الماء والبارود
الماء والبارود
نازك الملائكة
"من ذكريات حرب رمضان سمعت الشاعرة أن فرقة من الجيش المصري في سيناء كان أفرادها صائمين، وحان موعد الإفطار وقد نفد الماء عندهم فراحوا يتضرعون إلى الله، فجاءت طائرات إسرائيلية وقصفت المعسكر فتفجر الماء من الأرض حيث كانت مواسير الماء اليهودية مدفونة".
الله أكبر
الله أكبر
هتافة الآذان في سيناء تبحر
من موجها تسيل في الصحراء أنهر
الله أكبر
نداء رحمة ند تشربه الرمال
مد جناحيه، ارتمى في حضن التلال
محمولة أنغامه على شراع أبيض مروره معطر
الله أكبر
يا صائمون أفطروا
من شفة المؤذن الخاشع يهمي المطر
والله باسط عليكم أجمل الظلال
تسبيحة معطرة
ورحمة من السماء انحدرت معسولة مقطرة
يشرب تهويماتها المعسكر القابع في الظلماء
عطورها منهمرة
على جنود مصر في سيناء
تجمعوا وخيموا فوق قفار محرقات الرمل في الصحراء
وهم عطاش لم يذوقوا منذ أمس الماء
شفاههم منعصرة
صيامهم من عطش حناجر مستعرة
لكن في وجوههم ضراوة الصاروخ والمدافع المزمجرة
و(الله أكبر) على شفاههم غناء
بنورها بسرها يزحزحون القلعة الشماء
ومن لهاث العطش القاتل باتوا يشربون حرقة الهواء
عيونهم تستمطر السماء
رباه فجِّرْ بين أيدينا عيون الماء
هات اسقنا يا رب من لدنك كأس رحمة مطهرة
يا واعد المؤمن بالصحو وبالظل الندي الظليل
هات اسقنا كما سقيت الطفل إسماعيل
كما رويت أمه الوالهة المنكسرة
بعد هيام ضائع طويل
في مدن العويل..
* * *
جنود مصر في تلال النار والحمى
وصفرة الربى المبعثرة
جاعوا لوجه الله ذاقوا لذعة الصيام
تجهزت تحت أكفهم صواريخ
وكانت لهمو الشراب والطعام
جنود مصر نقمة مفجرة
وحرقة إلى كؤوس الماء لا تنام
إيمانهم صيَّرَ سيناء لطياري اليهود مقبرة
رمالها مزمجرة
وهم عطاش يتلوون صدى وتعطش الخيام
وحقد إسرائيل قد صيَّرَ جنات الوجود مجزرة
وامتص نسغ الشجرة
رمل.. وريح تزفر..
ينهض في جانبه العطشان بيت الله
وخيمة صغيرة لهاجر.. وليس من حياه
لا ظلل ندية لا مهد أعشاب ولا مياه
وصوتها يهتف إبراهيم!
لأين تمضي مسرعاً، لأين إبراهيم!
وفيم قد تركتنا في قلب رمضاء هنا نهيم!
