نظرة موضوعية فى قضايا الحل النهائى للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، قضية الحدود والمستوطنات(3)
ضمن سلسلة مقالات نتناول بمنهج تحليلى قضايا الحل النهائى للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وسنخصص هذا المقال للقضية الثالثة وهى قضية الحدود والمستوطنات، والتى بموجبها سيتحدد شكل الدولة الفلسطينية فى نهاية الصراع . فلقد بدأ الاستيطان مراحله الأولى عقب احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة فى العام 1967، ضمن خطة ممنهجة طويلة الأمد؛ استهدفت فى الأساس فرض أمر واقع على الأرض، من شأنه أن يحول دون قيام أى كيان سياسى فلسطيني متواصل،علاوة على استحالة أن يكون له سيادة فعلية على أراضى الضفة والقطاع، وضمن هذين المحوريين لعبت كل المشاريع الاستيطانية على زرع الضفة والقطاع بالمستوطنات والمستوطنين، لكن إشكالية أساسية كانت دوما تشكل عائق فعلى على الأرض لكل تلك المشاريع، ألا وهى الديمغرافيا الفلسطينية المتفجرة، والتى لم تفلح إسرائيل من معادلتها بموجات الاستيطان للمهجرين اليهود الذين جلبوا من كل أسقاع المعمورة، ليعاد زرعهم فى أراضى الضفة والقطاع، وهو ما أجبر اسرائيل على تعديل الكثير من خططها ومشاريعها الاستيطانية، خلال العقود الثلاثة الماضية . وأهم تلك التعديلات كان فى التخلى عن الاستيطان فى قطاع غزة وإخلاءه من المستوطنات، حيث أن الديمغرافيا الفلسطينية قد حسمت الأمر لصالح الفلسطينيين به، وجعلت من المستحيل على إسرائيل عمليا أن تستمر فى مشروعها الاستيطانى فى قطاع غزة؛ الذى أصبح الأعلى كثافة سكانية فى العالم، وفى المقابل ركزت اسرائيل كل جهودها الاستيطانية فى الضفة الغربية؛ الأقل كثافة سكانية، إلا أن معضلة إسرائيل بقيت كما هى الديمغرافيا الفلسطينية المتفوقة دوما، ولمعالجة تلك المعضلة تفننت إسرائيل فى ايجاد حلول لتلك المعضلة، وكان أهمها وأخطرها تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق عبر اتفاق أوسلو منطقة(A) والتى تقع تحت سيادة سلطة الحكم الذاتى المحدود، وتشكل ما نسبته 18% من مساحة الضفة، والتى تقع داخلها أعلى كثافة سكانية فلسطينية، وتضم فى معظمها المدن الرئيسية، ومعظم مخيمات اللاجئين، ومنطقة(B) والتى تشكل ما نسبته 19%، و تخضع لسيادة مشتركة بين السلطة واسرائيل، وهى منطقة بها كثافة أقل نسبيا وتضم فى معظمها تجمعات قروية تشكل سلسلة تواصل ديمغرافى بين المدن الرئيسية، ومنطقة (C) والتى تخضع إداريا ومدنيا وعسكريا للسيادة الاسرائيلية الكاملة، وهو ما يعنى أن أى تصاريح أو رخص بناء تخضع مباشرة لقرار الحاكم العسكرى الاسرائيلى، مما يعنى تحكم إسرائيل الكامل فى حركة النمو العمرانى فى تلك المنطقة والتى تعد الأقل كثافة سكانية، وتشكل قرابة 63 % من مساحة الضفة الغربية، وتضم تلك المنطقة كل حدود الضفة مع إسرائيل والأردن إضافة إلى القدس الشرقية ومنطقة غور الأردن، والتى تعد المنطقة الذهبية لكل فلسطين التاريخية، لما تحويه من ثروات طبيعية ظاهرة كأراضى خصبة ومصادر مياه تستغل اسرائيل ما يزيد عن 90% منها لصالحها، وثروات طبيعية مخفية معدنية ونفطية وغازية، كذلك تخفى تفاصيلها فى خرائط سرية غير معلنة، وضمن تلك التقسيمة؛ استطاعت إسرائيل حصر الكثافة السكانية فى مناطق((A فى حل مبتكر لمعضلة الديمغرافيا، وبدأت فى نشر بؤرها الاستيطانية، وتوسيع مستوطناتها فى مناطق(BوC)والتى تركزت غالبيتها فى منطقة القدس، والتى كان لها نصيب الأسد من الاستيطان، وقد أفردنا لها مقال تفصيليا فيما يخص قضية القدس، أما المناطق الأخرى التى شهدت نشاط استيطاني ممنهج، فكانت المناطق الواقعة بمحاذاة الخط الأخضر إلى الشرق، كمستوطنات أرئيل التى امتدت فى عمق الضفة، وبيتار عيلت غرب بيت لحم ومودعيت عيلت غرب رام الله، ومعالى أدوميم شرق القدس، وجميع تلك المستوطنات أصبحت مدن مأهولة بعشرات آلاف المستوطنين، إضافة الى ذلك منطقة غور نهر الأردن الذى زُرع بسسلسلة من المستوطنات الوظيفية قليلة الكثافة السكانية، والتى ترتبط بمشاريع زراعية استيطانية ضخمة؛ كمستوطنة معالى افراييم .
