حظيرة التنوير.. ومحاكم التفتيش!
لم تعرف مصر في تاريخها أسوأ من مثقفي الحظيرة الذين صنعتهم أجهزة الحكم العسكري منذ 1952حتى الآن، وإلى مدى لا يعلمه الا الله! فهؤلاء لم يرتقوا إلى مصاف المثقفين الحقيقيين الذين يحملون رسالة إنسانية تنحاز إلى الوطن وأبنائه وأخلاقه وقيمه، ولم يقدموا إنجازا فكريا أو فنيا ذا قيمة تحسب لهم، بقدر ما انحازوا إلى السلطة واتجاهاتها الاستبدادية الظالمة، وكانوا في مواقفهم ضد حرية الشعب وآماله، وغطوا على سلوكهم المشين ببعض الألاعيب والبهلوانيات الرديئة التي يبدون فيها مناضلين ومكافحين وأبطالا، وما هم كذلك، لأنهم مزيفون وكاذبون ومنافقون ومخبرون، وغايتهم الأولى والأخيرة هي جمع الفتات الذي تلقيه السلطة!
يصدعون رءوسنا ليل نهار عن حرية الفكر وحرية الإبداع وحرية التعبير، ويدافعون عن أنصارهم حين يكتبون كلاما لا يمت للفكر ولا الإبداع ولا الفن بصلة، ويتنادون مع رفاقهم في مشارق الأرض ومغاربها هلمّوا إلى النضال ضد محاكم التفتيش الرجعية الظلامية التي تحاكم ولدا تافها يكتب بلغة البورنو كلاما يسميه رواية أو قصة، أو تافها آخر ينسخ قصيدة مليئة بالسباب والبذاءة والهرطقة ، ويصيحون ويصرخون في أجهزة الدعاية المفتوحة على مصاريعها أمامهم ليقولوا للعالم: أنقذونا من محاكم التفتيش الرجعية الظلامية المتخلفة التي تهدد الإبداع وحرية الفكر والتعبير..
ومع أن الأمر يكون معروضا على القضاء أو يتم التحاور بشأنه بلغة القانون، فإنهم لا يكفون عن الصراخ والضجيج وادعاء المظلومية والمطاردة والحصار!
حين ينعكس الأمر وينتقل إلى رغبة السلطة المستبدة أو الانقلابية بالمصادرة وتكميم الأفواه، فإنهم ينسون مقولاتهم عن حرية الفكر والتعبير والرأي والإبداع، ويتنادون لحرق الكتب، ومحاكمة أصحابها، وتنقية المناهج التعليمية من الأفكار والآراء التي لا تعجبهم، وهي عادة تتعلق بشرح قيم الإسلام وأخلاق المسلمين.
لا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى مباركة مصادرة الصحف والقنوات والمكتبات والمواقع الإلكترونية وغير ذلك من وسائط التعبير والنشر التي تدافع عن الحرية والكرامة والديمقراطية.. ويخرسون تماما حين تقوم السلطة المستبدة أو الانقلابية باعتقال الكتاب والصحفيين والمفكرين والمبدعين الحقيقيين الأصلاء الذين لا ينتسبون إلى الحظيرة الثقافية وتقاليدها الانتهازية. لا يشيرون من قريب أو بعيد إلى كاتب مظلوم أو صحفي بريء، ولا يتحدثون عن مفكرين غدرت بهم يد البطش الأعمى أو مبدعين طالتهم سطوة الإجرام الغبي، وذلك لأن الضحايا مسلمون ولا يوالون الحظيرة وقانونها البائس.
عقب الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، قامت في أبريل 2015 موظفة بالتربية والتعليم اسمها بثينة كشك ومعها مجموعة من الموظفين الكبار في الوزارة ضمن لجنة سميت إعدام الكتب بالاحتفال في فناء إحدى المدارس وإشعال النار في مجموعة ضخمة من الكتب وسط تهليل الكبار والصغار أمام الكتب المحترقة التي تعبر عن ثقافة الإسلام، والعلوم والكيمياء والرياضيات. وبالطبع أغلقت الحظيرة فمها، ولم تستنكر السلوك المشين الشنيع بكلمة، في الوقت الذي لا تكف فيه عن استحضار ما قيل عن حرق كتب ابن رشد المستنير في الأندلس، وتدين الإسلام والمسلمين بالسلوك الهمجي تجاه الكتب والكتاب!
