لغة العبيد
عندما قام الرئيس (لنكولن) بحركة تحرير العبيد في أمريكا لم يكن خصومه هم (السادة) وحدهم، بل كان بعض (العبيد) أيضاً حرباً عليه!
كان بعضهم يهرب من (الحرية) التي يهبها له (لنكولن) ليرتد إلى (العبودية) في بيت أسياده لأنه لا يطيق تكاليف الحرية ولا يستطيع مواجهة الحياة مستقلاً!
ليس عبيد أمريكا وحدهم هم الذين يهربون من الحرية؛ فعندنا في مصر، وفي سائر بلاد الشرق (عبيد) من نوع آخر عبيد يتزيون بزي الأحرار، ولكن في أعماق نفوسهم تلك العبودية التي يهربون إليها بين الحين والحين!
في عدد ديسمبر من مجلة (الكاتب المصري) قرأت للدكتور حسين فوزي مقالاً بعنوان (جولة في ما بعد الحرب) جاءت فيه هذه الفقرات:
(شعور واحد يتملكني في عشرة أيامي الأولى بلوندرة: شعور الإعجاب المتناهي بعاصمة الدولة التي أنقذت العالم من اعظم الشرور التي حاقت به في تاريخه الطويل. قلب الأمة الباسلة العنيد التي وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء، والتي تلقت الضربات الوحشية تنصب عليها من السماء حمماً وناراً، ومن قاع البحر حمماً وناراً).
(كنت فخوراً بإنسانيتي، إذ وجدت من هؤلاء الناس درعاً وواقياً للحضارة. وسواء عندي أن يكون دفاع الإنجليزي عن بلاده وحضارته وإمبراطوريته، ما دام هذا الدفاع في ذاته ذوداً عن الحضارة والإنسانية قطعاً).
(أنا هنا بين رجال ونساء راضين بما حققوا. غلبوا على أمرهم، وطردوا من أوربا والملايا، وقطعت عليهم اغلب طرقهم البحرية، وهاجمتهم الطيارات والقنابل الطائرة والغواصات في كل مكان، وانذروا بالفناء قبل الغزو، أو بالغزو فالفناء. ضيق عليهم أعداء البشرية الخناق، على حدود مصر والسودان، وفي العراق وكريت ومالطا والهند، ولكنهم ثبتوا كصخور مالطا ودوفر وجبل طارق، وردوا الضربات بأقل منها، فبمثلها، فبأضعاف أضعافها. ثم جاء دورهم في الغزو، فنزلوا بالقارة الأوربية، وحرروا فرنسا والبلجيك وهولندا وايطاليا، ثم استعادوا بورما والملايا، واكتسحوا قطعان الذئاب الفاشستية يردونها إلى عقر أوكارهم، حتى قضوا عليها. وهم اليوم يتحكمون في ديارها. إن قدموا الخير فبشعور إنساني كريم وإن اعملوا الشر فبروح انتقام مفهوم، عادل أو غير عادل تبعاً لمزاج من يريد ان يبدي حكماً).
. . . (والصورة التي انطبعت في رأسي لبريطانيا بعد إقامتي القصيرة في لوندرة. هي صورة شعب عامل مجد، محب للنظام والعدالة، يحترم حكومته لأنه اختارها، ويتبرم بها تبرم الأخ لأخيه يوماً أو بعض يوم. صورة شعب أمين في معاملاته، منطقي في عمله، دون أن يكون للمنطق حساب في تفكيره، يتولاه القلق على معاشه ومستقبله في العالم، مع تمسكه بالقيم الروحية المطلقة التي تترجم بالعلم والفن والأدب، والقيم الروحية في السياسة التي تترجم بالنظر إلى العالم نظرة الشعب المسؤول عن الخير العام للبشرية. وهذه في رأيي مقومات الحضارة في شعب كبير وأمة عظمى). ثم يقول عن فرنسا:
(لحظة اللقاء، لمست أقدامي أرض فرنسا بعد طول الغياب، (أمنا فرنسا)، كما يقول أهل لبنان، ومربيتنا باريس. لن أنساك يا فرنسا قبل أن أنسى نفسي. تقطع يداي قبل أن يغدر بك ربيبك يا باريس!).