لقد استطاعت إسرائيل خلال نصف قرن من الاحتلال أن تزرع 121 مستوطنة رسمية فى الضفة الغربية؛ إضافة لما يزيد عن 140 بؤرة استيطانية عشوائية؛ يسكنها قرابة 850 ألف مستوطن؛ يعيش نصفهم تقريباً فى ما يعرف بالقدس الكبرى؛ وجلهم من اليهود الحراديم المتشددين دينيا، والذين يؤمنون بأن أراضى الضفة هى قلب الحلم اليهودى لأرض إسرائيل؛ طبقا لروايتهم التاريخية المزعومة التى تعتبرها مملكتى يهوذا؛ وهى طبقا لتعريفهم المنطقة الممتدة من القدس حتى جبال الخليل جنوباً؛ والسامرة التى تمتد من جبال القدس وحتى الجليل الأعلى شمالاً، وبالمناسبة فإن هذا التعريف هو ذاك نفسه التعريف الرسمى للدولة العبرية التى تعتبر الضفة الغربية مناطق يهودا والسامرة .
والجدير بالذكر أن أولئك المستوطنين وتلك المستوطنات، والتى زُرعت فى أراضى الضفة يشغلون فعلا أقل من10%من مساحة الضفة الغربية، وهو ما يعكس حقيقة العجز الديمغرافى لاسرائيل، والذى عوضته بالسيطرة العسكرية والأمنية المرافقة لتلك المستوطنات، والتى تسيطر وتتحكم بموجبه فيما يزيد عن 60% من مساحة الضفة الغربية . وتتركز الكثافة الديمغرافية الحقيقية للاستيطان اليوم فى منطقة القدس ومعالى أدوميم، وكذلك فى مناطق غرب الضفة كأرئيل وبيتار عليت ومودعيت، فتلك المناطق تحوى ما يقارب 70% من المستوطنين وهو ما يعطينا فكرة على التصور الاسرائيلى للوضع الدائم فى الضفة الغربية؛ ضمن أى تسوية قادمة، والذى يتمثل فى ضم تلك المناطق لإسرائيل.
وجاء القرار الأمريكى الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل دون تحديد ماهية تلك القدس؛ كخطوة تمهيدية لشرعنة الأمر الواقع الاستيطانى فى منطقة القدس، بانتظار المزيد من الخطوات، والتى من شأنها شرعنة باقى الواقع الاستيطانى عبر ضم باقى الكتل الاستيطانية ذات الكثافة السكانية العالية آنفة الذكر، والتى فصلت عمليا عن الضفة عبر الجدار العازل، ولنجد أنفسنا فى نهاية المطاف أمام خارطة لدولة فلسطينية بلا قدس؛ وتخترقها فى العمق حدود دولة إسرائيل التى ستتسع حدودها الشمالية الشرقية عشرات الكيلو مترات بفعل ضم مستوطنات غرب الضفة الغربية، وإذا ما أصرت إسرائيل على تواجدها العسكرى على طول حدود نهر الأردن، فإن الدولة الفلسطينية ستكون بلا حدود سيادية فى الشرق كما فى الغرب، وهو ما يعنى أننا أمام كيان فلسطينى يقع بمجمله داخل حدود إسرائيل، إضافة إلى ذلك طبيعة الترتيبات الأمنية والاقتصادية التى ستسفر عنها تسوية من هذا القبيل، والتى تستند فى الأساس للأمر الواقع القائم على الأرض، فإننا سنكون فى نهاية المطاف أمام كيان فلسطينى لا يحمل من مقومات الدولة غير اسمها .
أى تسوية الصراع طبقاً للأمر الواقع المفروض على الأرض بقوة السلاح، هو بمثابة وضع بصمات الضحية على السلاح الذى قُتل به، لتبرئة القاتل الحقيقى من جريمة العالم بأسره شاهداً عليها، وأدان القاتل وتعاطف مع الضحية، ولن يستطيع أى سياسى القبول بتوقيع تسوية من هذا القبيل، فهو بذلك يعترف بأن الضحية قد انتحر، وأن القاتل برئ، ويوقع على شهادة انتحار شعب بأسره .
وسوم: العدد 751