من يستطيع إجبار أي فلسطيني على التوقيع ونسيان يافا وعكا؟
حظي موت ميرون بنفنستي في إسرائيل باهتمام قليل، في حين حظي موت روت بايدر غينسبورغ وموت نوريت هراري بتغطية أوسع بكثير في وسائل الإعلام. هذا هو نصيب أنبياء الحقيقة. عندما يموتون يُنسَون. وقلة من الأشخاص الذين يستحقون اسم “أنبياء الحقيقة”. كان بنفنستي أحدهم بدون شك، وإن لم يحظ بالتقدير المناسب عن صدق تنبؤاته.
في المكان الثاني بعد أوائل الشجعان الذين وقفوا ضد الاحتلال في العام 1967، وقف ضد أحلام اليمين التي لم يكن في أي يوم من الأيام شريكاً فيها، وضد أحلام اليسار التي كان شريكاً فيها إلى أن استيقظ. ومن شارك رئيسه تيدي كوليك في هدم مجرم لحارة المغاربة في القدس بعد الحرب، ومن عمل في حقول الموز في رأس الناقورة ثم أدرك متأخراً بأنها غرست في كروم فلسطينية تم اقتلاعها، ومن عمل في “السلام الآن” لمراقبة مستوطنين حتى أدرك بأن ليس لذلك أي قيمة… عرض على إسرائيل الحقيقة التي رفضتها وترفضها حتى الآن. عندما تتبدد كل نبوءات الكذب وينتهي حلم حل الدولتين الزائف وتنتهي خدعة إقامة دولة أبرتهايد كدولة يهودية وديمقراطية، ستشرق نبوءة كاتب المقالات المنسي بضوء خافت.
لقد كان أول من شخّص، منذ أكثر من أربعين سنة، بأن الاحتلال أمر لا رجعة عنه. وفي الوقت الذي تشاجروا فيه هنا حول “مستقبل المناطق”، أدرك ما أصبح كثيرون يدركونه الآن: لا يوجد خيار حقيقي للتقسيم. هكذا ضحك القدر: مقاله الأخير في “هآرتس” بتاريخ 17/3/2017، حمل في الطبعة الورقية عنوان “ليس وضعاً لا رجعة عنه”. كان هذا مقالاً للاعتذار عن الخطأ وبث الأمل ممن اعتبر أكبر المتشائمين وتبين أنه الأكثر واقعية من بين الجميع: “كم من الطاقات بددنا على مراقبة الحواجز، وكشف المظالم، وعد المستوطنين، وتسجيل سرقة الأراضي، ومظاهرات احتجاج ودعاوى للمحكمة العليا. حاول الجميع محاربة مأسسة نظام الأبرتهايد، ولكنهم فعلياً ساهموا في ترسيخه. أما النقاشات العبثية في قضية مزايا وعيوب دولة واحدة مقابل دولتينف تعتم بشكل متعمد على حقيقة أن الأمر لا يتعلق بالأيديولوجيا، بل بتعريف الواقع”.
بالكاد تعرف عليه. ولكن عند قراءة أقواله سيحنى الرأس تقديراً وثناء على النبوءات التي سبق وتحققت، وعلى النبوءات التي في طريق التحقق. الشخص الذي صمم على تعريف نفسه بأنه صهيوني وأحد السكان الأصليين وعارض مقارنة إسرائيل بجنوب إفريقيا، قال في مقابلة أجراها معه آري شبيط في “هآرتس” في العام 2012، قال بأن دولة الأمة اليهودية لا مجال لها. عاصفة تهتز من الداخل. ولم يعتقد بأن حل الدولة الواحدة حل جيد، وأنه الحل الوحيد. لذلك، دعا إلى “المساواة في الاحترام” بين الطائفتين. “لقد حان الوقت كي تفهم أنت وأصدقاؤك في تل أبيب”، قال لشبيط، “بأنه لا يمكن تقسيم البلاد.. لا يمكن. ولا يمكنك القول للعرب بأن ينسوا يافا وعكا.. لن ينسوا. ولا تستطيع إجبار أي فلسطيني التوقيع على نهاية الصراع… لن يوقعوا. الخط الأخضر الذي كان الذريعة الكبرى لليسار لم يعد قائماً. لا تريد تل أبيب فهم ذلك. ولكن أرض إسرائيل كاملة. لذلك، فإن تقسيم البلاد غير ممكن، سواء جغرافياً أو طبيعياً أو نفسياً”.
في العام 2050 لن تكون هناك “يروشاليم”، تنبأ المقدسي الغيور، بل ستكون “يريمودين”، وهو دمج بين يريحو – موديعين، مدينة واحدة من السهل الساحلي وحتى غور الأردن مع حوض مقدس كمتحف في البلدة القديمة. “لا أعرف إذا كان في هذه النبوءة أي أمل. الأمر المؤكد هو أنني لن أكون هناك”.
كلماته الأخيرة في “هآرتس” كانت كلمات أمل: “كل شيء يبدو معدوماً في نظر الليبراليين اليساريين. ولكن عمليات التطرف تخلق ردوداً مضادة بشكل بطيء. الصراعات طويلة المدى، وخطورتها هي في نفاد الصير. ولكن انتصارها أمر محتم”. آمن بنفنستي بأن إسرائيل لن تستطيع السيطرة بالقوة على الفلسطينيين إلى الأبد. في نهاية المطاف ستكون هنا ديمقراطية. وماذا نريد بعد كارثة من نبي حقيقي.
وسوم: العدد 898