لماذا ثار الأحرار في سورية ؟
"يا من حرّضتم الشعب على الثورة، لقد تسبّبتم في تهجير الملايين، وسفك دماء مئات الآلاف، ويُتم قرابة المليون طفل؛ فأي ذنب أعظم من هذا؟".
"ماذا قدّمت الثورة غير القتل والتشريد والتخريب والتعذيب؟! حتى هام السوريون على وجوههم في كل أصقاع الأرض فسكنوا العراء، واستجْدَوا لقمة الطعام، وظهرت فيهم مآسٍ لا تخطر على بال، والأقسى من ذلك أنهم لا يرون بصيص أمل ولا مؤشر انفراج لما هم فيه، بل تسير أوضاعهم من سيئ إلى أسوأ نحو مجهول لا يعلم أحدٌ مداه".
"أما علمتم أنه لا يجوز الخروج على الإمام بدون قدرة؟ فحتى لو قتل النظام واعتقل وعذب بعض أفراد من الشعب، فهذا أقل مفسدةً من قتل واعتقال مئات الآلاف، وانتهاك أعراض آلاف الأخوات، وتدمير المدارس والمستشفيات، ماذا يضرُّ لو سكت الجميع وتحمّلوا هذا الظلم دفعاً لمفسدة أكبر؟ ولو كان الحاكم كافراً فليست عندكم العُدة للخروج عليه، والمفاسد المترتبة أظهر من المصالح المرجوة".
"من يستطيع أن يسمّي لنا مصلحة ظاهرة واحدة فقط تحققت جرّاء هذه الثورات؟".
"تقولون: لولا تآمر الشرق والغرب لسقط النظام، ألا تعلمون أن التآمر موجود من قبل؟! وكان ينبغي أن تدركوا ذلك ولا تجرِّبوا بدماء الناس وأعراضهم".
هذا بعض ما تقوله شريحة من السوريين (وغير السوريين) اليوم، وربما كان منهم مؤيدون ومناصرون للثورة في سنواتها الأولى، وممن بذلوا لها من أموالهم وأوقاتهم وأبدانهم، فليس كلُّ من يقول هذا الكلام من المتهمين في دينهم، أو المطبلين للنظام والموالين له، لكن طول أمد الثورة وتضحياتها الباهظة، وغموضَ مستقبلها أدى بهم إلى هذا الموقف الصادِّ عن الثورة، حتى صار منطقهم شبيهاً بمنطق من قالوا: "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا"، بل ربما تمادى ليصبح موقفاً ناقماً على من لا يزال مواصلاً لعمله وبذله وخدمته للثورة، حتى كأنهم يحمّلونه وزر الذي يحدث!
وبعض هؤلاء ربما زاد من حَنَقه وغضبه أن تسببت الثورة له بأذىً في نفسه أو أهله أو ماله، أو سفره أو إقامته، أو في التشديد والتضييق الذي أصبح يُعامَل به السوريون في أكثر بلدان العالم، فبدأ ينقِم على الثورة وإن كان على بُعد آلاف الأميال عنها.
وقد بُنيَت مقالاتهم أعلاه على أربع فرضيات رئيسة:
• أن هناك من خطط للثورة ودعا إليها وحرض عليها، وهو من يتحمل وزر ما وصلت إليه الأمور.
• أن الثورة السورية خروج على الحاكم، وقد حذر العلماء من ذلك قديماً وحديثاً.
• أن الثورة فشلت - بالنظر إلى الخسائر في الأرواح والممتلكات - ولم تحقق مكاسب تذكر.
• أن ما آلت إليه الأمور - من تخاذل الصديق وتكالب العدو، ودخول أطراف عديدة إقليمية ودولية إلى ساحة الصراع، ودخول داعش والجماعات التكفيرية إلى الميدان وغير ذلك - كان ينبغي أن يكون معلوماً وواضحاً قبل أن تنطلق الثورة؛ فكان ينبغي – حتى لو ثار الناس من تلقاء أنفسهم - أن تُكبَح جماحهم ويخذَّلون عن الثورة حتى لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة!
