حين ينطق الحجر والشجر لا تغادر

قبل أن أكتب قصتي مع جماد الشام أقول كنت أول الفارين من زحف الشام وربنا يغفر لنا ولمن فعل فعلتنا.. هجوم مغولي تتري لم يسبق له مثيلاً على الشام وأهلها ونحن نفر منها، ولكن حالي كحال من نقل خطابه المتنبي:

لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ .. فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ

بدأت قصتي مع جماد الشام يوم عزمت على مغادرة المكان، وللمكان عبقرية ومغناطيس يدركها ويحسها من عاشها وتذوقها، أودع الأهل لكن العيون أقوى من الكلمات ولغة الجسد أقوى من كل لغات الأرض، كلها تقول لك وتخترق جوفك وقلبك وكل ما فيك أما شبعت غُربة؟ هل ستعيش حياتين؟ أما حُق لبلدك أن تأخذ منك بعض عمرك على الأقل، لكن لغة العيون والجسد أصدق من لغة اللسان، وأقل تهذيباً، فتتوارى وجوه من تودعنا، خشية علينا من أن تُفصح الوجوه عن إيماءات أكثر إحراجاً لمن يفر ويغادر، وهي ترى وتلمس انهيار من أمامها خجلاً لفعلته.

أواصل طريق الفرار من الزحف.. كانت أشجار الزيتون الروماني تودعنا لكنه وداع لئيم يذكرك أنني باقية، لم أرحل ولم أغادر ولم يقلعني طاغية ولا محتل، فعلام أنت خائف، أنت الإنسان الذي شرفك الله بمهمة الاستخلاف في الأرض، وشرفك بأن تكون الضامن عليها، هل غدوت أنا أكثر حرصاً وضماناً على ما ضمنته وتشرفت به، أمرّ على بيت جدي فأتعثر بالبئر العميق الروماني، كانت حجارته الملساء من كثرة مرور العقود عليه، وربما القرون  تحكي قصص صمود جمادي حجري، في وقت يفر بني الإنسان من أرضه ليترك مهمته وواجبه للحجر والشجر والتراب الصامدين في وجه الغزاة، أرفع رأسي قليلاً  إلى أعلى خجلاً من لغة أحجار البئر الذي لعبت حوله ووقعت حوله ودرست، لأجد تلك الأحجار الضخمة التي لا تزال شامخة في جدار المنزل، أحجار بطول متر وعرض أكثر من نصف متر، كلها تنادي لا ترحل، لا تفر، لا تغادر، فهنا أرضنا وهنا رزقنا، عشنا معاً، فلمَ نفترق.

 

لكن مع هذا كله أصرّ على الرحيل وأصر على الفرار من الزحف، وأصر على المغادرة، كل من التقيته في الطريق من بني الإنسان مشغول بحياته اليومية، يسلم و كأن لا شيء يحصل، لكن الجماد كان أوفى للمكان، وأكثر تعلقاً به، على الطريق أشاهد شواخص الطريق التي تحكي تفتناز ترحب بكم وكذلك شلخ وزردنا ومعرة مصرين وووو، فكل هذه الأماكن والبلدات ترحب بنا، ولكن ليس من مرحب بها، نرحل إلى البعيد إلى المكان الذي نستكشفه من جديد، وإلى المكان الذي عشنا فيه نصف أعمارنا دون أن نتعلق به، أصل إلى باب الهوى لأجد علم الثورة منتصباً، شامخاً بشموخ الزيتون والمشمش والتين وبشموخ أحجار الشام العريقة، وبشموخ زرقة سمائها وجبال زاويتها، هنا أستذكر مئات الآلاف من الشهداء الذين رحلوا وكُفنوا بهذا العلم الأخضر، علم الثورة.

كان العلم يصرخ وينادي في وجهي هكذا خُيل لي لم تتركني، لم يبق الكثير أمامنا وسنفرح بالنصر في ساحات العاصي بحماة والساعة بحمص وساحات دير الزور والرقة واللاذقية ودمشق ودرعا، وكل ساحات مدن الشام، لمن تتركنا لمليشيات طائفية حاقدة جاست خلال الديار الشامية، لمن تتركنا فنظرية الأواني المستطرقة تصرخ مع خروج كل شامي من هنا يدخل طائفي حاقد مقابله لهلك الحرث والنسل، أطأطئ الرأس خجلاً من الحاضر المشهود وليس من أمسنا المنصرم، وأظل أردد مع الشاعر عمر شلبي ربما تسلية للنفس أو إقناعاً لمن أحس أنه يسمعني فكل ما في داخلي غدا اليوم شفافاً هكذا خُيل إلي ولذا أحاول إقناعه

تــرابُ أعتابِكمْ كــحلٌ لأعيننا .. فكيف عن بابكم ننأى ونبتعدُ؟