مؤشرات لحروبٍ مقبلة
قديمًا قالوا "الحرب أولها كلام". وحديثًا عُرّفت الحرب بأنّها ممارسة السياسة بوسائل عنيفة. وهذا لا يتعارض مع القول إنّ التلويح بالحرب، والاستعداد لها، والتهديد بشنّها، يمكن أن يكون وسيلة لتجنبها، وهو ما يُعرف في العلم الحديث بسياسة حافة الهاوية، والتي غايتها دفع الطرف الآخر إلى التفكير الجدّي بعواقب الأمور، إلّا أنّها منزلق خطرٌ عصيٌ على التنبؤ الدقيق، فلا أحد يعلم حينها متى تصيب إحدى الشرارات المتناثرة في سماء المنطقة برميل البارود، ولا حجم الدمار الذي سيُخلّفه، أو نتائج ذلك الحريق المندلع.
يأتي سياق هذا الحديث ضمن ما نشهده من تراكم للحوادث في منطقتنا؛ من حرب اليمن إلى حصار قطر، مرورًا بتطورات المصالحة في فلسطين، والحرب في العراق وسورية، وما تشهده من متغيّرات ميدانية، وتطورات سياسية تعكس نفسها في إعادة تشكيل المحاور الإقليمية، وتَلَمّس كل طرف موقعه في ميزان القوى، وفي الترتيبات المستقبلية، وسعيه إلى إحداث ما تمكّنه منه قواه وتحالفاته ورغباته من تغييرٍ يحفظ له الحد الأدنى في بقائه عاملًا مؤثرًا في مقاليد الأمور.
لا تسير الأمور باتجاه حلّ المشكلات الراهنة، والمنطقة بأسرها مقبلة على مزيد من التصعيد والتوترات الداخلية، لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، تستخدم الطوائف والمذاهب والإثنيات العرقية وقودًا لها، وصولًا إلى اندلاع الحروب الخارجية، ضمن محاولاتٍ لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة بما يخدم بقاء العدو الصهيوني طرفًا فاعلًا في معادلتها، متحالفًا مع أنظمة الاستبداد فيها، وفق معادلة الفوضى الخلاقة التي لن تُحدث سوى فوضى مدمرة، تساهم في مزيد من التقسيم والتفتيت لأوطاننا، وجعلها مرتهنة للإرادات الغربية.
تتشابك قضايا المنطقة؛ أعادت المشكلة الكردية تموضع إيران وتركيا معًا في ما بدا تنسيقًا أعمق لمواقفهما قد يسمح بإعلان محور إقليمي جديد، تزداد الحاجة إليه في مواجهة التمركز الأميركي المتحالف مع الأكراد، ومع بعض المخاوف لدى الطرفين من تقاسم الحليف الروسي النفوذ مع أميركا على حسابهما. أمّا استقالة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، فقد جاء الردّ "الإيراني" عليها عبر صاروخ باليستي أُطلق من اليمن باتجاه الرياض، وهي استقالةٌ أُعلنت، على غير المُتبع والمألوف، من العاصمة السعودية، بدلًا من تقديمها أولا إلى رئيس الجمهورية. وتكاد تغلق دائرة المصالحات اللبنانية، وتعيد لبنان إلى أجواء الانقسام الداخلي والتوترات الأهلية، مع توقّع وقوف حلفاء الحريري والسعودية، مثل القوات اللبنانية وجزء كبير من المارونية السياسية التي انضوت سابقًا في تكتل 14 آذار، خلف هذا الموقف الذي يتهم إيران بالاستيلاء على القرار اللبناني. وهي أجواء تعيدنا إلى عام 1975، حين اتهم الفلسطينيون بمثل هذا الاتهام، وأدّى ذلك إلى حرب أهلية طاحنة، وانقسامٍ لم يندمل، وتهيئة الأوضاع لاجتياحات صهيونية متتالية على لبنان، تُوّجت باحتلال أول عاصمة عربية، وتنصيب بشير الجميّل رئيسًا على ظهر دبابة إسرائيلية.