لا حب، لا شفاء
تمنحنا أغنية، تبارك ابتهالنا في خشعة الصلاة
وحولنا واد سحيق مقفر ضيعنا مداه
وليس من شاو هنا فما الذي سننحر؟
وليس من شجيرة تظلنا وتثمر
وليس من سحابة تمنحنا رشاشها وتمطر
ويهتف الصوت الحزين
أين تركتنا، وفيم إبراهيم؟
ويختفي خلف التلال شخص إبراهيم
وهاجر باكية والطفل إسماعيل فوق صدرها يتيم
* * *
الله أكبر
يا صائمون أفطروا
من أين يا رب لنا بالماء؟
جرارنا عطشى وتمتد حوالي جدبنا الصحراء
شفاهنا من عطش سيناء
ولا سحاب لا دموع رب في السماء
ويركع الجنود مصروعين في ضبابة الإغماء
عيونهم تحرق يستعر
رجاؤهم يحتضر
على الرمال يضمر
ويضمر
ويضمر
* * *
الطفل إسماعيل يبكي عطشا
لم يبق في خديه لون وقمر
وهديه يسح إيقاع مطر
وغصن جسمه ذوى وارتعشا
وانكمش الوجه الوضيء المقمر
وفي تراب مكة تبعثر الشعر الجميل الأشقر
وقلب أمه الحزين برعم منصهر
ودمعها على مرايا وجهها ينحدر
تهيم في العراء
تجتاز سهل النار في ذهولها وتعثر
ويكتوي من دمعها المحموم حتى الحجر
وسبع مرات سعتْ والهة بين الصفا والمروة
وتارة ينبت جرحاً خدها
وتارة تسقط ولهى في قرار هوة
وكبوة، وكبوة، وكبوة
قد تركت عشرين خطاً من دم على سنا جبينها
والريح صبت هولها، فراغها، عويلها
في حدقتي عيونها
تمزقت ثيابها وأغدقت
على حواشيها الهوى من شوكها وطينها
يا هاجر الحزينة اهدأي
ريانة هذه الرياح أقبلت تحمل أحلى نبأ
لطفلك الصارخ في دثاره المهترئ
تقطر الرياح حباً في شفاه الطفل إسماعيل
تلمس خديه بعطر نسمة بليل
وتسكب الحياة والخضرة في كيانه النحيل
وقالت الرياح: إسماعيل
فردد البيت العتيق تحت حر الشمس: إسماعيل
وانحنت السماء قوساً أزرقاً يلثم إسماعيل
الله أكبر
ضج بها المعسكر
يا صائمون انتظروا
إن وراء جدبكم جذر حنان سوف يزهر
وخلف حيرة العطاش كوكب أضاء
ورحمة من ربكم تنحدر
الله أكبر
يا صائمون ربكم قد سمع الدعاء
والطائرات أقبلت تهدر في الفضاء
تقذفكم صواعقاً وتمطر
على روابيكم لظى حرائق
تريد أن تغرقكم في برك الدماء
والله في سمائه يقدر
يدبر
يمطر فوق صومكم أنداء
يسقيكمو من يد أعدائكم أحلى كؤوس الماء
والله للمؤمن ثلج مغدق في لهب الصحراء
ووجهه الغامر في شراسة النيران كوثر
وطوق ورد أحمر
وبلسم وماء
ماذا تقول الريح؟
ماذا يغمغم الندى المنثور مثل ثلجة
على خدود الريح؟
يرفرف الهواء لاثماً خدود هاجر
يشرب من دموعها، يلقي على وجنتها
طراوة وضوء فجر ماطر
وفي مرور عطره نداه
يأتي من السماء
يمسح بأس الأم، ويروي قلبها الجريح
يا هاجر.. الصبي إسماعيل سوف يرتوي
برحمة من ربه، وتنطوي
دموعك المحمومة الحزينة
سيدفق الماء ويسقي سيله الغصن الكسير الملتوي
يرطب الماء لإسماعيل عينيه
يديه
فمه
جبينه
يعطيه ياسمينه
يا هاجر الحزينه
وسبع مرات سعت باكية بين الصفا والمروة
تحمل فوق خدها وردة حزن حلوة
ودمعها وحزنها على شفاه الريح
تنهيدة وغنوة
يمتصها سمع المدى الجريح
وطفلها يصيح
الله أكبر
يا صائمون أفطروا
من أين يا رب لنا بالماء
من كف أعدائكمو سوف يسيل الماء
ويخصب الصحراء
نيرانهم تخضر في حضن معسكراتكم مشاتلا
وقصفهم ينبت في جراحكم سنابلا
يملأ راحاتكمو بالماء
يسيل ما بين خيامكم
جداولاً جداولا
فيشرب العطشان
من مطر الرحمة والحنان
ويصعد الآذان
وترشف الصحراء من عذوبة الصيام والقرآن
ماذا يقول الطفل إسماعيل
عويله في الريح شاج، محرق، طويل
