صراع العقائد.. وضياع العلمانيين ، في أتونه ..أو على هوامشه !
حين يكون الصراع ، داخل الوطن الواحد ، وطنياً ، تكون ساحاته مفتوحة لأبناء الوطن جميعاً ، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ، وقبائلهم ومساكنهم ، وعقائدهم وأعراقهم . وهذا النوع من الصراعات ، يشارك فيه الناس ، انطلاقاً من اقتناع به ، واضحٍ أو غامض ، لدى كل منهم ..! ومن النادر أن يتحول هذا الصراع إلى صراع دموي ؛ إذ لا مسوّغ لهذا ، مادام الجميع يؤمنون ، بوعي ، أن الوطن للجميع ، وأن أيّ خراب فيه ، سيكون على حساب الجميع .. ومادامت المشاركة السلمية فيه متاحة للجميع !
وحين يكون الصراع قبَلياً أو عِرقياً ، يشارك فيه أبناء القبائل، أو الأعراق، المتصارعة، بصرف النظرعن عقائدهم وتوجهاتهم السياسية، ومساكنهم وثقافاتهم ..يجَرّون إليه جَراً، أو يُدفَعون إليه دفعاً ، باقتناع منهم ، أو بغير اقتناع! وفي كثير من الأحيان ، يتحول هذا الصراع إلى صراع دامٍ، لأن الصراعات القبلية لا يضبطها ـ في العادة ـ ، الوعي الوطني والسياسي، كما يضبط الصراعات الوطنية ! (ويمكن وصف هذا النوع من الصراعات بأنه : فتنة!).
وحين يكون الصراع داخل الوطن دينياً ، فبحكم الاضطرار، أو الخوف ، أو الحميّة .. يشارك فيه ،غالباً ، أبناء كل دين ، كلّ يشارك مع أبناء ملّته أو دينه ، بصرف النظر كذلك ، عن التوجّهات السياسية ، والاختلافات القبلية والعرقية والثقافية .. وبصرف النظر عن اقتناع كل منهم بجدوى هذا الصراع ، أو أهمّيته ، أو ضرورة المشاركة فيه .. أو عدم اقتناعه بشيء من هذا كله..! وهنا أيضاً، يتحول الصراع ، في الغالب، إلى صراع دام! (ويمكن وصف هذا الطراز من الصراعات ، بلا تردّد ، بأنه : فتنه !)
أمّا حين يكون الصراع مذهبياً ، داخلَ الدين الواحد ، ويتحول المذهب فيه إلى عقيدة ، فإن الذين يؤجّجونه ، ويندفعون إلى إشعال ناره ، هم المتحمّسون له ، سواء أكانوا كلهم ، مدركين للفروق الجوهرية ، والثانوية، ـ الأصول والفروع ـ بين العقائد المتصارعة ، أم كان أكثرهم لا يَعرف شيئاً من هذه الفروق ، إنّما يندفع إلى الصراع بحماسة، وهياج عاطفي أعمى! (ويبدو أن هذا النوع من الفتن ، هو أشدّها وأقساها).