دعونا نناقش صحة هذه الفرضيات، وعليه تتضح "وجاهة" ما بُنِي عليها:
الفرضية الأولى: هناك من خطط للثورة وحرض عليها، فهو يتحمل وزرها.
لدراسة صحة هذه الفرضية نسترجع مسيرة الثورة، وغني عن القول أننا هنا نعد الثورة "خطيئة" تنزلاً مع أصحاب هذه المقالات، وإلا فما كنت أحسب أن نشهد زمناً نترك فيه إدانة الجلاد، ونبحث عن دليل إدانة الضحية!
بدأت الثورة من صبية في درعا خطُّوا على الحيطان "إجاك الدور يا دكتور" تأثراً بجيرانهم في الربيع العربي؛ فهل كان هذا مخططاً له؟ وهل بدأ الخطأ من هنا؟ أكان يجب على الصبية أن لا يمزحوا هذا المزاح الثقيل ويورطوا الناس في ثورة! أم أنه وزر آبائهم وأمهاتهم الذين لم يربوهم على الذل والخوف فانفلتت منهم هذه الفلتات؟!
تعرض هؤلاء الفتية للتعذيب الشديد، ولمَّا طالب آباؤهم بإطلاق سراحهم، ووجِهوا ببذاءة وإهانة بالغتين، وقيل لهم: انسوهم وأنجبوا غيرهم، أو أرسلوا نساءكم نقوم باللازم بالنيابة عنكم!
هل ما فعله أهالي الصبية هو تحريض على الثورة؛ إذ كان ينبغي لهم أن ينسوا أبناءهم كما قيل لهم، وأن "يبلعوا" الإهانة والبذاءة التي تلقَّوها؟ أم أنه لا يلام الآباء الملهوفون أن يسعوا في رفع الظلم عن أنفسهم وإطلاق سراح أبنائهم بكل وسيلة؟
على إثر ذلك خرجت المظاهرات في درعا، فاستُقبلت بالرصاص الحي، فتدفقت جموعٌ هائلة من مدن وقرى حوران على درعا وهي تنادي: "الفزعة الفزعة يا حوران"، وارتفعت أصوات المتظاهرين الثائرين مطالِبةً بمحاسبة صاحب الإهانة، والمسؤول عن تعذيب الأطفال وقتلهم؛ فهل هذا تحريض في غير محله، وكان ينبغي لهم أن يعرفوا قدرهم أمام أقدار المسؤولين فلا يتجرؤوا على مثل هذا الطلب؟!
كان يمكن أن لا تتفاقم الأمور لو استجاب النظام لمطالب الغاضبين اليسيرة: عزل مسؤول أمني ومحاسبته، وتغيير محافظ فاسد، وإعادة بضعة عشر طفلاً إلى أُسَرهم، بدلاً من إطلاق الرصاص، ولو فعل لما كانت ثورة؛ أليس النظام إذن هو من حرض عليها؟!
ولما اعتصم الناس في الجامع العمري بدرعا، فتح عليهم جنود الجيش نيران الأسلحة الرشاشة ورموهم بالقنابل فسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فانفجرت المظاهرات في حوران كلها، فتصدَّت لهم قوات الأمن وأطلقت عليهم الرصاص الحي، وسقط العشرات من الشهداء.
هل كان المفروض الآن أن يستوعب الناس الدرس وأن يدفنوا شهداءهم ويعودوا إلى بيوتهم ويرجعوا إلى بيت طاعة النظام؟ هل في الشرائع السماوية أو الأرضية ما يأمر الناس أن يدوسوا على كرامتهم حتى يأمنوا بطش الظالم؟ إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثنى على من قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه ولو أدى إلى قتله؛ أفننهاه أن يغضب لكرامته وشرفه؟
وثارت المحافظات الأخرى لِمَا يحدث في حوران، فقرر النظام إخراج الجيش من الثكنات وتوجيهه إلى المدن الثائرة، بدأ الجيش بحصار المدن واقتحامها، ثم قصفها ودمر أجزاء كبيرة منها، فتشرد أهلها داخل سوريا وخارجها، واستباح الغزاةُ المدن والقرى وذبحوا عائلات كاملة بالسكاكين ذبح الدجاج والنعاج، واعتدوا على الحرائر المؤمنات الشريفات.