تلوح أجواء حرب جديدة على لبنان. ما قام به سعد الحريري زاد من احتمالاتها السابقة، وجعلها أكثر من ممكنة، لسبب واحد بسيط، أنّها ستُقسم موقف المجتمع اللبناني من الحرب، وقد تنظر بعض فئاته، كما حدث سابقًا، إلى الجيش الصهيوني حليفًا، والفرق في هذه المرة أنّ هذا الموقف ينسجم مع مواقف أنظمة عربية، ترى في العدو الصهيوني حليفًا في مواجهة ما تزعم أنّه الخطر الإيراني. وهو ما عبّر عنه بوضوح أحد أعضاء كتلة الحريري النيابية، عقاب صقر، في حديثه لتلفزيون المستقبل، حيث اعتبر الخطر الإسرائيلي تهديدًا حدوديًا، فيما الخطر الإيراني تهديد وجودي.
لم تغب احتمالات الحرب الصهيونية على الجبهة الشمالية طوال الفترة الماضية، بل كانت تزداد مع كل يوم يمرّ، ومؤشرات اندلاع الحرب بقيت قويةً، قوة ما كان يحول دون وقوعها؛ ففي السابق بدا وكأنّ المجتمع اللبناني قد تعافى، ولو جزئيا، من ذيول الحرب الأهلية، ولم يعد هناك من يشير، علنًا على الأقل، إلى التحالف مع الصهاينة، فالحرب على حزب الله ستغدو حربًا على كل لبنان. أمّا المقاومة فقد تعزّزت قوتها بشكل لافت، وكذلك خبرتها القتالية، حيث تقدّر مصادر أنّ في حوزة حزب الله أكثر من مئة وخمسين ألف صاروخ قادر على الوصول إلى جميع الأهداف داخل الكيان، وهو ما حمل العدو على إعادة النظر بترتيباته المتعلقة بجبهته الداخلية كلها. وحسبنا أن نذكر كيف ارتبكت هذه الجبهة، وأُصيب المجتمع الصهيوني بالشلل إبّان محاولة اجتياح قطاع غزة عام 2014، نتيجة تساقط بضع عشرات من الصواريخ، المحلية الصنع في غالبتها، وسط الكيان الصهيوني.
معروفٌ أنّ على قادة الجيوش ورؤساء أركانها العمل على حلّ المعضلات التي تعوق تحقيقهم نصرا مُتخيّلا، ولعلّ أهم النقاط التي واجهت العدو كانت ضعف الجبهة الداخلية، ومحاولة تلافي إصابتها بالشلل في حال وقوع حرب؛ لما لهذا الشلل من ثمن اقتصادي وسياسي ومعنوي باهظ. لذا، لجأ العدو إلى تفريغ خزانات الأمونيا في ميناء حيفا تمامًا، لتلافي وقوع كارثة كبرى في المدينة في حال إصابتها، وهي مادة سريعة الاشتعال بصاروخ. كما أجرى مناوراتٍ كبرى على الجبهة الداخلية، في محاولةٍ لضمان تماسكها في الحرب المقبلة، والأهم أنّه، ولأول مرة في تاريخ الكيان، أقام قاعدة عسكرية يديرها الجيش الأميركي في صحراء النقب، تمتاز بوجود أضخم رادار عسكري معروف حتى الآن. وقد رفضت الولايات المتحدة، حفاظًا على سريته، تسليمه للجيش الإسرائيلي. ولهذا الرادار قدرة على اكتشاف الصواريخ البعيدة والمتوسطة والقصيرة المدى، واعتراضها عبر منظومة مضادة للصواريخ تُدار بأيدٍ أميركية، بعد أن فشلت منظومات سابقة أقامها الصهاينة، مثل منظومة الدرع الواقي.
