جورج برنارد شو ( 1856 _ 1950 )
ولد برنارد شو في دبلن ابناً لعائلة إنجليزية الأصل ، فهو واحد من كوكبة الأيرلنديين الإنجليز التي تعم سويفت وشريدان وإدموند بيرك وييتس الذين لهم فضل كبير جدا على الأدب الإنجليزي . ترك المدرسة في الرابعة من سنه ، وعمل خمس سنوات ، من 1871 إلى 1876 في مكتب وكيل أراضٍ . وقصد لندن في 1876 ، وكانت أمه استقرت فيها من قبل لتحسن مستقبلها معلمةً للموسيقا . وفي لندن بدأ حياته الأدبية كاتب روايات فاشلة ، وما عتم أن صار منشغلا بالإصلاح الاجتماعي . وفي 1884 كان أحد مؤسسي الجمعية الفابية ، وهي منظمة نذرت نفسها لتعزيز الاشتراكية تُؤَدةً . ولم يكن هو اشتراكيا تقليديا رغم صداقته لأبرز المفكرين الاشتراكيين في القرن التاسع عشر ، ومنهم سدني وبياتريس ويب ووليم موريس . وتأثر موقفه الاجتماعي والسياسي بإيمانه بنوع من التطور الفعال القائم على الإرادة الفردية ، وتعرف بواسطة أمه على أوبرا موزار التي أعجب بها ، وصار أيضا معجبا كبيرا برتشارد فاجنر . وفي نقده الموسيقي المنتظم ، أولا في صحيفة " لندن ستار" ، ثم في صحيفة " العالم " ؛ لم يكشف عن حماسته في فطنة حيوية فحسب ، ولكنه طرح مقياسا جديدا في الحكم على الممثلين والموسيقيين ، سخر فيه كثيرا من الذوق التقليدي وتفضيلات عصره . وأصبح في 1895 ناقدا مسرحيا لدورية " ستردي ريفيو " اللندنية ، فحركت استفزازاته المتعمدة أفكار عصره الإنجليزية عن المسرحيات والتمثيل ، ووسعت الآفاق العقلية لقرائه . ودافع عن إبسن وفاجنر ، ونشر في 1891 دراسة عن إبسن بعنوان " جوهر الإبسنية " قدم فيها الكاتب المسرحي النرويجي بصفته كاتبا واقعيا ومصلحا ركز على مشكلات الحياة الحديثة ، وقدم في حواره المسرحي " مناقشة " أصيلة لها . وإبسن الأكثر عمقا ورمزية الذي نعجب به اليوم ليس إبسن شو . ومما فيه دلالة أن مسرحياته العظيمة إنما كانت تلك التي هاجمت تقليدية الطبقة المتوسطة ونفاقها ، لا تلك التي سبرت في لطافة وشاعرية النواحي الأعمق في التجربة المسرحية . وجعله مراسه للنقد الموسيقي والمسرحي ، واهتمامه بالإصلاح الاجتماعي ، وإعجابه بفاجنر وإبسن ، ثم تأثير صامويل بتلر ( مؤلف رواية " erewhon" ) ( اسمها تصحيف مجازي ل "no where" التي تعني " إلى لا مكان " . المترجم ) ومؤلف " طريق كل اللحم " والساخر الكبير من الحياة والفكر في العصر الفيكتوري ) ؛ كاتبا مسرحيا عرف كل الحيل المسرحية من ناحية ، ومن ناحية ثانية مصمما على استعمال المسرح مثلما فهم استعمال إبسن له ، أي وسيلة لإبعاد جماهير المسرح عن رضاها ونفاقها وخضوعها الخالي من التفكير في كل صنوف الشرور الاجتماعية . ومنحه نقده للمسرحيات الجديدة على مدى سنين معرفة دقيقة بالأساليب البنيوية التي يستعملها واضعو "المسرحية الجيدة الكتابة " ( ذات المتعة المسرحية البارعة الحبكة ) في آخر القرن التاسع عشر ، فكان قادرا حين شرع في كتابة مسرحياته الخاصة على استعمال البناء المسرحي التقليدي ، بل استعمال الموضوعات المسرحية التقليدية لأغراض أبعد ما تكون عن التقليد . واستهدف من البداية ، بصفته كاتبا مسرحيا ، دفع جماهيره للنظر نظرة جديدة لمجتمعهم وللمشكلات الخلقية التي برزت فيه . كتب مرة : " يجب أن انبه قرائي إلى أن هجماتي مسددة إليهم لا إلى شخوص مسرحي " .
