الأمير الشرير
عاش في سالف الزمان أمير انصب قلبا وعقلا على غزو البلاد الأخرى وإرهاب أهلها ، فخرب البلاد المغزوة بالنار والسيف ، ووطىء جنوده الغلال في الحقول ، ، ودمروا أكواخ المزارعين حرقا ، والتهم اللهب الأغصان الخضراء ، ويبس الثمر على ما اسود من الشجر . وكم من أم فقيرة هربت من كوخها الذي تصاعد الدخان من جدرانه حاملة رضيعها عاريا بين ذراعيها ، وكان الجنود يتعقبونها فإذا عثروا عليها اتخذوها متاعا لنزواتهم الشيطانية . والحق أن الشياطين ما كانت لتقدر على فعل ما هو أسوأ من فعل أولئك الجنود . وكان الأمير يرى في ما يفعله هو وجنوده عين الصواب ، وأنه الطريق الوحيد الذي ينبغي أن تمضي فيه الأمور . وتضاعفت قوته مع الأيام ، وارتهب الناس من اسمه ، وحالف الحظ أفعاله أيما محالفة ، وجلب ثروة هائلة إلى مملكته من البلاد التي غزاها ، ورويدا رويدا تجمعت في تلك المملكة ثروة عز نظيرها في أي مكان آخر ، فشاد القصور البديعة الحسان ، والكنائس والقاعات ، وهتف معجبا كل من رأى المباني البديعة والكنوز العظيمة : " يا له من أمير قوي ! " دون أن يدروا شيئا عن البؤس الذي لا نهاية له الذي جلبه الأمير على البلدان التي غزاها ، ولا سمعوا بالتنهدات والمناحات التي انبعثت من أنقاض المدن التي خربها مع جنوده . وكثيرا ما كان ينظر في حبور إلى ذهبه وصروحه البديعة ، ويقول لنفسه ما يقوله جمهور الناس عنه : " يا لي من أمير قوي ! إنما يجب أن أملك المزيد ، يجب أن أملك أكثر مما ملكت ، ولا يجب أن يشبه سلطان آخر سلطاني أو يقترب منه " . وحارب كل جيرانه وغلبهم ، وصفد الملوك المغلوبين في سلاسل إلى عربته وجاب بهم شوارع عاصمة مملكته . وتوجب على أولئك الملوك حين يجلسون إلى مائدة الطعام إن يجثوا عند قدميه وأقدام حاشيته ، ويقتاتوا بفضلات الطعام التي يخلفها هو وتلك الحاشية . وفي النهاية صنع لنفسه تماثيل نصبت في الأماكن العامة وفوق القصور الملكية ، بل أحب نصبها في الكنائس ، وفي المذبح تحديدا ، وهنا عارضه القسس قائلين : " يا سمو الأمير ! أنت حقا قوي ، لكن قوة الله أعظم كثيرا من قوتك ، وليس لنا قدرة على إطاعتك في هذا الأمر " ، فقال : " طيب ! إذن سأحارب الله ! " ، وأمر ، تدفعه جلافته وصفاقته ، بصنع سفينة مهيبة يستطيع أن يطير بها في الجو ، فصنعت وأعدت إعدادا فخيما ، وزينت بألوان كثيرة حتى بدت مثل ذيل الطاوس ، وغطتها آلاف العيون ، وأي عيون ؟! فتحات مواسير البنادق . وجلس الأمير وسطها ، وتحدد عليه فحسب أن يضغط زمبركا لتنطلق آلاف الرصاصات في كل الاتجاهات ، ويتجدد حشو البنادق بالرصاص في الحال . وشدت إلى السفينة آلاف النسور ، فانطلقت نحو الشمس في سرعة السهم ، وما لبثت أن تناءت عن الأرض التي لاحت جبالها وغاباتها شبه حقل قمح أحدث المحراث فيه أخاديد تفصلها مروج خضر ، وسرعان ما لاحت الأرض شبه خريطة غامضة الخطوط ، وفي الختام حجبها الضباب والغمام . ووالت النسور ارتقاءها في الفضاء ، ثم أرسل الله _ جل ثناؤه _ أحد ملائكته الكثر للتصدي للسفينة ، فأمطر الأمير الشرير الملاك بالرصاص آلافا إلا أنه ارتد عن أجنحته المتألقة ، وهوى هوي حب البرد المألوف . ونبعت قطرة دم ، قطرة وحيدة من الريش الأبيض لأجنحة الملاك ، وهوت فوق السفينة عند مجلس الأمير ، واتقدت فيها ، وأثقلتها كأنما هي آلاف الأوزان ، وأنزلتها سريعا إلى الأرض ، فاستسلمت أجنحة النسور القوية ، ودمدمت الريح حول رأس الأمير ، وأطبقت عليه السحب . ترى أهي سحب الدخان الذي انبثق من المدن التي أحرقها الأمير مع جنوده ؟! واتخذت السحب أشكالا منكرة تشبه سلاطيع البحر ، وترامت أميالا مِدادا باسطة مخالبها خلفه ، وارتفعت تحكي صخورا ضخاما ، وتدحرجت منها أعداد هائلة ، ثم إنها استحالت تنانين للنار نوافث . فقال الأمير مكابرا : " سأحارب الله ! أقسمت على هذا ! ولا مناص من إنفاذ مشيئتي ! "
وأنفق سبع سنين في صنع سفن عجيبة ليبحر بها في الفضاء ، وصنع سهاما من الفولاذ الصلب لاختراق جدران السماء ، وحشد المحاربين من كل الأقطار ، وبلغوا كثرةً أنهم غطوا عدة أميال حين اصطفوا جنبا إلى جنبا . وركبوا السفن ، وقدم الأمير إلى سفينته ، وعندئذ بعث الله _ تعالى _ سرب بعوض ، سربا واحدا فحسب من صغار البعوض ، فزن حول رأس الأمير ، ولسع وجهه ويديه ، فغضب ، وسل سيفه وضربه فلامس سيفه الهواء دون أن يصيب أي بعوضة . وأمر حاشيته بأن تأتي بأغطية نفيسة للفه بها ليمنع وصول البعوض إليه ، فأطاعته الحاشية إلا أن بعوضة استقرت في غطاء ، ونفذت إلى طبلة أذنه ولسعتها ، فجننه ألم لسعتها ، فقطع الأغطية وقطع ثيابه ، واطرحها بعيدا . وراح يدور راقصا أمام جنوده المتوحشين الأفظاظ ، فسخروا من الأمير الذي أراد أن يحارب الله الذي لا غالب له ، فغلبته بعوضة صغيرة .
*الكاتب النرويجي هانز أندرسن ( 1805 _ 1875) .
وسوم: العدد 830