جواز أخذ الجزية باسم الصدقة (الزكاة)

دندل جبر

يتساءل بعض المواطنين ويتباحثون فيما بينهم عن جواز أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب باسم الصدقة (الزكاة) كما هو الحال بالنسبة للمسلمين في الدولة الإسلامية؟

وبالرجوع إلى مصادر الأحكام التي تبحث في مثل هذه الأمور، وجدنا أن بعض القبائل العربية التي تدين بالنصرانية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، طلبوا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقبل منهم الجزية باسم الصدقة (الزكاة) أسوة بالمسلمين من أبناء القبائل العربية الأخرى، ولو كانت مضاعفة عما يدفعه المسلمون فقبل منهم ذلك.

وقد جاء في الروايات التي تتحدث عن ذلك الأمر ما يلي:

- عن داود بن كردوس قال: صالحت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن بني تغلب، بعدما قطعوا الفرات، وأرادوا أن يلحقوا بالروم، على أن لا يصبغوا صبياً ولا يُكرهوا على دين غيرهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفاً من كل عشرين درهماً. (ابن القيم – أحكام أهل الذمة – جـ 1 ص76 – 77، أبو عبيد – الأموال – حيث قال: قوله: لا يصبغوا في دينهم: لا ينصروا أولادهم ص217).

- وعن زُرْعة بن النعمان أو النعمان بن زُرْعة: أنه سأل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكلمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر رضي الله عنه قد همّ أن يأخذ منهم الجزية فتفرقوا في البلاد، فقال النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال، إنما هم أصحاب مرون ومواشِ، ولهم نكاية في العدو، فلا تعن عدوك عليك بهم. فصالحهم عمر رضي الله عنه، على أن أضعف عليهم الصدقة، واشترط عليهم ألا يُنَصروا أولادهم. (ابن القيم – المصدر السابق – أبو عبيد – المصدر السابق).
يقول ابن قدامة الحنبلي:

"فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فصار إجماعاً، وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم: ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعي..." (المغني لابن قدامة – جـ 10- ص590 – 591) وانظر: أحكام القرآن للجصاص – جـ 4 ص286).

وقال الجصاص في أحكام القرآن:

"ولا يحفظ عن مالك في بني تغلب شيئاً" (أحكام القرآن – جـ 2 ص286).

ويقول ابن القيم:

"وقد استثنى أبو حنيفة رحمه الله الصبيان والمجانين ممن تؤخذ منهم الجزية باسم الصدقة (الزكاة)".
وأما الشافعي – رحمه الله تعالى – فإنه قال: المأخوذ منهم وإن كان باسم الصدقة فلا تؤخذ إلا ممن تؤخذ منه الجزية، فلا تؤخذ من امرأة ولا صبي ولا مجنون، وحكمها عنده حكم الجزية وإن خالفتها في الاسم.

ويقول ابن القيم أيضاً: "وهذا الحكم يختص ببني تغلب نص عليه أحمد" (ابن القيم أحكام أهل الذمة – جـ 1 ص79 – 83) وهذا يعني أن الحكم لا يتعدى إلى غير بني تغلب من النصارى، حسب رأي الإمام أحمد.
ويقول الماوردي:

"فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم ضوعفت كما ضاعف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تنوخ وبهراء وبني تغلب بالشام" (الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي – دار الكتب العملية – بيروت – طـ 1 – ص184)

- ووجهة نظر الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله – تعميم فريضة الزكاة على غير المسلمين كما هي مفروضة على المسلمين، وذلك عوضاً عن الجزية الواجبة عليهم. حيث يقول رحمه الله في سياق مشروع قانون الزكاة الذي قدم إلى مجلس النواب المصري سنة 1367هــــ - 1947م ما يلي:

"إن الزكاة في أصل وجوبها لا تجب إلى على المسلم ولا تجب على غير المسلم.. ولكن الدول الإسلامية يجب عليها سد حاجة المعوزين من غير المسلمين، فالتكافل الاجتماعي الإسلامي يعم ولا يخص طائفة دون الأخرى لأنه رحمة الله والرحمة تعم..

وكان عمر رضي الله عنه ينفق على غير المسلمين من أموال الجزية، والآن لا تفرض الجزية، فلم يبق إلا أن تفرض عليهم الزكاة مراعاة لقانون المساواة، وإن ما يؤخذ منهم يعود عليهم، وفوق هذا فالزكاة شريعة عامة في كل الأديان السماوية وجيراننا من غير المسلمين أهل دين سماوي" (عقد الذمة في التشريع الإسلامي – محمد بن عبد الهادي المطردي – ص320) نقلاً عن الدكتور محمد خير هيكل – الجهاد والقتال في السياسة الشرعية – جـ 3 ص1466).
ويتساءل الدكتور محمد خير هيكل قائلاً: هل يجوز للدولة الإسلامية إذا رأت أن هناك مصلحة.. أن تعقد الذمة لشعب من الشعوب غير الإسلامية على أساس فرض الزكاة عليهم مساواة لهم بالمسلمين، باعتبار أن ذلك يقوم مقام الجزية الواجبة، وإن تبدل اسمها من جزية إلى زكاة أو صدقة؟

ثم يجيب على تساؤله بنفسه: والجواب على هذا السؤال هو أن جمهور الفقهاء أجاز ذلك للإمام حين تدعو إليه المصلحة على اختلاف في تفصيلات هذه المسألة، ليس من غرضنا هنا الخوض فيها، أقول: على هذا حين يجري الاتفاق على أن يؤخذ ممن تعقد لهم الذمة مثل ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة، لا أكثر ولا أقل، فإنه يجوز ذلك بحكم أن الجزية التي هي من النوع الذي يتم بالتراضي والصلح إنما يراعى فيها ما جرى عليه الاتفاق". (الدكتور محمد خير هيكل – الجهاد والقتال في السياسة الشرعية – جـ 3 – ص1466 0 1467).

وبجواز أخذ الجزية باسم الصدقة (الزكاة) حسبما أقرها وفعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واعتبارها إجماعاً حيث لم يعترض عليه أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباعتبارها حكماً شرعياً من أحكام المسلمين من قبل عدد من الأئمة أمثال الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام أبي يوسف وابن أبي ليلى والحسن بن صالح، وباعتبار أن الذميين من رعايا الدولة الإسلامية، وإقامتهم فيها إقامة دائمة، وباعتبارهم مواطنين كما هو الحال بالنسبة لمواطني الدولة من المسلمين.

ولعل إعمال قاعدة المعاملة بالمثل والأخذ بها في إطار جواز أخذ الجزية باسم الصدقة، حيث يعامل المواطنون المسلمون في الدول التي يغلب على مواطنيها الديانة النصرانية بالمساواة مع بقية مواطني هذه الدول وخاصة في الضرائب المالية التي تفرضها على كافة المواطنين من نصارى وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ومنهم المسلمون بالمساواة القانونية.

وبهذا تتحقق المساواة بين مواطني الدولة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين في هذه التسمية، مع العلم أن ما يؤخذ من المسلمين هو ديانة وما يؤخذ من الذميين هو ضريبة بدل الجزية.