وهو لم يكتفِ بالفرح بإيقاف الرأي الشعبي على رأسه ، وإنما ذهب إلى أبعد ، فعقب أن أقنع جماهيره بأسلوبي الحدث والحوار أن البطل التقليدي كان هو الشرير ، وأن الشرير التقليدي كان هو البطل ؛ دوَر كل شيء ثانية ليبين أن البطل التقليدي كان هو البطل على كل حال ، ولكن بمعنى مغاير للمعنى الذي خاله الجمهور من قبل . وتابع هذا اللون من مسرحياته في مسرحية " الإنسان والسوبرمان " ، و " والرائد باربارا " ، و " والإنسان والسلاح " ، واستعمل المفارقة paradox في الحدث وفي الحوار لإدهاش وحتى لتحيير جمهوره لهدف وحيد ، هو أن يوضح له أن آراءه التقليدية العبثية ، ونفاقه الذي لا يعيه سببُ حيرته . وبعد أن حطم ثقة الجمهور بنفسه شرع في تنظيم الحوار البيني ، وأحيانا الحوار الذاتي للسماح لأحد أبطاله الحيويين ، وليس لذوي البطولة التقليدية ، بإنجاز رؤية المجتمع أو القضايا السياسية أو الدين أو أي موضوع رئيسي للمسرحية . ودائما متع الجمهور وأسر لبه بخفة دمه وبمحض حسه الفكه . وأحيانا قاده هذا الحس إلى أن يضع ملهاة نقدية جادة في محض مسرحية هزلية مثلما فعل في مسرحية " لا تستطيع أن تقول " في 1900 . وإجمالا ، جمع شو بين المتعة والإثارة الفعلية لإيجاد نوع جديد من الفكاهة النقدية في المسرح الإنجليزي . وكانت الفكاهة في مسرحيات أوسكار وايلد الهزلية خالية من أي تضمينات نقدية مميزة لاعتماد تلك المسرحيات على تقاليد المجتمع لا لتكشفها ، وإنما لتستخلص أكبر قدر من الحكم مما فيها من التباينات والعبثيات الباعثة على السرور . أما فكاهة شو فوضعت في خدمة عاطفة أصيلة للإصلاح ، وهو وإن سعى أحيانا لتعرية المهرج الفاسق ، تلك التعرية التي كان كل أفراد الجمهور على استعداد تام لتقبلها باعتبار المهرج فردا طبيعيا منهم ؛ لأنها ، التعرية ، تمكنهم من التخلص عبر الضحك من المفارقات المزعجة التي رماهم بها . ومع ذلك ، بقي شو حتى النهاية مخلصا لإمتاع الجمهور أيضا . وعالجت أولى مسرحياته ، وهي " بيوت الرجال الأرامل " التي مثلت في 1892 ، بطريقة مثيرة متميزة مشكلة ملكية أحياء الفقراء ، وحتى هنا ، في موضوع يسهل تقسيمه إلى مساوىء أخلاقية أو محاسن أخلاقية ، واصلت طرائق شو الفنية في إبراز نقيض الحال كشفَ جوانب جديدة في المشكلة ليضطر الجمهور إلى فهم كل تعقيدات الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي أوجدت هذه المشكلة بدلا من محض إدانة مالك الحي الفقير .