لعل نصرة المناطق الأخرى هو التخطيط والتحريض! كان ينبغي لها ألا تتدخل وألا تخرج لنصرة درعا، وليَدَعوا هذه الفتنة التي بدأت في درعا توأد فيها ولا تنتشر إلى غيرها! هل هذه هي تعاليم الدين؟ أم هل هذه هي مقتضيات المروءة؟ بالله عليك تخيل نفسك من أهل درعا، هل ستجد العذر للمناطق الأخرى وهي تتفرج على درعا تُذبَح؟
وعندما أخرج النظام الجيش من ثكناته ووضعه أمام الثوار قال للجنود: أطلقوا عليهم النار، وخيّرهم بين اثنتين: تكون قاتلاً أو تكون مقتولاً، فبدأ الشرفاء من الجنود والضباط ينشقون ويلتحقون بالثوار.
هل نعدُّ الانشقاق تحريضاً؟ هل كان على الجنود الشرفاء أن ينفِّذوا أوامر القتل أو يستسلموا للقتل حتى لا تزيد شراسة المعركة؟
ها هي بداية قصة الثورة إلى أن انفجرت الثورة وانتشرت؛ فهل وجدتم من نشير إليه بأصابع الاتهام بحمل وزر الثورة؟
قد يقال: الفصائل العسكرية، كلا، الفصائل العسكرية لم تبدأ بالتشكل إلا بعد بطش النظام، ومهما قلنا عن سلوكها أو اعترضنا على أدائها فلا يصح أن نحمِّلها "وزر" الثورة، فالفصائل قامت لتنصر الثورة ولم تنشئ الثورةَ ابتداء، وقل مثل ذلك عن الكيانات السياسية والمدنية.
إن الذي يتحمل وزر كلِّ هذا الذي يحدث هو النظام والنظام فقط، لقد بدأت الثورة سلمية، ولكن البطش والإجرام الذي ووجِهَت به مما لا يُحتمل، دَفَعَ الناس إلى حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم، المظلوم والضحية أفعاله مبررة، لكن لا يوجد ما يبرر فعل الظالم مطلقاً، كم مرة قام الفلسطينيون بمقاومة الاحتلال، فواجههم الاحتلال بالعنف والقصف والقتل؟ هل نلوم أهل فلسطين على ما يُفعَل بهم، أو نلوم العدو المحتل الغاشم؟
بل إنني أقول، لو جاز أن يتوقف الناس في شأن الثورة في بداياتها، فإنه بعد ما فعل النظام من فظائع تفوق عن الوصف من إلقاء البراميل على الآمنين، وذبح الناس كالنعاج، واستعمال الأسلحة الكيماوية للقتل بالجملة، واغتصاب الحرائر أمام ذويهن، ومجازر الأطفال، بعد هذا كله أدرك العالم أجمع حقيقة هذا النظام الطائفي الحاقد، ولماذا ثار الناس عليه.
الفرضية الثانية: الثورة خروج على الحاكم.
لا بد من تحرير المعنى الشرعي للخروج على الحاكم، وليس المقام هنا مقام تفصيل فقهي للمسألة، لكن يمكن أن نلخص الخروج الذي حذر منه أهل العلم في أمرين:
الأول: خروج الشوكة، أي الخروج بالسلاح على الحاكم المتمكن.
الثاني: نزع يد الطاعة من إمام شرعي بعد إعطائه البيعة، دون وجود سبب شرعي لذلك.