كاتب هذه الفقرات مصري شرقي وهو رجل اعرفه، وبيني وبينه مودة، ولكن مودات الأرض كلها لا تخدر ضميري وأنا اقرأ له هذه السطور!
هذا الرجل مصري شرقي، يرى كيف تعامل إنجلترا بلاده، وكيف تعامل فرنسا أمم الشمال الأفريقي، ويعرف كيف تصنع إنجلترا في الهند، وكيف تصنع فرنسا في الهند الصينية. . . ثم يكتب كل هذا (الغزل) في الدوليتين الاستعماريتين اللتين تدوسان قومه وأقرباءه بالأقدام!
وأعجب شئ انه كان (فخوراً بإنسانيته) في لوندرة! أية إنسانية تلك التي ترى الاستعمار ينتهك كل حرمات الإنسانية، ويمتص دماء المستعمرات، ويذل أهلها ويسلب أقواتهم وارزاقهم، ويبقيهم في ربقة الجهل والتأخر والتوحش أحياناً حتى لا يفقد قدرته على استغلالهم. ثم لا تغضب، ولا تتألم، ولا تثور؟
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يسلبون بلاده إنسانيتها. يفقرونها إلى حد أن يعيش الفلاح في مستوى اقل من مستوى الماشية. يسرقونها في اسهم قناة السويس، وفي ثمن قطنها وصادراتها لهم في الحرب وغير الحرب، وفي صفقات المناقصات العامة، ويستنزفون غذائها وفاكهتها وملابسها في زمن الحرب بلا مقابل فينشرون فيها السل والأنيميا وشتى أمراض التغذية ثم يكادون يتنصلون من ديونهم القليلة. يستخدمونها في الحرب بكل قواها ثم يتنكرون لها بعد الانتصار. . . أولئك هم السادة الذين يفخر العبيد بإنسانيتهم حينما يرونه ينتصرون!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز بعد نصف قرن في السودان لا يزال سكانه في الجنوب عرايا وسكنه في الشمال مبعدين عن إخوانهم في الجنوب بدافع التعصب الديني لأن دماء الصليبيين لا تزال تجري في دماء المستعمرين. وبدافع الاستغلال القذر لأن موارد الجنوب يجب ان تبقى للاستعمار!
فخور بإنسانيته. لأن الهند بعد ثلاثمائة عام في الحكم البريطاني، لا تزال أفقر الشعوب وأقذرها. وهذه القذارة تنفر الدكتور حسين فوزي وتطلق لسانه بشتيمة الهند والهنود في كتاب سابق له. ولكنها لا تحنقه إطلاقا على الحكم البريطاني القذر لأن السادة لا يحنق عليهم العبيد!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز حاربوا الصين مرة لسبب واحد، وهو أنها عزمت على تحريم تدخين الأفيون. حينما تقتضي (الإنسانية) ان يظل الصينيون (مساطيل) لا يفيقون لأن (الانبساط) والانسجام خير يجب أن يتمتع به الصينيون.
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز نشروا وباء الكوليرا في حربهم مع (البوير) في جنوب أفريقيا؛ فكانت هذه وسيلة (إنسانية) للانتصار في الحروب!
فخور بإنسانيته. لأن فاجعة (دنشواي) كانت انتصاراً للروح الإنسانية وللضمير الإنساني في تاريخ الشعوب!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يقفون في وجه التحرر لا في مستعمراتهم فقط، ولكن في مستعمرات سواهم، كما صنعوا في أندنوسيا، حينما هبت تحارب وحوش الهولنديين!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يرتكبون في فلسطين من الجرائم الإنسانية ما تقشعر له الأبدان في سنة 1937. واليوم يجلدهم اليهود علناً فلا يتحركون! ثم (أمنا فرنسا، ومربيتنا باريس). . . إلى آخر هذا الغزل السخيف!