ومنعت مسرحية " مهنة السيدة وارين " التي كتبها في 1893 زمنا طويلا من العرض على خشبة المسرح الشعبي لتناولها موضوع الدعارة المحظور ، وهي ببساطة ليست عن الدعارة ، ولكن عن أصحاب بيوت الدعارة " الحسني النية " ، وقوانين العرض والطلب التي تعريها في بسالة وحصافة مستبدلة مرة ثانية كشف الدواعي والنتائج بالغضب الأخلاقي البسيط . ونشر في 1898 " مسرحيات سارة وبغيضة " بمقدمات طويلة تهاجم عددا كبيرا من الأمور ، ومنها الرقابة على المسرح . وتشمل تلك المسرحيات " السلاح والإنسان " ، و " كانديدا " ، و" رجل القدر" . ومن المسرحيات البغيضة " بيوت الرجال الأرامل " ، و" مهنة السيدة وارين " . ومن مسرحياته المتأخرة " جزيرة جون بول الأخرى " ، وهي عمل متميز يعرض لمظالم أيرلندا من الإنجليز . ومسرحية " الإنسان والسوبرمان " في 1904 محاولة طَموح لعرض آرائه من خلال الملهاة عن كيفية عمل قوة الحياة في الحياة العادية . وتحوي المسرحية بعض المشاهد الذكية جدا مع أنها في مجملها مسرفة الطول ، مسرفة الثرثرة . ومسرحية " مأزق الطبيب " في 1906 تعري الأطباء والفنانين أثناء كشفها بعض المشكلات الخلقية التي ينغمسون فيها . وتبين مسرحية " الرائد بربارا " الصادرة في 1907 ولع شو الشديد بالنجاح والقوة ، وازدراءه للإنجيليين الذين يعززون الدين بتقديم الحساء للفقراء بدلا من السعي لهداية الناجحين والأقوياء إلى الدين . ومسرحية " بيجماليون " في 1912 استكشاف ذكي للعلاقة بين طبقة اجتماعية واللهجة الدارجة في إنجلترا ، والتي حولت منذئذ إلى ملهاة موسيقية شعبية استثنائية في مستواها باسم " سيدتي الجميلة " . ومسرحية " بيت كسر القلب " في 1917بعنوانها الجانبي " خيالية بالأسلوب الروسي ذات موضوعات إنجليزية " تستلهم الكاتب المسرحي الروسي تشيكوف في وصفها للانهيار الحضاري الواضح إلا أنها في لبابها مسرحية شوانية ( نسبة إلى شو . المترجم ) ، وأبدع مثال لما دعاه إريك بنتلي المسرحية الخطابية disquisitory التي تقوم على تداخل الأفكار في الحوار . ومسرحية " عربة التفاح " في 1929 معالجة بالمفارقة لمشكلات الملكية والديمقراطية تدفعها رغبة مؤذية لهز كل مفكري الجناح اليساري والجناح اليميني ، وتبين ذلك الولع بالإنسان القوي الذي هو بدعة شو الشخصية التي تماشي اشتراكيته مماشاة غريبة .وكانت مسرحية " الأوبة إلى ميثوسيلا " في 1921 أعلى مسرحيات شو مطمحا ، والمسرحية التي يعدها بديعته إلا أنها في الحق أشد مسرحياته اكتئابا . وصورة شو عن قوة الحياة التي تمكن الناس في نهاية المطاف من تحسين النوع البشري إلى مستوى العيش عيشة طويلة بما يكفي ليصبحوا أعلى قليلا من محض عقول متحررة من الجسد ؛ تكشف عن برود غريب وتجريد في عمق فكره . ومسرحية " القديس جوان " مأساته الوحيدة في 1923 التي كثيرا ما اعتبرت أجود مسرحياته ؛ مسرحية ذكية جدا في نهجها ، ولكنها في حقيقتها ملهاة فيها مشهد مأساوي واحد أكثر مما هي مأساة كاملة . وشو لا خيال تاريخيا له ، وهو يجعل الماضي جذابا بتشبيهه بالحاضر ، وينجز تأثيراته الساخرة بتفسير شخصياته التاريخية كأنها من صنف الشخصيات التي قد تفعل ذات الشيء في الزمن الحالي . والنتيجة في الغالب مسلية كثيرا ،ولكنها خالية من أي استكناه حقيقي للشخصيات . و " القديس جوان " بصفتها فتاة ذات حس عام ملهم تبدو نشيطة ومسلية ،وصورة مدهشة إلى مستوى ما إلا أن هذه الصورة لا تتوافق مع صورة جوان شهيدةً دينية التي لم يعرف شو كيف يرسمها . وذات الشيء في المسرحية الفائقة التسلية " قيصر وكليوباترا " ( التي تصادف أن كانت ألمع مسرحياته ) نرى فكاهة شو تأخذ أسلوب تفسير الشخصيات الرئيسية كأنها عاشت في القرن التاسع عشر . فقيصر يصبح تحرريا من القرن التاسع عشر ، وأمين سره بريتانيكوس يصبح أحد غرباء العصر الفيكتوري ( العصر الفيكتوري من 1832 إلى 1901 . المترجم ) .وهذا يهب الماضي نوعا من الواقعية المعاصرة ، ولكن بثمن خسارة أحد أبعاده . وواصل شو إبان حياته المديدة والفعالة مزاعجة الجمهور وتحريكه بمسرحياته ومقدماته . وهو يكون في أحسن حالاته حين يستعمل الأساليب المسرحية المؤثرة ، والحوار البارع الماتع ليعري التناقضات والتباينات والفوارق بين المزعوم المدعى والحقيقي في المواقف والسلوك في هذا العصر. ويفعل هذا بروعة في مسرحيته " الإنسان والسلاح " . إنها مسرحية تعارض الرومانسية معارضة قاصدة عامدة إذا عنى الإنسان بالرومانسية " الأخلاق الزائفة والسلوك الحسن الزائف " التي تنثر المجد الزائف على التكدس السكاني والمرض والجريمة والسكر والحرب وموت الأطفال . وتقدم المسرحية ما سماه شو " الأخلاق الطبيعة " في مقابلة " الأخلاق الرومانسية " لمن عارضوا مسرحيته ومفهومه فيها للأخلاق . ونرى في هذه المسرحية أسلوب شو المتميز في موالاة نقل جوانب البطل التقليدي والشرير التقليدي . في البدء نخال بلانتشي المهدد بخطورة الأسر والموت بطلا محاربا ، ثم نراه جبانا رعديدا يؤْثر حبات الشيكولاتة على طلقات الرصاص ،ثم نلفيه قادرا على الاستسلام المقدام للموت ، ثم ينبعث في النهاية بعد مُضاعَف من التحولات صنفا جديدا من الأبطال ، هو الإنسان الفعال الذي يفوز بالبطلة التي تواصل هي أيضا التحول أمام عيوننا حتى نراها في النهاية مثلما نرى كثيرات من بطلات شو ، ومنهن الفتاة التي قادتها قوة الحياة إلى نشدان الرجل الأكثر فعالية وحيوية ليكون الزوج الأمثل لها . ونفس التحولات تحدث أمامنا للوقا وسيرجيوس . وهذه التحولات المزعجة في أساليب تقديم الشخصية تمثل ما هو أكثر من حيلة مسرحية ناجحة . إنها أسلوب شو لجعل جمهوره ينظر مرارا إلى الموقف الذي يطرحه عليه حتى يطرح هذا الجمهور كل أوهامه التي غذاها التقليد أو المعارضة السهلة للتقليد .
***
كان شو مؤمنا متحمسا لوجوب إصلاح الإملاء ، وإبان انتظاره لألف باء وتهجئة مُصلَحين ؛ قدم تبسيطات قليلة في إملائه أصر على ناشري كتبه لاستبقائها .
*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي "
وسوم: العدد 923