ويكون أكثر الناس حيرةً ، في هذا الصراع ـ المذهبي.. العقَدي ـ وخيبةً، وضياعاً ، أولئك الذين لا يؤمنون، أصلاً، بأيّ من العقائد المتصارعة، بل ربّما كان بعضهم ملحداً، لا يؤمن بربّ ، أو نبيّ ، أو دين .. ويكون مع ذلك ، محسوباً ـ بحكم الولادة والنشأة ـ على هذا المذهب أو هذه العقيدة ! ولمّا كانت الصراعات الدينية ، والصراعات المذهبية ـ التي تتحول المذاهب فيها إلى عقائد ـ تتحول ، في كثير من الأحيان ، إلى صراعات دمَويّة ، يقبِل عليها المتحمّسون عقَدياً بقوّة وإخلاص ، رغبة بدخول الجنّة، أو حرصاً على إرضاء الله عزّ وجلّ ، ويَحرصون على أن يَقتلوا ويقتَلوا.. لمّا كانت هذه الصراعات بهذا الشكل، فإن أتعس الناس فيها ، هم أولئك الذين يُدفعون إلى الموت فيها دفعاً ، دون أن يكون لدى أيّ منهم إيمان بها، أو بالعقائد المتصارعة فيها ، أو حتى بالإله الذين يَحرص المتصارعون على رضاه ..! فدنياهم هي حياتهم التي يحيَونها فحسب ، ولاشيء وراء ذلك عندهم ، فلماذا يموتون ؟ ومن الذي أعطى المتصارعين العقَديين المتحمّسين ، الحقَّ في أن يَزجّوا بهم ، في صراع لا يؤمنون به ، ولا بالغاية التي نشب ، من أجلها !؟ ( ولا بدّ من التذكير ، هنا ، بأن أصحاب العقائد الدينية ، كثيراً ما يتسعّرون في لهيب صراعات حامية دامية ، يفجّرها العلمانيون ، أصحاب الفلسفات الشمولية، داخل أوطانهم .. من شيوعيين ، واشتراكيين متحمّسين ، دون أن يكون لهؤلاء العقَديين الدينيين ، ناقة أو جمل ، في هذه الصراعات /الرفاقية!/ الدامية المدمّرة ، التي تحرق الأوطان كلها ، ولا يَسلم من لهيبها أحد ، كبيراً كان أم صغيراً ، مؤمناً بجدواها أم غير مؤمن ..! بل كثيراً ما كان المتدينون ، أكثرَ الناس تعاسة وشقاء ، في هذه الصراعات ؛ إذ يكونون في مقدّمة ضحاياها! هذا إذا لم تنشب هذه الصراعات ، ابتداء ، لسحقهم واستئصال شأفتهم )
وهنا يبدأ هؤلاء البؤساء (الضحايا) بالتفلسف، والتنظير للعقائد والمذاهب والديانات! ( ولا بدّ من التأكيد هنا ، على أن أبناء الوطن كلهم ، بائسون وضحايا ، في هذا النوع من الصراعات العبثية ..! على اختلاف درجات البؤس بينهم !) .. ويدخلون في تفصيلات دقيقة أحياناً ، يَضلّون في متاهاتها ، لأنهم لا يملكون المعلومات الكافية ، التي تؤهلهم للخوض فيها ، فيكشفون عن جَهالات عجيبة ! ( ولا نقصد الجميع بالطبع ، بل الكثيرين منهم ) ..! أو يقفون عند عموميات سطحية ، يرون من خلالها أن المذاهب المتصارعة كلها تنتمي إلى دين واحد، وأن المتصارعين فيها كلهم مجرمون ، يجرّون البلاد والعباد، إلى حروب عبثية مدمّرة ! فكلهم في الإثم سواء ، وليس بينهم مَن هو على حقّ ، بل هم جميعاً على باطل !
الحروب المذهبية ، التي قامت في أوروبّا ، في قرون خلت ، بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس ، لم توفّر أحداً من أتباع المذاهب ، ولم ينج من نيرانها أحد ، متديناً كان ، أم علمانياً ، أم بوهيمياً دَهرياً !
الحرب المذهبية ، التي نشبت في القرن العشرين المنصرم ، بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا ، حصدت الكثير من نفوس البشر الذين لا يؤمنون بها .. مع المؤمنين بها !
حرب البلقان ، التي نشبت ، في بعض أقاليم يوغوسلافيا الممزقة ، بين الصرب والكروات ، كانت حرباً مذهبية بين نصارى ، والتي نشبت بين الصرب والمسلمين ، كانت حرباً دينية بين المسلمين والنصارى . وقد شبّت الحربان في وقت واحد ، وتداخلتا تداخلاً كبيراً ، وحصدتا عشرات الألوف من الأنفس البشرية ، المقتنعة بالحرب وغير المقتنعة ، والتي لا تملك أن تشكّل اقتناعاً أو رأياً ، كالأطفال ، والسذّج من البشر!