النقطة الأخرى التي أرّقت مضاجع ضباط الأركان الصهاينة التراجع الكبير في قدرات سلاح البر وقوات المشاة المحمولة، وهو ما ظهر في عدم قدرة هذه القوات على التقدّم واحتلال مناطق جديدة في اجتياحات جنوب لبنان وقطاع غزة، في العامين 2006 و2014، على الرغم من التطوّر غير المحدود في طاقة النيران التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي عبر أسلحته المختلفة، وتحديدًا سلاح الجو، وكذلك تطوّر قدرات الاستطلاع الجوي، والتطوّر التكنولوجي المتعلّق بالحروب في جوانبه المختلفة.
يعود السبب في تخلّف الوحدات الأرضية عن الوحدات العسكرية الأخرى إلى عاملين؛ أولهما، الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا، فقد أصبح قائد السرية أو الكتيبة يقود وحدته عبر الحاسب الآلي، بدلًا من أن يتقدّمهم في الميدان، لكنّ العامل الحاسم والرئيس كان الانتفاضات والهبّات الفلسطينية المتعاقبة، حيث تحوّلت وحدات المشاة إلى شرطةٍ منتشرة على الحواجز، وعُلّقت فترات التدريب الخاصة بقوات الاحتياط لاحتياج الجيش إلى هذه القوات في قمع المنتفضين.
ويتعلق التحدي الثالث الذي تواجهه القيادة الصهيونية بالمعلومات الاستخبارية، إذا لم تنجح أي ضربة إسرائيلية مفاجئة في تدمير الجزء الأكبر من المخزون الصاروخي لدى المقاومة فستُعرّض الخطة العسكرية الصهيونية بأسرها للإخفاق، وهو ما حدث في اجتياح 2006، حين قدّرت القيادة الصهيونية أنّها قادرة على تدمير 70% من المخزون الصاروخي للمقاومة في الضربة الجوية الأولى.
لعلّ هذه العوامل الثلاثة، إضافة إلى توقّعاته بإنهاك قوات حزب الله، واستنزافه في وحل المعارك في الداخل السوري، أدّت إلى تأجيل هذه المواجهة عبر الأعوام الماضية. أمّا في حال قناعة القيادة الصهيونية بقدرتها على حلّ هذه المعضلات، فإنّ قرار الحرب يصبح منوطًا باختيار اللحظة المناسبة.
تتعزّز هذه الفرضية أيضًا عبر التصريحات المتكررة للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عن الاستعداد للحرب، والتي تهدف، في جانب منها، إلى التلويح بها من أجل تجنبها. وكذلك تصريحات القادة الصهاينة بشأن رفضهم تعاظم نفوذ حزب الله وإيران في سورية ولبنان، واعتبار ذلك تهديدًا مباشرًا لهم. كما تتوافق مع إجراءات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاه إيران، ومع اعتبار عدد من الأنظمة العربية إيران ونفوذها في المنطقة الخطر الوجودي الذي يتهددهم. ومن هنا، تصبح المسألة في إطار البحث عن النقطة أو النقاط التي يمكن ضرب هذا النفوذ فيها.
وثمّة عوامل أخرى لا يجوز إغفالها، منها حجم التفاهم أو الاختلاف الروسي الأميركي، وما هو المدى الذي على الروس الذهاب به في تحجيم (أو رفض) تحجيم الدور الإيراني في سورية. وهل تشكل المحاولات المصرية لإنجاز المصالحة الفلسطينية، واحتواء حركة حماس مقدمة لتحييد قطاع غزة في أي مواجهة مقبلة؟
الخلاصة أنّ المؤشرات قائمة بشدة لحرب أو حروب مقبلة، أمّا نتائجها فقد تختلف تمامًا عن رغبة من يخططون لها. وبالنسبة للبنان وما حوله، لا يتعلق السؤال المطروح باحتمال الحرب بل بتوقيتها. وبعد استقالة سعد الحريري، ثمّة سؤال آخر يلحّ بشدة: هل يترافق توتير الوضع اللبناني الداخلي مع توقيت الحرب أم يأتي قبلها أم بعدها؟
وسوم: العدد 745