العنف في المؤسسات التربوية بين الفعل الصارم المتشدد ورد الفعل المتهور

بعد  مرور يومين أو ثلاثة من نشر فيديواعتداء أحد المتعلمين على أستاذه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، نشر فيديو آخر لعملية اعتداء مماثلة، الشيء الذي زاد من استنكار الرأي العام عموما ورجال ونساء التربية خصوصا لما وقع ،والذي يعني تعمد استهداف المساس بكرامة المربين من طرف المتعلمين . وقد تتكرر مثل هذه الاعتداءات مستقبلا  لعدة أسباب نذكر  منها على وجه الخصوص تخلي الأسر المغربية عن دورها في تربية أبنائها حيث تقع معظم تلك الأسر في خطإ الانسياق مع العاطفة المبالغ فيها مع الأبناء الذين يتربون تربية الدلال أو ما يسمى بالعامية " لفشوش "  وأصله فعل فشّ يفشّ  فشاّ إذا أفرغ وطبا من لبن أو وعاء من ماء ، ويقال " لأفشّن وطبك " والوطب سقاء اللبن من جلد الجذع  أي لأذهبن بتيهك وكبرك " وهذا يعني أن "أبناء الفشوش "  هم المدللون الذين بهم تيه وكبر ، وساءت تربيتهم . ويبدأ سوء تربية الأبناء خلال طفولتهم المبكرة حين تستجيب الأسر لكل مطالبهم  مهما كانت وتخضع لها . ومع تقدم الأبناء في السن يستفحل أمر الدلال ، ويتحول في مرحلة المراهقة إلى تمرد وعصيان لما في هذه المرحلة من اندفاع وتحد للكبار بدءا بالأبوين ومرورا بالمربين وانتهاء بغيرهم . وأمام عجز الأسر عن ضبط الأبناء في سن المراهقة يحصل فراغ  كبير في تربيتهم ، فيقع التأثر والتاثير بين المراهقين في السلوك . وكلما كان السلوك طائشا إلا و استهوى هؤلاء المراهقين لأن المراهقة عبارة عن تمرد على كل سلطة لإثبات الذات ، وللإعلان عن التحرر من قيود الكبار التي كانت تقيدهم وهم صغار خلال طفولتهم . ولما كانت المؤسسات التربوية هي الفضاء الذي يرتاده  المتعلمون أطفالا ومراهقين ، فإنها سيئة الحظ هي ومن يشتغل فيها . وأكثر الأطراف احتكاكا بالمتعلمين المربون وعلى وجه الخصوص المشتغلون بالتدريس في الفصول الدراسية حيث يقضون مع المتعلمين زمنا معتبرا . ويرى المتعلمون المراهقون في مهمة المدرسين سلطة يجب أن يتحدوها وأن يثروا ضدها وأن يتمردوا عليها ، ولا تسنح لهم فرصة إلا أظهروا  تمردهم وعصيانهم  على المدرسين. ولما كانت طبيعة التدريس تقتضي ضبط المتعلمين داخل الفصول الدراسية لتسهيل عملية التلقين فإنها تشمل عمليات المراقبة والمحاسبة  والاختبار والامتحان التي  تستفز المتعلمين المراهقين الذين يرفضون  الخضوع  والانصياع لها ،ويعتبرونها مهينة لهم وماسة بكرامتهم. ومما يزيد الطين بلة في سلوك المراهقين  نظام التعليم المختلط حيث يحرص كل جنس  من المتعلمين على لفت أنظار الجنس الآخر بفعل ضغط غريزة الجنس الشديد ، والتي تبلغ نضجها في هذه السن ، ويعاني منها المراهقون عنتا ، ويحاولون تصريفها عن طريق سلوكات معينة منها ربط علاقات عاطفية  فيما بينهم ، والدخول في صراعات بسبب ذلك ، و الحرص على إثارة  انتباه بعضهم البعض عن طريق التباهي بكل شيء : بالهندام ،وبطرق قص الشعر أوحلقه  أو تصفيفه ، وبالدرجات الهوائية والنارية، وبالهواتف الخلوية ، وبتدخين السجائر بما فيها الملفوفة بالمخدرات ، وبالمأكولات والمشروبات ... إلى غير ذلك من الأمور التي لها أهميتها في حياة المراهقين، والتي تبدو للكبار أمورا تافهة  وصبيانية . ونظرا للتنافس الذي يعتبر عنصرا مهما في حياة المراهقين، تشيع فيما بينهم الرغبة في النيل من بعضهم البعض  ومن غيرهم من الكبار عن طريق السخرية والاستهزاء والمبالغة في الضحك والعبث . ويتوحد المراهقون أمام محاولات النيل من الكبار سخرية واستهزاء وعبثا . وأكثر المستهدفين  من الكبار بسخرية المراهقين المربون الذين يجد تلاميذهم في أشكالهم وهندامهم وطرق حديثهم وتصرفاتهم مادة دسمة للتفكه، الشيء الذي يجعل حصص الدروس حافلة بالعبث المستفز للمربين والذي يضطرهم إلى محاولة ضبط الفصول الدراسية  عن طريق النقد والزجر والتهديد والوعيد... إلى غير ذلك من التصرفات التي تكون لها ردود أفعال لدى المراهقين تتفاوت حسب حدتها . فإذا ما كان على سبيل المثال رد فعل المدرس على استفزاز ما صادر عن  متعلم مراهق عبارة عن كلام يعتبره هذا المراهق إهانة ومساسا بكرامته ، فإن رد فعله يكون مماثلا أو أعنف حسب تقييم المراهق لطبيعة ما صدر في حقه من طرف مدرسه ، وحسب وقعه  وتأثيره في نفسه خصوصا حين يجعله الكلام الصادر عن مدرسه موضوع تندر زملائه الذين يتصيدون فرص السخرية من بعضهم البعض بسبب سيادة  روح المنافسة فيما بينهم لإثبات الذوات . وقد يحرض تعاطف المراهقين مع زميلهم الذي يوبخه مدرسه بكلام ما على الثورة والاندفاع للرد بالعنف أو بالكلام النابي . وقد يغري المراهق بالانتقام من مدرسه الذي يوجه إليه كلاما ما الرغبة في نيل إعجاب زملائه خصوصا من الجنس الآخر .

