مراجعات (9) النخب السورية و حصاد الاغتيالات

أ.د. عبد العزيز الحاج مصطفى

كانت السياسة التي بدأتها السلطات الفرنسية في سورية منذ سنة1918 و التي استمرت إلى سنة1946؛ قد أدت إلى (سياسة القبول بالأمر الواقع) لدى الساسة السوريين!! وقد أصبح جنود غورو الذين رباهم على عينه منذ سنة1924م الجيش العربي السوري!! و كانت هذه المسألة نقطة فاصلة و مهمة في تاريخ سورية الحديث.

 ولما كان قرار غورو بإنشاء قوات المشرق الخاصة؛ ينص على أن تكون عمدة ذلك الجيش من العلويين؛ فقد كان العلويون يشعرون بتمايزهم من بقية المكونات السورية، و بحظوتهم لدى المستعمر الفرنسي!! و كان هذا الشعور بمثابة النقطة الثانية الفاصلة و المهمة، في تاريخ الجيش السوري، و في علاقاته مع بعضه البعض!!

 و كان الشعور بالامتهان، الذي كان يسيطر على كثير من ناشئة العلويين، و الذي أدخلهم في دائرة التفكير الإثني الذي يخضع لمعايير (نحن وهم) – مع أنه كان مفترضا و متخيلا – قد أدى بهم إلى مايشبه النفاق في العلاقات العامة، و الذي بلغ حد التآمر في بعض مراحله، وهذه المسألة كانت بمثابة النقطة الثالثة الفاصلة و المهمة في علاقات العلويين مع المكونات الأخرى بعامة، و في علاقاتهم مع زملائهم من العسكريين بخاصة!!

 و النقاط الثلاث من حيث كونهم ربوا على أعين الفرنسيين، و من حيث شعورهم بالتمايز و أحقيتهم في ملأ الشاغر في الجيش العربي السوري، وقد خصوا به دون سواهم، و من حيث شعورهم بالامتهان من قبل المكونات الاخرى، كل ذلك قد وضعهم وجها لوجه في مواجهة تلك المكونات، وفي مقدمتهم المكون السني الذي يوصف بأنه الأكثر عددا بين مكونات المجتمع السوري.

 وقد كان هذا الخلاف على أشده مع مطلع الخمسينيات حيث كانت المنطقة تشهد حراكا طائفيا يقوده و يوجهه الأجنبي. وقد اشتعل فتيل الطائفية ببروز القطبين المتنازعين اللذين يتمثلان بـ:

1-  الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي كان يريد قطع سورية عن أصولها العربية و الإسلامية و العودة بها إلى الأصول الآرامية و الفينيقية – وهي مسألة تثير قرف السوريين بعامة – فضلا عن التنكر للتاريخ الوطني، و عن الضرب عرض الحائط بعلاقة سورية مع شقيقاتها العربيات، وقد كانت تطلعاتها صادقة من أجل التوحد معهم، وهذا ماكان مرفوضا جملة و تفصيلا من قبل ذلك الحزب؛ و بخاصة نخبه المثقفة .

2-  حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يمتاز في ذلك الوقت، بـ(نظريته الانقلابية) و بـ(شعاراته القومية). و الذي بالرغم من نشأته على أيدي عناصر من الأقليات، إلا أن أعدادا كبيرة من السنة استطاعت أن تنتسب إليه. وأن تتصدر زعامته و أن يكون لها حضورها في الجيش و القوات المسلحة حتى قيل: إن مرحلة الخمسينيات كانت مرحلة قيادة المكون السني للحزب و الجيش معا، و هؤلاء – حقيقة – هم الذين طرحوا مشروع الوحدة، و هم الذين نفذوه.

 ولما كان العلويون بتكونهم الثقافي أقرب إلى الحزب القومي السوري فقد انضم كثير من نخبهم المثقفة إلى ذلك الحزب؛ كما أنهم دخلوا في صدام مباشر مع حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كانوا على نقيض منه، وقد اتخذ الصدام في ذلك الوقت مسارين مختلفين:

 المسار الأول – المسار الطائفي و هو الأوسع دائرة وقد كان بين العلويين و السنة.

 و المسار الثاني – المسار الحزبي: وهو الأضيق دائرة من المسار الأول، وقد كان بين الحزبين؛ الحزب القومي السوري الاجتماعي، و حزب البعث العربي الاشتراكي الذين دخلوا في صراعات دامية، وهذه الصراعات تمخضت عن ثلاثة مشاهد:

 المشهد الأول – مشهد مقتل المقدم محمد ناصر آمر القوة الجوية:

 لقد كانت أولى حلقات الصراع بين المكونين السني و العلوي قد بدأت بالمقدم محمد ناصر آمر القوة الجوية، في أثناء حكم الشيشكلي. وذلك في سنة 1950 وقد بدا في حينه و كأنه الفصل الأول من دراما الاغتيالات، وقد اتهم بالاغتيال المقدم إبراهيم الحسيني آمر الشعبة الثانية و مرافقه الملازم عبد الغني قنوت؛ اللذين برّأتهم المحكمة بعد ذلك.