(أمنا فرنسا - كما يقول أهل لبنان - ولم يكن منصفاً فيقول: (كما يقول أهل لبنان):
لقد تحرر لبنان من تلك العبودية يا دكتور فوزي. لقد تحررت ارضه، كما تحرر ضميره. ولعلك لا تذكر واقعة اعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته في قلعة راشيا. تحرر لبنان فلم يعد ينطق تلك الكلمة المجرمة المخنثة (أمنا فرنسا).
لقد تحرر لبنان، وتحررت سوريا. وبقى أن تتحرر مراكش، وأن تتحرر تونس، وان تتحرر الجزائر. وبقي أن تنكمش هذه الدولة المتبربرة في حدودها القومية. فإذا شئتم حينذاك ان تلجئوا إلى حضن أمكم الحنون. فمع السلامة. ولتذهبوا إليها هناك أجمعين!
واسمع هذه البرقية لمراسل الأهرام في نيويورك:
(تلقت جريدة (نيويورك تيمس) رسالة من السيد محمد أبو الاحرص سكرتير (لجنة المطالبة بحرية شمال أفريقيا) طالب فيها بإلحاح بوجوب رفع الستار (الحديدي) المضروب حول مراكش والجزائر وتونس وبالسماح للصحفيين الأجانب بحرية الدخول في هذه البلاد الثلاثة.
وذكر السيد أبو الاحرص الذي يقول انه يمثل عشرين مليوناً من سكان شمال أفريقيا انه حدث في يوم 12 مايو سنة 1943 أن قتل عشرة آلاف وطني تونسي وسجن أربعون ألفا من غير محاكمة؛ وان عبد المنصف باي تونس عزل ونفي مع أن الحلفاء يملكون من الوثائق ما يثبت انه كان يقاوم سلطات الاحتلال الألمانية مقاومة شديدة.
وزعم أخيراً انه في يوم النصر في سنة 1945 ذبح أربعون ألفا من الجزائريين وسجن مائتا ألف ونهبت بيوت ثلاثة آلاف من الوطنيين).
وعلام كل هذا الغزل؟ و (شعور الإعجاب المتناهي)؟ لأن هذه الامة، إنجلترا (وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء)!
أي أفاقية؟ وأي برابرة؟ يا دكتور فوزي؟ وأية بشرية تلك التي تحدوها؟
الأفاقون والبرابرة هم أولئك المستعمرون الذين يمتصون دماء البشرية، ليتوافر للإنجليزي الزبد والويسكي والديكة الرومية في عيد الميلاد!
الأفاقون والبرابرة، هم الذين يتسببون في إصابة مليون مصري بالسل في زمن الحرب، لأنهم يسرقون المواد الغذائية مقابل عملة ورقية لا رصيد لها، ثم يتنكرون لمصر وللدين المصري الزهيد!
الأفاقون والبرابرة هم الذين يجلدهم اليهود علنا في الشوارع، فلا يحركون ساكنا، بينما يمثلون بالجثث أشنع تمثيل حينما يهب العرب للمطالبة بحقهم المشروع!
ولقد كان جائزا أن تنتشر هذه الأسطورة: أسطورة إن الإنجليز غير الألمان وان هؤلاء وحدهم أفاقون وبرابرة، وان الإنجليز حماة الإنسانية المتحضرون. حينما كانت رحى الحرب دائرة. حينما كان الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - يتدفق على مراكز الدعاية، وفي جيوب الصحفيين والكتاب، فتنطلق الألسنة بالحمد والثناء لحماة الديمقراطية، وللحرية، وتنطلق بالهجاء والاتهامات للبرابرة الألمان، وحينما كانت الدعاية الإنجليزية تملأ الآفاق ببشريات الحرية العالمية، والأمن من الجوع والخوف والمرض والجهل. وحينما كان المخدوعون يستغرقون في الأحلام اللذيذة على صدى هذه الوعود الجملية.
ويومها كم من أصوات ارتفعت في محطات الإذاعة بالشرق، وكم من أقلام انطلقت في صحافة الشرق، تمجد أولئك الملائكة الأطهار الذين يريقون دماءهم في سبيل البشرية المهددة بالوحوش النازيين!