 وهكذا يصير العنف داخل المؤسسات التربوية عبارة عن سلسلة من الأفعال وردود الأفعال المتبادلة بين المدرسين والمتعلمين .

وبالرغم من استهجان الرأي العام تعنيف المتعلم للمعلم ، فإن الأمر يتطلب التريث في الحكم على عنف المتعلم الذي لا يخلو من أن يكون رد فعل على فعل صادر عن معلمه . صحيح أنه لا شك ولا تشكيك في حسن نواي المعلم ، وأنه  يهدف  إلى  محاولة ضبط المتعلم ليهتم بدروسه ولينجز واجباته إلا أن هذا الفعل قد يكون مبالغا فيه ومتجاوزا للحدود المطلوبة في عملية الزجر أو التأديب أو الضبط خصوصا حينما يكون  عبارة عن سب أو شتم أو إهانة أو عنف . وعلى قدر فعل المعلم يأتي رد فعل المتعلم أو قد يكون رد الفعل أقوى وأشد بسبب عامل سن  المراهقة التي يكون فيها المراهق عبارة عن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كل وقت وحين . فإذا ما مس المدرس كرامة المتعلم من خلال الطعن في عرضه وشرفه، فرد فعل المتعلم سيكون حتما من جنس الفعل أو أكثر . ومما يتسبب في ثورة المتعلم المراهق ضد مدرسه الشعور بالتهميش والإهمال  داخل الفصل أمام الزملاء ، وعدم الاهتمام به . ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المربين تقسيم المتعلمين إلى مجموعة من  شيعتهم  وأخرى من خصوم، الشيء الذي يثير فريق الخصوم ويستفزهم ، وغالبا ما يكون الخصوم من المتهاونين الذين لا ينجزون واجباتهم ويكثرون من الغياب وعدم الاهتمام بالتحصيل ، وينشغلون بالتشويه على زملاء الفصل  ، فتكون النتيجة حقد المتهاونين على زملائهم، الشيء الذي يجعلهم يصبون جام غضبهم على مدرسهم . وقد  ينسج بعض المتعلمين من موضوع اهتمام مدرسهم بأحدهم أو إحداهم   حكايات متخيلة ،ويذهبون بعيدا في تأويلها وسوء الظن به ، وتكون سببا في اصطدام وصراع معه قد يفضي إلى عنف . وقد لا تخلو بعض تلك الحكايات من صدق حين يغيب الوازع الخلقي ، وتنتقل  عدوى المراهقة إلى من يفترض فيه أن يسد مسد الأب  المنزه عما يسيء إلى وظيفته النبيلة .

ويبدو أن ظاهرة العنف داخل المؤسسات التربوية يجب أن تحظى باهتمام الخبراء من أجل البحث عن الطرق الكفيلة باستئصالها نهائيا من مجتمعنا، وذلك عن طريق دراسات علمية  جادة ،وعميقة ، ومسؤولة تفضي إلى معالجة واقعية  لهذه الآفة، وذلك بالفهم الجيد لطبيعة المتعلمين  المراهقين ،والتعامل معهم بما يساهم في توجيههم التوجيه الصحيح عوض التخلي عنهم، وتكريس إهمال الأسر لهم وعجزها عن مواصلة تربيتهم بما يناسب  فترة المراهقة  التي تقتضي من أولياء الأمور ومن المربين الكثير من اليقظة ،والخبرة  في التعامل مع المراهقين إلى غاية عبورهم تلك الفترة الحاسمة في حياتهم بسلام .

وأخيرا لا بد أن يمتلك الجميع الشجاعة الأدبية للاعتراف بالأخطاء ، مع فضيلة التراجع عنها . وحتى لا تكون صورتنا عن متعلمينا قاتمة يتعين علينا أن ستحضر الرأفة بهم والإشفاق عليهم ، والأخذ بأيديهم  حين تجنح بهم مراهقتهم. وخير ما نختم به  هذا المقال الذي يتوخى النصح الذي يفرضه ديننا الحنيف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه  ولا ينزع من شيء إلا شانه ". ولا شك أن الرفق بالمتعلمين  المراهقين سيزينهم ، والشدة معهم ستشينهم .   

وسوم: العدد 745