 ولدى البحث في خلفية المسألة:

1-  نجد أن المقدم محمد ناصر آمر القوة الجوية في العام 1950م، كان محسوبا على مجلس العقداء الذي يتزعمه الشيشكلي. و كان قد أسهم مساهمة فعالة في الانقلاب الذي قاده الشيشكلي.

2-  و أن الرجل ليس غمرا فقد كان رئيس الوفد السوري إلى رودس، في مفاوضات الهدنة بعد حرب 1948م مع اليهود.

 و في الجانب الآخر:

1-  كان أحد أقطاب العلويين و من زعمائهم. وقد كان من أتباعه يومئذ المقدم غسان جديد الذي كان طائفيا فوق العادة.

2-   وكانت بنية المشروع الطائفي تثبت أنه على علاقة بالفرنسيين و الإنكليز الذين أثبتت الأحداث أنهم هم الذين ولّعوا فتيل الطائفية، أو اشتغلوا عليها، قصد جعل البلد يغرق في صراعاته، التي تتعارض مع المصالح العليا للوطن التي كانت تعني الدولة المستقلة ذات السيادة. وقد كان هم النخب المثقفة يومئذ ينحصر في ذلك.

3-  أن رئيس المخابرات في حينها العقيد سعيد حبي أبلغ الشيشكلي أن محمد ناصر يخطط للقيام بانقلاب بمساعدة خارجية. وهذا يعني ارتباطه بالخارج، بل وعدم استوائه!!

 وإذا ربطنا بين النفوذ البريطاني في المنطقة ومحاولة البريطانيين استغلال الطائفية لمصالحهم الخاصة؛ أدركنا عمق المسألة. فالنخب يومئذ و منهم العسكريون كانوا أسرى المخططات الطائفية التي كانت توضع لغرض إحكام السيطرة على سورية بكاملها. و هذا الكلام ذكره أكرم الحوراني في مذكراته في الصفحة (1226)، وذكره مطيع السمان في الصفحة 46 بعد المئة في كتابه الموسوم بـ (وطن و عسكر) الذي نشره سنة 1995م. وهذا يؤكد تورط النخب في ذلك؛ مع معرفتهم المسبقة بها. فأكرم الحوراني – وهو أحد قادة حزب البعث العربي الاشتراكي كان ذا نفوذ في الجيش السوري وذا دالة على الضباط وقد أثر عنه انه كان يقول للشباب العلويين الذين كان يرعاهم في أثناء دراستهم: " متى أرى النجوم تتلألأ على الأكتاف." و تلؤلؤ النجوم على أكتافهم بعد ئذ هو الذي جعلهم يفكرون طائفيا، و يعملون من أجل الطائفية.

 المشهد الثاني – مشهد مقتل العقيد عدنان المالكي:

 مثلما كانت الصراعات قد بدأت طائفية بين المكونين السني و العلوي بالمقدم محمد ناصر، فقد ثنت بالعقيد عدنان المالكي بدوافع طائفية أيضا، و بمصالح دولية و بصراع ناشب بين حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه (العفلقي و الحوراني) و الحزب القومي السوري الاجتماعي. و قد كانت الجراءة في قتل المالكي أكثر جريمة منها على قتل محمد ناصر. ففي الوقت الذي نجد فيه أن محمد ناصر اغتيل عن بعد و من قبل مجهولين، نجد عدنان المالكي يغتال جهارا نهارا في أثناء المباراة التي كانت بين نادي الجيش السوري، و نادي خفر السواحل المصري و القاتل شخصية معروفة، فهو رقيب في الشرطة العسكرية التي تتولى حراسة الضباط القادة الذين حضروا المباراة مع ضيوفهم، و زيادة على ذلك فهو عضو في الحزب القومي السوري الاجتماعي. الذي يتزعم جناحه العسكري في الجيش السوري المقدم غسان جديد!!

 ولدى البحث في خلفية المسألة نجد:

1-  أنه منذ الانقلاب على الشيشكلي غلب نفوذ القوميين في الجيش و القوات المسلحة. و أصبح تكتلهم هو الأقوى.