ذلك إن الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - كان من القوى والتدفق بحيث ينطق البكم، ويسمع الصم. وذلك أن الوعود المعسولة خدعت بعض المخدوعين، فتاهوا في أحلام الحرية والاستقلال والجلاء. وان كان ضمير الأمة لم ينخدع لحظة واحدة، لأنه كان اصدق حساسية من اولئك المذيعين والصحفيين والكتاب!
أما اليوم، فكيف تبقى عين واحدة مغلقة، اليوم وقد خلع الإنجليز القفاز الحريري وارتدوا جلد النمر. اليوم ما الذي يخدع مصريا واحدا، أو شرقيا واحدا، فيطلق لسانه بمثل هذا الغزل العجيب؟!
وفرنسا، فرنسا أم الحرية، كما يقول عشاقها، كيف بعد حادث راشيا، وكيف بعد مؤامرتها على قتل وزراء سوريا ونوابها في البرلمان، تلك المؤامرة القذرة التي لم تتم بسبب وقوع وثائقها في يد الحكومة السورية في الوقت المناسب.
فرنسا الذي تذبح في يوم النصر أربعين ألفا من الجزائريين. والتي تقيم سورا حديديا حول الشمال الأفريقي كله، يمنع عنه العلم والنور والحرية والتقدم. فرنسا هذه كيف يختلج بحبها ضمير أنساني واحد، بله أن ينطلق لسان لها بمثل هذا الغزل العجيب!
وليس المتغزلون في إنجلترا وفرنسا وحدهم هم عبيد الشرق المنكوب! هنالك من يتغزل في (روسيا) في هذه الأيام. وحقيقة أن بعدنا عن فم الدب بعض الشيء قد يجعلنا اقل حنقا عليه. ولكن هنالك من ينسى مصريته ليذكر (روسيا) العزيزة1 وتلك لغة العبيد.
لقد سمعنا طويلا: أمنا فرنسا، أمنا إنكلترا، أمنا روسيا! بابا ستالين! كما سمعنا من يقول: تقدم يا روميل! ايام العلمين!
ولقد آن أن يخفت صوت العبودية في هذا كله، ليرتفع صوت واحد: أمنا مصر. عمنا الشرق. أبونا النيل.
أيها العبيد! تحرروا مرة من لوثات الضمير
أيها الدعاة في الحرب وغير الحرب!
كفروا عن جريمتكم وعدوا مصريين. وشرقيين!
أنا أوربا المتبربرة قطيع واحد من الوحوش الواغلة في دماء البشرية، المعتدية على كرامة الإنسانية؛ فليس بإنسان من لا يغضب لكرامته ولكرامة (الإنسان) التي يذلها الاستعمار في كل مكان. وهذه البشرية لن ترفع رأسها إلا يوم أن تسحق هذه اللعنة البغيضة. لعنة الاستعمار والمستعمرين. ونحن في الشرق لا ينبغي أن يقوم بيننا وبين هذا الغراب المتبربر سلام، إلا حين تنكمش هذه الوحوش الآدمية في داخل حدودها أو في داخل أقفاصها!
وما يجوز أن يرتفع صوت واحد بالثناء على قوم حاربوا لأنفسهم، دفاعا عن الزبد الذي يأخذونه من بين شفتي العالم، ليستمتعوا، ويصاب بالسل آخرون
إن هؤلاء المستعمرين هم لعنة هذه الأرض التي لا يجوز أن نضمر لها غير الحقد والضغن. فهم الذين يثيرون الحروب العالمية ويتمسحون في الألمان وغير الألمان.
والألمان مثلهم. . . كلهم سواء. وحوش آدمية متبربرة، تتبدى في أزياء من الحضارة الخادعة. فلن تكون حضارة صادقة مع ضمير متعفن كضمير الاستعمار.
الحقد! الحقد المقدس أيها الشرق المنكوب هو وحده المنقذ حين يفتح فاه، فيلتهم قطاع الطرق اللصوص.
أما أولئك المتغزلون في أوربا فليتواروا حياء، فليس الوقت وقت الغزل، بل الساعة ساعة الصراع ألا ولتنطلق من كل فم وقلب صيحة واحدة مدوية: الموت للاستعمار والويل للمستعمرين!
وسوم: العدد 656