والسوريون لا ينطبق عليهم كلا الوصفين للخروج، أما الثاني فأظهر من أن يبيَّن، وأما الأول فهم لم يخرجوا بالسلاح لخلع الحاكم ابتداء، وإنما - كما رأينا في الفرضية الأولى - ذهب ثلة من الآباء لاستنقاذ أبنائهم، فلمَّا أهينوا خرج الناس لنصرتهم، فـ "المسلم أخو المسلم لا يظلمُه ولا يخذُله ولا يُسلمه"، "وما منَ امرئٍ مسلم ينصُرُ مسلماً في موضعٍ يُنتَقصُ من عرضِه وينتَهكُ فيهِ من حرمتِه إلَّا نصرَه اللَّهُ في موطنٍ يحبُّ نصرتَه"، خرجوا مسالمين، مطالبين بأبسط حقوقهم، فلما قوبلوا بالرصاص اضطروا إلى حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم، ثم تطور الأمر إلى تحرير الأراضي ليأمنوا فيها على أنفسهم من بطش النظام؛ فأين تجدون في دين الله أن المطالبة بالحقوق خروجٌ؟ أو أن دفاع الإنسان عن نفسه وعرضه خروجٌ؟ كيف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ"؟
الفرضية الثالثة: الثورة فشلت، ولم تحقق أي مكاسب تذكر
يستدل هؤلاء على فشل الثورة السورية بأعداد الضحايا والمشردين، وحجم الدمار والتخريب.
وأتمنى - حين نناقش هذا الأمر - أن نبتعد عن المزايدات العاطفية والاستطراد في ذكر أحوال القتل والتشريد والدمار، وكأن طرفاً يعظمِّها وطرفاً يستهين بها! كلا، ليس الأمر كذلك، فلا يوجد من في قلبه مثقال ذرة من إنسانية، فضلاً عن دين، إلا ويتفطر قلبه من المشاهد المأساوية والأخبار الأليمة التي يتناقلها العالم يومياً، فتعظيم الحرمات والتألم للمصاب واللهفة على البؤساء والمظلومين فوق المزايدات، لكن هل يُعَد هذا مؤشراً لفشل الثورة؟
يبدو أن هؤلاء لا يعلمون كثيراً عن تكاليف الثورات الكبرى في التاريخ (والثورة السورية أضحت ثورة كبرى)، فليقرؤوا عنها، وكم كانت ضحاياها؟ سيقولون، لكن الثورة لم تنجح على مدى 7 سنوات، إذن فليقرؤوا أيضاً كم امتدت الثورات الأخرى في التاريخ، فإذا سئلنا: هل حققت الثورة السورية أي مكاسب؟
الجواب، نعم، وبكل تأكيد، هل الشعب الثوري الآن كما كان تحت النظام؟ وهل النظام الآن كما كان قبل الثورة؟
خرج الناس لأجل الحرية والكرامة، فإن كانوا لم يحققوها بعد لكنهم كسروا الحاجز أمام تحقيقها؛ فكم من السوريين اليوم يجهر بلا خوف بطلب الحرية والكرامة، وكان لا يجرؤ على مجرد التفكير بذلك؟ لو تذكرنا حالنا قبل الثورة، وكيف يخاف الرجل منا أن ينتقد النظام أمام أولاده وأوثق الناس إليه، لعلمنا عظم هذا الإنجاز.
وفوق ذلك، لقد أنهكت الثورة النظام، وأذلته، وفضحته، هل النظام اليوم هو نظام ما قبل 2011 داخلياً، وإقليمياً ودولياً؟ وهل هو الآن – بالرغم من بطشه وإجرامه – آمن مطمئن ممكَّن كما كان قبل 2011؟ أم أن الأمر كما قال الله تعالى: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"؟ أقل ما يقال عن الثورة: أنها جعلت كلفة الاستبداد باهظة، وليست نزهة مريحة.
هل يبسط النظام الآن سلطته على كل الأراضي السورية؟ وهل يتحكم في مصير كل الشعب السوري كما كان قبل 2011؟
ثم ألم تعرقل الثورة السورية انتشار السرطان الصفوي الخبيث في المنطقة بأسرها، وتفضح مخططاته؟
هذه كلها مكاسب، ولا يجادل فيها أحد، لكن المشكلة فيمن لا يرى هذه المكاسب شيئاً أمام "تمتعه" بالوظائف البيولوجية الحيوانية ولو كانت معجونة بالذل والإهانة، ويحرصون على أي شيء يصدق عليه اسم "حياة"!