في معارض الكتب التي تشرف عليها الحظيرة، يتم إطلاق الجواسيس والمخبرين من أشباه المثقفين لرصد المكتبات التي تبيع كتب الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي والدكتور عمارة وغيرهم لجمعها، وإعدامها ومعاقبة عارضيها، لأنها في زعمهم كتب إرهابية تحرض على العنف والقتل، وتم التوسع في المصادرة لتشمل المعارض العربية خارج مصر لإعدام كل كتاب يتناول الإسلام وقضاياه.
لا يكف الحظائريون عن الإلحاح على أن الفكر لا يحارب إلا بالفكر، والرأي لا يهزمه إلا الرأي، ولكنهم يطبقون ذلك على أنفسهم، أما على غيرهم فإنهم يقيمون محاكم تفتيش إرهابية لا تعبأ بمنطق أو قيمة أو خلق!
كان البكباشي الأرحل المهزوم دائما قد اعتقل الإخوان في منتصف الستينيات وحكم بالإعدام على المفكر والباحث والشاعر والناقد والروائي سيد قطب وآخرين، وقام أتباعه من الجلادين والبصاصين بمصادرة كل كلمة كتبها، وكل كتاب نشره، وأذكر أنهم أخذوا كتابا مدرسيا فيه مقال يتناول النقد الأدبي، وأعيد الكتاب منزوعا منه المقال الذي لا علاقة له بالسياسة أو الحكم. بعد رحيل عبد الناصر المهزوم دائما، امتلأت المكتبات بمؤلفات سيد قطب وفي مقدمتها الظلال، وانتشرت هذه المؤلفات في أرجاء العالم الإسلامي، وقبل رحيل الطاغية كانت توزع سرا هنا وهناك، ويعيد الانقلابيون الجدد دورة المنع والحرق والمصادرة ولا يتعظون بما سبق، ولكن الأخطر هو أن يتبني ذلك من ينسبون أنفسهم إلى الثقافة.
ذكرت في مكان آخر كيف قام أحدهم مؤخرا بدور المخبر ليشي ببعض قصور الثقافة، التي كرمت أحد الأدباء في الوجه القبلي، ولأنه عبده مشتاق فقد تصور أن تقريره الكاذب عن شخص ادعى أنه من الجماعة الإرهابية كما يسميها الانقلاب، أملا أن يُستدعي ليكون وزيرا! ولكن منافسيه فيما يبدو كانوا أكثر ذكاء منه، فأفسدوا عليه خططه التي لم تتورع عن إطلاق الإشاعات الكاذبة والتقارير الكاذبة.
في العام الماضي (ديسمبر 2016) أغلقت قوات أمن الانقلاب مكتبات "الكرامة" التابعة للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وقال مديرها جمال عيد وهو يساري وليس إسلاميا: إن "سبب الإغلاق تعليمات بغلق المكتبات التابعة لنا، بدون إنذار، وفهمت من ذلك أنها إحدى وسائل الضغط لكي نتواطأ مع السلطات، ونتغاضى عن الانتهاكات الموجودة، وهذا يدلل على فجور في الخصومة".
وبالطبع لم يفتح أحد من المخبرين الحظائريين فمه دفاعا عن الثقافة والقراءة وتنوير الأذهان، مثلما فعلوا حين توجهت كتائب النظام لتسيطر على مجموعة مكتبات ألف وتتحفظ عليها وعلى فروعها البالغة 37 فرعا على مستوى الجمهورية، وهي من أكثر المكتبات نشاطا في مصر. وفي الوقت الذي يدعو فيه النظام العسكري الفاشي إلى محاربة ما يسمى الفكر المتطرف، وتصحيح مفاهيم الدين المغلوطة، يسعى إلى إغلاق المكتبات، والتحفظ عليها، ومصادرة الحق في المعرفة، وترك الباب على مصراعيه أمام وسائل الترفيه والإلهاء، وكتابات الحظائريين المزيفة المضللة، والملاهي الليلية التي تعمل جميعا دون قيود أو رقابة، مما يعني ازدهار الجهل والأمية والحيوانية الطائشة، والحظيرة تعمل من بنها !
لقد دأب النظام الانقلابي العسكري الدموي الفاشي على حظر مئات العناوين والكتاب المسلمين، من المشاركة في معارض الكتاب التي تقام في القاهرة والأقاليم، كما قام بمنعها في المدارس والجامعات والمساجد بل وحرقها في أفنية المدارس من خلال ما يسمى لجنة "إعدام الكتب في المدارس". إنها عملية تجفيف منابع الثقافة- وفقا لبعض المحللين- وتأتي اتساقا مع ما قاله قائد الانقلاب (يعمل إيه التعليم في وطن ضايع) ليتحقق إفشال الوطن وتضييع مستقبل أبنائه.
الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 737