً سرياً، وغير مباشر، مع زعماء منظمة التحرير، بهدف حثهم على إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة بخصوص الموقف الذي يتوجب على الفلسطينيين اتخاذه في مفاوضات التسوية.
وفي منتصف 1977م حاول الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إسداء النصح لمنظمة التحرير بأن اعترافها بالقرار 242 سيهيئ مشاركتها في محادثات جنيف للسلام، فأرسل العديد من الشخصيات غير الرسمية، منهم ويليام سكرانتون، حاكم ولاية بنسلفانيا السابق، الذي التقى ممثلاً كبيراً لمنظمة التحرير في باريس في شهر يوليو 1977م. ومنهم لاندروم بولنج، الذي قابل عرفات عدة مرات، وحمل منه رسالة إلى كارتر يشير فيها إلى أن المنظمة سوف تقبل القرار 242 إطاراً لمحادثات جنيف.
-2-
وعلقت وثيقة صادرة عن مكتب وزير الخارجية الأمريكي في 4/9/1979م: "يبدو أن عرفات يعيد النظر الآن في أساليب العنف كوسيلة لتحقيق أهداف منظمة التحرير وفتح"، "ويبدو أن عرفات مستعد لتجاهل العناصر المتشددة في المقاومة الفلسطينية وفي منظمة التحرير"، وتظهر الوثيقة مدى متابعة الإدارة الأمريكية لآثار سلوكها مع عرفات، عليه، فكلما ضغطت عليه، زاد تقرباً وحرصاً على إثبات حسن النوايا، وكلما طرحت الإدارة الأمريكية أملاً في حل سياسي، تراجع العمل الفدائي ضد إسرائيل. وما دام الأمر كذلك، فستستمر الإدارة الأمريكية في ذات السلوك.
كما استضافت منظمة التحرير، وبدعوة من أبي عمار، القس جيسي جاكسون، عضو مجلس النواب الأمريكي، ورئيس الكنيسة المعمدانية للأمريكيين السود، في 28/9/1979م، وأعلن جاكسون أنه يؤيد المنظمة ونضالها العادل. وجاءت وساطة عرفات للإفراج عن الرهائن السود الأمريكان لدى إيران، لتتوِّج هذه العلاقة مع السود الأمريكان.
وخلال عام 1981م، قدِمت إلى بيروت العديد من الوفود الأمريكية الشعبية لزيارة قيادة فتح، واستطلعوا أنشطتها ومؤسساتها والأحوال المعيشية للشعب الفلسطيني، وأعربوا عن وقوفهم إلى جانب مطالبه العادلة، في العودة وتقرير المصير. ثم كلّف وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، شاباً أمريكياً، يشغل منصب مدير الأكاديمية الدولية للبحوث من أجل السلام، وله صلات قربى مع اللوبي اليهودي في أمريكا، يدعى: جون إدوين مروز، بمتابعة الحوار مع منظمة التحرير على أساس الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وترك العمل المسلح. وقد التقى عرفات ب مروز في بيروت في 4/8/1981م، وخمسين اجتماعاً خلال تسعة شهور تالية.وقد كانت تلك الزيارات توطئة لحرب 1982م.
وخلال حصار بيروت، زار وفد من أعضاء الكونجرس، عرفات في يوليو 1982م، وتمكن أحدهم وهو الجمهوري: بول ن. مكلوسكي من أخذ توقيع ياسر عرفات على وثيقة كتبها عرفات بالإنجليزية بخط يده، يعترف فيها بجميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين.
وعلى ضوء هذه التكتيكات الأمريكية جاءت زيارات شخصيات أجنبية عدة لقطاع غزة خلال سنوات الحصار، ومن بينها اتصالات عربية، تهدف إلى:
1- خلق أهداف ثانوية لحركة حماس بالحديث عن ضرورة الاعتراف بحماس كجزء من المعادلة السياسية في المنطقة، قافزة عن عمد على الهدف الحقيقي لحماس وهو مقاومة الاحتلال وصولاً لطرده من فلسطين وليس إثبات ذاتها.
2- التعامل مع حماس على أساس أنها بحاجة لإثبات ذاتها، والبناء على أساس ذلك من خلال طرح الهدنة مقابل فك الحصار، وذلك في السنوات الأولى للحصار، في خطوة واضحة تبتعد بحماس عن أهدافها التي سعت لتنفيذها قبل الحصار، إذ إن حماس انطلقت في كفاحها المسلح لطرد المحتل وليس لتحقيق ذاتها ولا لفك حصار لم يكن موجودا آنذاك. ولم تلبث مساعيهم توجِّه حماس إلى معالجة القضايا الحياتية الناتجة عن الحصار، وإبداء الاستعداد للمساهمة في ذلك مقابل تعهدات بعدم اللجوء للمواجهة المسلحة مع الاحتلال.
3- منح حماس بعض الإطراء لتشجيعها للتعاطي مع مبادراتهم والمبادرات المماثلة، وذلك ابتغاء وقف عملياتها ومقاومتها، وتنفيذ صفقة تبادل أسرى؛ والأهم من ذلك إسقاط خيار الحرب.
4- تلمُّس مدى تأثير الحصار والتهميش على قادة حماس، ونقْل ذلك إلى الجهات المعنية في أمريكا للبناء عليه. حيث ستُفهم أي ليونة من قِبَلهم بأنها نجاح لسياسة الحصار وأنه لا بد من مضاعفة الحصار لدفعهم لتقديم مزيد من التنازلات.
5- محاولة فك ارتباط قوى المقاومة والممانعة في المنطقة بإشعار حماس أن الولايات المتحدة وأذرعها العربية جاهزون للاستماع لمطالبهم بعيداً عن تلك القوى بما فيها روسيا وإيران وقطر وتركيا.
إن على قادة المقاومة الفلسطينية الاتعاظ من تلك التجارب وعدم المجازفة بتكرارها ابتغاء استكشاف قدرتها على التأثير في السياسة الأمريكية والغربية. وإن كان ضرورياً إجراء بعض اللقاءات فيجب ألا تكون سرية ولتكن محاضرها مفتوحة لجميع الشعب الفلسطيني الذي يجب ألا يكون آخر من يعلم!!
وسوم: العدد 734