إنني أعترف أنني لا أمتلك كثيراً من الأدوات لأقنع من يرى أن الأكل والشرب مع الذل والمهانة أكرم حياة من الكرامة والحرية برغم القتل والتشريد!
الفرضية الرابعة: أهمل الثوار النظر في المآلات:
حسناً، قد يقال: لا نلوم أحداً على فعله المباشر، ولكننا جميعاً ملومون لعدم تقديرنا لعواقب الأمور؛ إذ كان يجب أن نعلم أن الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه.
مرة أخرى، سنتنزل مع أصحاب المقالات أن الأمور التي صارت إليها الثورة هي شر في مجموعها، وإن كنا لا نسلم بذلك كما بيَّنا في الفرضية السابقة.
دعونا نناقش هذه الفرضية، ابتداء نحن نؤمن بضرورة تقدير مآلات الأمور وأثر ذلك في الحكم على الفعل، وهذا أصل راسخ ثابت في الشريعة "ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عَدْواً بغير علم" والشواهد كثيرة، لكن تقدير مآلات الأمور يكون في الأمور المخطط لها، والأمور الاختيارية، والثورة لم تكن كذلك كما رأينا، ولم يكن أمام من وقع عليهم الظلم إلا أن يثوروا، ولم يكن أمام أصحاب المروءة إلا أن يناصروهم.
ثم إن تقدير مآلات الأمور تكون بحسب الطاقة والوسع، وعلى قدر علم البشر وتجربتهم، وإلا كان نوعاً من تطلُّب علم الغيب، والغيب لله، يجب علينا تقدير مآلات الأمور قبل الشروع في العمل مستندين إلى العلم والتجربة والقرائن، ثم نمضي لما يدلنا عليه علمنا المحدود، فإذا فعلنا ذلك فلا يجوز أن نتخذ من المآل بعد أن يقع حجة على فساد العمل.
لقد أرسلتْ رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان (قبائل من العرب) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدونه على العدو فأمدهم بسبعين من الأنصار كانوا يسمَّون القراء في زمانهم، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم؛ فهل كان إرسالهم خطأ بالنظر إلى ما آل إليه الأمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عمل بمقتضى الدعوة والنصرة، ولو علم أن أصحابه يُقتلون ما أرسلهم، لكنه لا يعلم الغيب "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء"؛ فهل أهمل السوريون تقدير مآلات الثورة وعواقبها؟
لقد سبقت الثورةَ السورية وزامنتها ثوراتٌ في تونس ومصر وليبيا واليمن، واستطاعت جميعُها أن تسقط رأس السلطة بالقتل أو الهرب أو الإقالة؛ فهل يلام السوريون الشرفاء إذا قدَّروا أنهم هم أيضاً يستطيعون ذلك؟ والمنصف يعلم أن النظام في سوريا سقط بالفعل لولا أن تلقفه المجرمون من كل جنس ولون.
أما تدخُّل حزب الله اللبناني وميليشيات الشيعة في العراق وإيران وروسيا، وتآمر بقية العالم، وخذلان الأشقاء؛ فهل كان من البداهة والظهور بحيث يلام الناس على عدم استحضاره؟ بل أين المحتجون بالمآل (وقد كانوا إلى عهد قريب مناصرين للثورة)؟ فأين كان نظرهم في العواقب والمآلات؟
ثم لنفرض أن هذه المآلات أو بعضها كان واضحاً، من ذا الذي يملك أن يأمر الثورة فتقف؟! إن الشعب الثائر ليس جيشاً منظماً تأتيه الأوامر فيطيع، بل هو تيار شعبي يعمل بردّات الفعل؛ فكلما ازداد الظلم عليه ازداد جموحه ولم يعد يمكن ترويضه إلا بالقهر الكامل، وتأملوا قول الله تعالى: "ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً" فالمظلوم إذا أتيحت له الفرصة للانتقام ممن ظلمه لن يردعه عن انتقامه إلا أن يعلم أن هناك من سيأخذ له بحقه؛ فكيف بمن يزداد عليه الظلم يوماً بعد يوم ولا يجد أي ضمانة ليعود له حقه؛ فكيف نطلب منه أن يستسلم؟!