الحرب الناشبة اليوم في العراق ، بين الفرس الذين يحملون الهوية العراقية ودولة فارس من جهة ، وبين العرب أبناء البلاد الأصليين من سنّة وشيعة، من جهة أخرى ، تبدو للمراقب البعيد ، حرباً طائفية سنّية شيعية ، بين أبناء العراق .. وتحتدم حولها السجالات الكلامية ، في وسائل الإعلام ، ويتفلسف المنظّرون ، حول ضرورة الاتّفاق بين أبناء الوطن الواحد ، دون أن يحاول أكثرهم التعمّقَ في المسألة ، ليراها على حقيقتها ، حرباً فارسية، ضدّ أبناء العراق ، سنّتهم وشيعتهم على حدّ سواء ، والمذهب الذي توظّفه دولة الفرس ، للتعمية على حقيقة غزوها للعراق ، يخدع الكثيرين من أبناء العراق ، ولاسيّما الشيعة العرب ، فينساق بعضهم بحسن نيّة ، وراء هذه الخدعة المقيتة ، ويوظّفون أنفسَهم أدواتٍ ، في صراع تديره دولة الفرس، للاستيلاء على بلادهم ، وجعلها ولاية فارسية ! ولو انتبهوا قليلاً ، لرأوا جيّداً مصير الشيعة العرب في إقليم الأحواز ، وما يعانونه من ظلم واضطهاد ، على أيدي الأجهزة الأمنية الإيرانية ، بل لرأوا مصير بعض إخوانهم العرب ، من شيعة العراق أنفسهم ، وما مورِسَ عليهم من عمليات قتل وتهجير، وتطهير عرقي فارسي ! وهنا يتداخل التوظيف بشكل معقّد على الساحة العراقية : دولة إيران الفارسية ، توظّف المذهب الشيعي، للهيمنة على العراق ، ومِن ورائه الهيمنة على المنطقة العربية بأسرها! وشيعة الفرس ، حملَة الهوية العراقية ، يوظّفون القومية الفارسية ، المدعومة من دولة إيران ، للهيمنة على العراق ، وتصفية العرب فيه ، بشكل تامّ ! وبعض قادة الميليشيات الشيعية المحسوبة على العرق العربي، يَقتلون بعصاباتهم أبناء جلدتهم ، سعياً وراء شعارات طائفية مسمومة ، زيّنتها لهم أوهام مَرضية ، مصنّعة في أقبية أجهزة الاستخبارات الفارسية ! ولو فكّروا بمذهب آل البيت ، الذي يدّعون الانتماء إليه ، لوجدوا الفرس أبعَدَ الناس عنه ! فلا آل البيت فرس ، ولا الأئمة الذين يتاجرون بالانتماء إلى مذهبهم ، يحملون الأحقاد الفارسية المزمنة على العرب ، والأطماع الإمبراطورية الفارسية ، في الهيمنة على الأمّة الإسلامية مابين المحيطين! ولو سأل أحد هؤلاء الشيعة ، العرب البسطاء ، نفسَه ، هذا السؤال البسيط الواضح ، لوجَد نفسَه في حيرة عميقة ، وارتباك شديد ! والسؤال هو : لحساب مَن أقتل أهلي وأقاربي ، مِن إخوة وأعمام وأخوال ، وأبناء عمّ وأبناء خال .. ثم أبناء عشيرتي وأبناء قبيلتي ، ثم جيراني وأصدقائي وزملائي ، ورفاق طفولتي وشبابي..!؟ لحساب مَن أقاتل هؤلاء ، فأقتلهم أو يقتلونني !؟ ومِن أجل ماذا !؟ مِن أجل جعفر الصادق والحسين ، وعليّ وفاطمة الزهراء !؟ أم مِن أجل كورش وساسان ، وأمجاد الأكاسرة القدماء المتوجين ، والأكاسرة الجدد المعمّمين ! فهل جرّب أحدهم أن يطرح على نفسه هذا السؤال ، وهو أهمّ واجب يقوم به المرء ، في مثل هذه الظروف المصيرية الخطيرة !؟
وتظلّ مأساة العلمانيين على ما هي عليه ! بعضهم يرى الحقائق وينبّه إليها، دون أن يَسمع صوتَه أحد ! وبعضهم يُساق سوقاً ، إلى مصير أسود ، يخسر فيه حياته وبلاده ، دون أن يستطيع أن يفعل أيّ شيء ، سوى الصراخ : ما هذا العبث !؟ ولماذا !؟ وإلى متى !؟ وإذا كان بعض العلمانيين ، قد أدركوا حقيقة الصراع ، وعلِموا يقيناً ، أنه غزو فارسي شرس للعراق ، تحت حراب الأمريكان وحلفائهم الصهاينة ، فإن هؤلاء العلمانيين ، لا يملكون إلاّ ترديد الصراخ ذاته ، متضمّناً الأسئلة ذاتها : ما هذا العبث !؟ ولماذا !؟ وإلى متى !؟
وسوم: العدد 742