وهاجر دموعها صلاه
وصمتها شفاه
بائسة تصيح يا رباه
من أين يأتي الماء
في هذه المفازة الجدباء
وتهطل الدموع من شواطئ المحاجر السوداء
يا رب أعط طفلي الظمآن كأس ماء
اسق صغيري، اسق إسماعيل
يوشك أن يموت يا ربي إسماعيل
وسقطت مغمى عليها، وانسدال شعرها الطويل
فوق الثرى جداول سوداء
سنابل بعثرها الهواء
ومرت الريح على حرائق الرمضاء
وليس من صوت سوى العويل
عويل إسماعيل
والله يصغي والسماء دمعة تسيل
الله أكبر
يا صائمون أفطروا
نداء رحمة طريّ الصوت عذب ملأ الأرجاء
وينبش الجنود في الرمال ما من ماء
رباه ما من قطرة من ماء
نهار صومنا انقضى، وليلنا قد جاء
وحولنا تحترق الصحراء
ووردة الرجاء
يابسة في دمنا
في فمنا
فما من ارتواء
والموت يا رباه يهمي مطراً تصبه قواذف الأعداء
* * *
سبحان من قد أنهض السماء
من دونما أعمدة، في لا نهايات من الضياء
في غابة من شرف الكواكب البيضاء
سبحان من يسقي تعطش الأسى، ويسمع الدعاء
ويمطر الشفاء
على مريض جائع شفاؤه أسطورة على فم الدواء
الله أكبر
الكون حول الطفل مبهور يكبر
عطشان إسماعيل عطشان ولم يعد على العذاب يصبر
رجلاه تضربان في حزن تراب مكة بجدبه ومحله
وتدفق المياه نشوى عذبة
من تحت رجله
يسيل جدول برود سكر من تحت رجله
وتصرخ الأم: يسيل الماء
الماء يا ربي، يسيل الماء
من تحت رجلي ولدي تنبع عين ماء
وتحمل الطفل تبل الشفتين بلة بجرعة من ماء..
تسقيه هاجر وضوء من جراح وجهها يسيل
وشعرها المسترسل الطويل
منسدل يخفق حول وجهه الجميل
وابتسم الطفل: ويا هاجر
صلي لمزيج الموت والظلام
قد ارتوى طفلك إسماعيل وانجاب ضباب دمعه ونام
والماء يا هاجر يهمي زاحفاً ويكثر
ينتشر
ينتشر
يسقي تراب مكة تياره المنهمر
سبحان من أغدق من سمائه الرحمة والأمان
مفتح الورود في يبوسة الكثبان
وساكب الشذى نهوراً في قفار الملح والدخان
وهدب مقلتيك، يا هاجر، غيم ممطر
من شكره لربه يقطر ثم يقطر
والله معطي الماء عطرٌ وغناء مسكر
في شفة الغيم، وليل مقمر
يعلم النجوم كيف تسهر
ويخبر العيون والأهداب كيف تأسر
والورد كيف يكبر
الله أكبر
الله أكبر
جنود مصر الصائمين!
آهٍ لقد آن لكم أن تفطروا
لا يكذب الله ولا يؤخر
ألقوا بأمر الله يا يهود
قنبلة ثقيلة وانشق يا أخدود
في باطن الأرض هنا، ولتنبجس يا ماء!
جداولاً تسقي العطاش، انبجس يا ماء
منابعاً غزيرة تثرثر
بأمر رب الماء
لينبثق منك شذى وسكر
ما بين خيمات جنود مصر في سيناء
وبشّري الجنود
يسقيهمو الله رحيقاً نابعاً من شفة البارود
تحييهمُ قنابل اليهود
فيرتوي الأحياء
ينبعثون من قرار السقم والإغماء
حتى الذي صام ومات..
سوف يصحو موته ويفطر
يذوق طعم الماء
يغسله الماء من الدماء
فيشكر
ويشكر
والأرض تستقبله مبسوطة الأحضان بالورود والأشذاء
يزغرد الموتى له، يرشرشون جرحه الدامي
بماء الورد والحناء
فقبره وسائد خضراء
وموته حلم جميل غارق في اللون والضياء
ومن بعيد يرتمي في سمعه نداء
وليس أحلى من صداه، ذلك النداء
الله أكبر
الله أكبر
وانبجس الماء النمير حيث عسكروا
ونام طفل الضوء إسماعيل حول وجهه يضوع عنبر
وأشرق عالم بالضياء
سبحان معطي الماء
مفجّر الندى من الصحراء
ومنبت الزنبق، معطينا نهور الشعر والغناء
يا رب ولتمطر عليّ من سماك الأشطر
والأبحر
ولتسق شعري أنت يا ممطر يا سقاء
يا غازل الأشداء
يا من بسقياه ورودي تكبر
وأغنياتي تهطر
الله أكبر
الله أكبر