وبعد أن ناقشنا الفرضيات الأربع نقول: هبْ أنه وُجِد من خطط للثورة، وهب أنها كانت خروجاً، وهبْ أنها تخسر المزيد كل يوم، وهبْ أن الثائرين أهملوا المآلات الواضحة من البداية... ما هو المطلوب الآن؟ هل نترك السوريين لسفّاحهم؟! وهل يصح أن نطلب منهم العودة لسجون الجلاد ومعتقلاته؟! وهل العودة إلى "حضن النظام" بعد الذي كان سيكون أقل كلفة من المضي فيها؟
دعونا نُعمل نظرية المآلات! ما مآل الملايين التي شاركت في الثورة أو أيدتها إذا عادوا إلى "حضن النظام"؟ بل ما مآل أقربائهم الذين لم يشاركوا في الثورة؟ أليست كل الشواهد تدل على أنه سينتقم ويبطش؟ لقد مرت الثورة بمحطات كثيرة كان يمكن للنظام أن يتصالح معها؛ فهل فعل؟ منذ أيام تقدم شاب إلى السفارة السورية لتجديد جواز سفر أمه التي بلغت الثمانين، فجاء التجديد لسنتين فقط مع عبارة: "عليها ملاحظات أمنية"؛ فهل يؤتمن هذا النظام على شيء؟!
وقد كتب الأستاذ المبدع مجاهد ديرانية ردّاً على من أرسل إليه: "لقد استنفدنا الوُسعَ ولم نعد قادرين على الاستمرار، علينا أن نعترف بالهزيمة ونرفع راية الاستسلام ونتصالح مع النظام قبل أن تفنى البقية الباقية من بلادنا ويموت مزيد من الناس"، فقال مجيباً (بتصرف مني): "أنا لا أستطيع أن أمنعك أو أمنع غيرك من ترك الثورة والاستسلام للنظام، ولكني أستطيع أن أذكّرك بما ينبغي أن تعرفه"، "نحن لا نقاتل عدواً جديداً مجهولاً لا نعرف مقدار شَرّه، بل هو عدو قديم عرفناه وعشنا في سجنه الكبير دهراً طويلاً، فعرفنا أنه نظام متمرس بالإجرام وأنّ مِن أظهر صفاته الغدر والانتقام، فإذا وقَفْنا ثورتَنا وعُدنا إليه مستسلمين فسوف يكون انتقامه مروّعاً، وسوف يسحق هذا الشعب المسكين".