2-  أن تكتل الحزب القومي السوري الاجتماعي وجد نفسه بعد مقتل المقدم محمد ناصر في مواجهة حقيقية مع المكون السني بعامة؛ بل و متهما بجريمة قتل راح ضحيتها أحد الضباط القادة!

3-  أنه بالرغم من أن حزب البعث نشأ على أيدي أبناء الأقليات إلا أن السيادة فيه أصبحت للمكون السني بعد رحيل الشيشكلي، و هو الأمر الذي نتج عنه:

 آ- العمل على التقارب مع مصر، و التفكير الجاد بالوحدة معها.

 ب- شعور القوميين السوريين بالغبن، و محاولتهم تصفية حساباتهم مع قتلة محمد ناصر فكان خيارهم قد وقع عدنان المالكي الضابط الشاب الذي ينتمي إلى المكون السني بأصوله الاجتماعية. و الذي يعرف بميوله القومية و الماركسية، و بقربه من البعث و البعثيين و ذلك في سنة 1955م و بعد ما لايقل عن خمس سنوات من قتل محمد ناصر. و هذه المسألة هي التي جعلت المراقب السياسي يتساءل عن سبب اختيارهم لعدنان دون سواه! و الحقيقة أن ثمّت أسباب لها علاقة بكل مايجري على الساحة السورية من صراعات أو اضطرابات. و هذه الأسباب تتمثل بـ:

1-  المصالح الدولية التي تريد العودة إلى سورية. وقد جعلت من الطائفية مدخلا لها.

2-  الجوار الإقليمي الذي يعد أكثر ارتباطا بالمصالح الأجنبية و منها المصالح الأمريكية و البريطانية على وجه التحديد.

3-  التوجهات الطائفية لدى الأقليات التي ينوس في دائرتها الحزب القومي السوري الاجتماعي. و التي انتهى بها المآل إلى اغتيال العقيد عدنان المالكي.

 المشهد الثالث تمثّل بمقتل غسان جديد:

 لقد كانت زعامة العلويين قد آلت إلى غسان جديد بعد مقتل المقدم محمد ناصر. وقد كان غسان ناشطا في مواجهة المكون السني و فضلا عن ذلك فهو يتزعم أقوى فصيل مناوئ في الجيش و القوات المسلحة!، و هو رمز طائفي بارز، وقد أثر عنه أنه أطلق على الفوج الذي كان يقوده سنة 1948 في حرب فلسطين اسم ( الفوج العلوي) . و قد كان يتزعم العلويين في الجيش و القوات المسلحة فضلا عن كونه عضوا بارزا في الحزب القومي السوري.

 ولدى البحث في خلفية المسألة نجد:

1-  أن الطائفية - و هي تدخل في بنية المكونات الحزبية – هي التي كانت وراء قتل غسان جديد.

2-  أن الصراعات الحزبية هي التي سرعت من أمر القتل – وقيل ماقيل عنها – فهي جاءت ردا على مقتل عدنان المالكي وجزءا من مخطط معد مسبقا، قصد السيطرة على الجيش و القوات المسلحة.

3-   أن المصالح الأجنبية – بخاصة – قد تكون هي وراء الاغتيال؛ أو على علم به من أجل خلط الأوراق من ناحية، و من أجل تعميق العداء بين المكونين السني و العلوي من ناحية أخرى.

 وفي ختام هذه المشاهد الدرامية، و نحن نلقي نظرا على النخب المثقفة – يومئذ – و الضباط القتلى بعض منهم – لانملك إلا أن نقرر الحقائق التالية:

1-  الحقيقة الأولى – تتعلق بحوادث القتل بخاصة: فهي من وجهة نظرنا؛ مرفوضة و مستنكرة، و على وفق المقاييس الحضارية. فقد جرت البلاد إلى دائرة الصراع الداخلي، و الفعل العصابي الذي بدا و كأنه من ضروريات الحل الوطني.

2-  الحقيقة الثانية – تتعلق بخنادق العداء التي حفرت بين مكونات الشعب السوري: و هي خنادق أدت إلى العنف و إلى مزيد من العداء، وقد أثبتت الحوادث اللاحقة ذلك.

3-  الحقيقة الثالثة – وهي الأهم – تتعلق بالدولة المستقلة ذات السيادة: فقد أصبحت ضعيفة و مهلهلة!! وهذا أمر كان له مابعده، وقد قادها ضعفها و هيمنة النخب اللامنتمية عليها إلى أتون من التصفيات غير المنتهية، وقد عدها القتلة غنيمة لهم؛ فانتقلت من ضعف إلى ضعف، حتى أصبحت على ماهي عليه اليوم!!!

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

رئيس وحدة الدراسات السورية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 750