من أمثال العرب
الأمثال خلاصة تجارب الشعوب، تكون لها في الأصل خصوصيتها، ثم تصبح لها عموميتها بعد أن تَذيع وتنتشر، وتُنسى مناسبتها الأولى الخاصة، وقد قال المبرد:
"المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر، شبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه"
وقال إبراهيم النظّام:
"يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة."
وهكذا يتميز المثل، من حيث هو صياغة نثرية، ومن حيث قيمته المعنوية، على لغة الحديث اليومية.
وطبيعي أنه ليس هناك عصر من العصور يستقلّ بإنتاج الأمثال دون غيره، فلكل عصرٍ تجاربه وأمثاله، لكن الملاحظ أن العصور التي كانت أشكال التعبير الفني فيها محدودة، كانت الأمثال أكثر وكان انتشارها أوسع، وكان هذا الوضع بالنسبة للعصر الجاهلي، فهو إذا قورن بعصرٍ كعصرنا الحاضر اتّضحت فيه هذه المزية، إذ تعدّدت في عصرنا أشكال التعبير وتنوعت، ووجد الناس وسائل لا تحصى، للتعبير عن أنفسهم تعبيراً فنياً، وانحصرت الأمثال في الدوائر الشعبية وعلى ألسنة العامة.
وما زال قدر هائل من أمثال الجاهلية معروفاً ومتداولاً حتى اليوم، ولكل مثل مناسبته الأولى، ثم أصبح الناس يتمثلون به في كل حالةٍ مشابهة لتلك المناسبة.
ومن ذلك قولهم:
(رجعَ بخفّي حُنين).
وهو مثل يُضرب عن الرجوع بالخيبة واليأس من الحاجة، وأصله أن إسكافاً كان يقال له (حُنين) أتاه أعرابي فساومه بخفّين فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فلما ارتحل أخذ حنين الخفّين فألقى أحدهما على طريق الأعرابي، ثم ألقى الآخر على مسافة منه، وكَمَن بينهما بحيث لا يراه، فلما مرّ الأعرابي بالخُفّ الأول قال:
- ما أشبه هذا بخف حُنين، ولو كانا خُفين لأخذتهما.
ثم مرّ بالآخر، فندم على تركه الخفَّ الأول، فأناخ راحلته وأخذه ورجع في طلب الآخر، فأخذ حُنين الناقة ومضى، وأقبل الأعرابي إلى أهله ليس معه غير خفّي حنين، فذهب ذلك مثلاً.
ومن الأمثال المشهورة أيضاً قولهم:
(قطَعتْ جَهيزةُ قول كلّ خطيب).
وأصلُه أن قوماً اجتمعوا يخطبون في صُلح بين حَيَّين، قتل أحدهما من الآخر قتيلاً، ليرضوا بالديّة، فبينما هم في ذلك إذ جاءت أمَةٌ يقال لها (جَهيزة) فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتلوه، فقالوا عند ذلك: قطعت جَهيزة قول كل خطيب.
وقد يتفق أن نجد عدداً من الأمثال قد استُخرج من مناسبة واحدة، أو انتُزع من سياق الحوار في حادثة ما، بين شخصيات على مستوى عالٍ من الفصاحة والخبرة، كما في خبر الزبّاء مع جذيمة الأبرش، وعمرو القصير، ونظير هذا النوع من الأمثال المنتزعة من موقف واحد، ما وضع على ألسنة الحيوانات، كقصة الثعلب مع الأرنب التي التقطت ثَمرة، واختصامهما إلى الضب ليحكم بينهما، فقد ورد فيها عدد من الإجابات التي صارت أمثالاً (سميعاً دعوتِ، عادلاً حكّمتما، في بيته يؤتى الحكم.. إلخ).
وربما كان هناك بعض الأمثال التي لا تعرف مناسبتها ولا قائلها، فبقيت أخبارها في مطاوي النسيان.
وقد كان من العرب في العصر الجاهلي من اشتهر بالحكمة ورويت عنهم أقوال كثيرة سارت مسار الأمثال، مثل أكثم بن صيفي القائل:
(إنك لا تجني من الشوك العنب).
وهو الذي يقول:
(الحزم سوء الظن بالناس).
وتختلف الحكمة عن المثل، في أنها نابعة من تجارب الإنسان الذي عرف حلو الحياة ومرّها وهي غالباً لا تقترن بحادثة معينة أو قصة معروفة.
ومهما يكن من شيء، فإن العرب في الجاهلية قد أكثروا من قول الحكم والأمثال، وأوْلَوها عناية خاصة، وتركوا لنا من ذلك ثروة عظيمة تعكس لنا أطرافاً من شؤون حياتهم وقيمهم الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن أشعارهم أيضاً ملأى بالأمثال والحكم التي ظلّت حية ناشطة في صدور الناس وعقولهم في مدى الأيام، وراحوا يضيفون إليها كل يوم جديداً مما يبتكرونه ويجري عفو الخاطر على ألسنتهم، حتى اليوم.
وقد جاء في القرآن الكريم، والحديث النبوي عدد وافر من الأمثال والحكم التي اكتسبت صفة خاصة بسيرورتها على الألسنة، ففي التنزيل:
- "إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
- "وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً".
وممّا جاء في الأحاديث قوله عليه السلام:
_ "إن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطَع، ولا ظهراً أبقى"(1).
- "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين".
وقد أُثرت عن الصحابة أيضاً أمثال خاصة بهم، كقول أبي بكر الصديق:
(احرص على الموت توهب لك الحياة).
وقول عمر بن الخطاب:
(من لم يعرف الشر كان أجدر أن يقع فيه).
وقول عثمان:
(أنتم إلى إمام فعّال أحوجُ منكم إلى إمام قوّال).
وقول علي:
(إن من السكوت ما هو أبلغ من الكلام).
وهذه الأقوال كلها تجري مجرى الأمثال.
وقد كان العرب يضربون المثل ببعض الأشخاص، رجالاً ونساءً، كقولهم:
(أسخى من حاتم.
وأوفى من السموءل.
وأبلغ من سحبان بن وائل.
وأحلم من الأحنف بن قيس.
وأكذب من مسيلمة.
وأحمق من هَبَنّقة.. إلخ).
ومن الواضح أن هذا الطراز من الأمثال المشتقة من الصفات المتحققة في أقوى صورها، في أشخاص بأعيانهم، تؤكد أن سيرة هؤلاء كانت حيّة في ضمير العربي، وكانت تمثل جزءاً من ثقافته العامة.
هذا وقد صُنفت في الأمثال كتب كثيرة، بعد أن عُني بها علماء اللغة والأدب لأنها سجلّ من سجلات اللغة، ومن هذه الكتب: مجمع الأمثال للميداني، وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري، وكلها مطبوعة(2).
الهوامش:
* من كتاب: دروس في اللغة العربية. تأليف: محمد الأنطاكي، ومحمود الفاخوري.
(1) المنبتّ: الذي أجهد دابته حتى أعيت. يقال ذلك لمن يبالغ في طلب الشيء ويُفرط حتى ربما يفوّته على نفسه.
(2) كان اعتمادنا في هذا البحث على كتاب (المكوّنات الأولى للثقافة العربية) للدكتور عز الدين إسماعيل (77 – 88) مع شيء من التصرف والاختصار.