"سوف يقود خيرة شبابنا إلى المعتقلات آلافاً وراء آلاف"، "أما علمت أن ثلاثين ألفاً من معتقَلي المحنة الأولى قُتلوا في السجون وأن ثلاثين ألفاً آخرين ما يزالون مغيَّبين لا يُعرف - بعد هذا الوقت الطويل - أأحياء هم أم أموات؟"،
"لو استسلمنا للنظام فسوف يصبح عشرون مليون سوري رهائنَ في سجن كبير اسمه سوريا، وسوف يلاحق النظام المجرم أعداءه الذين نبذوه وحاربوه ولو بشق كلمة"، "نصف السوريين صُنِّفوا سلفاً أعداءً محاربين للنظام، نصف السوريين سيتعرضون للاعتقال والتحقيق والتعذيب والشبْح والحرق وقلع الأظافر والصعق بالكهرباء، وسوف ينتهي عشرات الآلاف منهم جثثاً ملفوفة في أكياس عليها أرقام بلا أسماء، من يرضى لنفسه وإخوته وأولاده وأهل بلده هذا المصير؟"، "نعم، نحن في وضع صعب وفي كرب شديد، غيرَ أنّ الصبرَ على المعاناة وإصلاحَ الثورة وإكمالَ الطريق - مهما طال - أهونُ من الضريبة الهائلة التي سيدفعها السوريون لو استسلموا وقبلوا بالمصالحة والعودة إلى أحضان النظام". انتهى
خاتمة:
هذه الثورة قدَر من الله، لم يدعُ إليها شيخ ولا حزب ولا جماعة - بل ربما تأخر بعض هؤلاء عنها بسبب "حساب المآلات" - وإنما أراد الله أن تكون شرارتها صبية لا يحسبون مآلات الأمور كثيراً، تماماً كما نرى الطفل يعبث مع الحيوانات المفترسة والثعابين لأنّه لا يميز خطرها، ولو ميّز لخافها! هكذا انطلقت الثورة، ولم يبق لنا - إذ كان الأمر كذلك - إلا أن نحدد موقعنا منها، والثورة ابتلاء لنا جميعاً، وقد جعل الله في الفتن والابتلاءات حِكَماً عظيمة، على رأسها التمحيص "فَلَيَعلمنَّ الله الذين صدقوا وليَعلمَنَّ الكاذبين"، "حتى يميز الخبيث من الطيب"، ومنذ انطلاقة الثورة وهي تمحص الناس، فمنهم من اصطف إليها، ومنهم من ركن إلى النظام الظالم، ومنهم من وقف متفرجاً، ومنهم من جلس يتربص نتيجة موازين المعركة حتى يحدد موقفه، ثم قوي عودها فتشجع بعض المتفرجين وانضموا إليها كما انضم إليها بعض المتسلقين الذين رأوا فيها مطية لمصالحهم.
ثم شُدد عليها في البلاء، فانقلب من كان مؤيداً لها على حرف على وجهه، وصار يقول نفسي نفسي، وبقيت ثلة مواصلة عاملة، ولا يزال التمحيص مستمراً، أنا وأنت وهو وهي كلنا تحت التمحيص، ولا ينجي أحداً عند الله أن يلقي باللائمة على فلان أو فلان، وإنما ينجيه أن يسأل نفسه ماذا فعلت؟ لأنه حتى لو أقنعت نفسي أن فلاناً على خطأ وضلالة فهذا لا يجعلني على الحق "قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ".
ونصيحة لمن لا نتّهمهم في دينهم من الذين فقدوا الحماس للثورة: قد لا يعجبك شيء في الثورة فتنقم عليه، لكن لا تجعل نقمتك تنسحب عليها كلها، قد تنقم على فصيل لسلوكه ورعونته لكن لا تسحب ذلك على الفصائل كلها، وقد تنقم على الفصائل تناحرها وتخاذلها لكن لا تسحب ذلك على الثورة كلها، وقد تنقم على السياسيين ومواقفهم التفاوضية أو تنقم على بعض المشايخ والعلماء وهكذا، ولكن الثورة أوسع من ذلك كله، ويخشى أن تكون النقمة العامة على الثورة ومهاجمة العاملين عليها دون المبادرة بعمل إيجابي حيلةً نفسية لتغطية الشعور بالتقصير والتفريط والتقاعس عن أداء الواجب، "بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره".
ابحث عن ثغرة تؤمن بها وبجدواها من احتياجات هذه الثورة واعمل لها، فإن لم تجد فادعُ للعاملين، فإن لم تفعل فكف أذاك عنهم، ومن كان يظن أن الثورة قد أخسرته دنياه، فليحذر ألا يخسر آخرته أيضاً، فإنه "ما منَ امرئٍ مسلم يخذُلُ امرَأً مسلماً في موضعٍ ينتَهكُ فيهِ حرمتُه ويُنتَقصُ فيهِ من عرضِه إلَّا خذلَه اللَّهُ تعالى في موطِنٍ يحبُّ فيهِ نصرتَه".
وسوم: العدد 753