قرية لفتا.. هذا ما تذكره عودة بعد سماعه نية إسرائيل إقامة “حي فاخر” على أراضي قريته المهجرة
هذه هي القرية الأكثر حزناً في إسرائيل، ويبدو الأكثر جمالاً أيضاً من بينها. لم يعد هناك مثلها: قرية أشباح، ما زال معظم بيوتها قائمة قبل أن تهدم إسرائيل أسقفها لعدم توطينها من جديد؛ حوالي الستين بيتاً التي بقيت، بيوت من طابقين وأحياناً من ثلاثة طوابق على سفح الجبل، تندمج بشكل مدهش مع المشهد الطبيعي؛ بيوت حجرية وأقواس، كل طابق فيها يروي قصة ذاك العهد ونمط بناء مختلف، درة هندسة معمارية نادرة، دليل على ما كان هنا، دليل صامت على حياة كانت هنا واختفت. مسجد، معاصر زيتون قديمة، طواحين قمح، بقايا أرضيات ملونة، طريق معبدة تؤدي إلى نبع القرية الذي كان ذات يوم القلب النابض ومركز الحياة فيها، والآن يستحم بمياهه المسروقة طلاب مدارس دينية وشبيبة تلال في العطلة الفصلية.
بين البيوت المهجورة أشجار صبر بالطبع، تدل على وجود عائلة فلسطينية من صور باهر جاءت لقطف ثمار الصبر في عيد الأضحى بواسطة عصا عليها علبة فارغة في نهايتها [صبارة]، مثلما كانت الحال من قبل. اليوم السابق صادف يوم 9 آب الذي يحد فيه اليهود على خراب الهيكل الذي كان أيضاً مسلخاً وهدم قبل 2000 سنة. هؤلاء اليهود يمنعون الجيران العرب من الحداد على بيوتهم التي هدمت قبل 73 سنة ويتهمونهم بالتورط في كارثتهم.
كتاب “أول ذات ريمينز”، لوليد الخالدي، يتحدث عن 410 بيوت في العام 1931 في قرية لفتا، و2550 شخصاً ساكناً في 1945. يعقوب عودة الذي ولد عمره 7 سنوات في النكبة يتحدث عن 550 بيتاً في 1948 وعن حوالي 40 ألف شخص من أحفاد اللاجئين المنتشرين بين شرقي القدس والضفة الغربية والأردن والشتات. هو الآن عمره 81 سنة، ويظهر في عمر السبعين، ويقوم بالقفز في طرقات القرية مثل ابن الأربعين. يعرف كل شجرة تين ويتذكر كل بيت؛ كل جدار هنا له ذكرى فيه. معلم متقاعد من شعفاط قضى 17 سنة في السجن الإسرائيلي، لكنه لا يتحدث الآن عن ذلك لأن ذلك لا يتعلق بموضوعنا. موضوعنا هنا هو النضال من أجل الحفاظ على المكان.
يعد عودة ناشطاً في “التحالف من أجل إنقاذ لفتا”، وهو جمعية يهودية – فلسطينية تناضل منذ سنوات من أجل إنقاذ القرية. نشطاء آخرون في التحالف مثل دفنه غولان- البروفيسورة الزائرة في علم الاجتماع من الجامعة العبرية، وايلان شتاير- الخبير في التاريخ الجزئي، يرافقوننا في جولة بين بيوت القرية. وعند مشاهدة بيوت الأشباح هذه، كنا سألناهم عن سبب عدم هدم إسرائيل القرية في العام 1948 مثلما فعلت مع مئات القرى الأخرى، ولكن لا إجابة لديهم. تم إسكان القرية في 1949 بمهاجرين من اليمن، وبعد ذلك بمهاجرين من كردستان، لكنهم جميعاً غادروها. ثمة فندق فاخر بقي هنا في الجزء الخلفي للقرية، وشركة هندسة معمارية يهودية. البيوت الأخرى فارغة ومهجورة وحزينة. “الموت للعرب”، كتب على بيت عائلة العاصي التي هربت إلى الأردن، البيت الذي يطل على نبع القرية. زجاجات بيرة فارغة تنتهك حرمة المسجد المحروق. معظم شواهد القبور في المقبرة التي على سفح الجبل اختفت، ومنها قبور المواطنين الثلاثة الذين قتلوا في مذبحة لفتا، إطلاق النار القاتل الذي نفذه الجنود اليهود على مقهى صالح عيسى في 28 كانون الأول 1947. “احترم أباك وأمك”، يقول إعلان لـ “أوبتيكا هالبرن” من البيت الذي بني على أنقاض المقهى على قمة الجبل، غير بعيد عن المحطة المركزية في القدس.
وثمة يد مجهولة أيضاً انتزعت عدداً غير قليل من حجارة البيوت ذات الأقواس، على أمل إخفاء أنها ستنهار من تلقاء نفسها. ولكن العمل العربي هنا كان أقوى من أي يد شريرة، ومعظم البيوت لم تنهدم، ولا حتى بعد كل هذه السنوات التي سكن فيها المشردون والمدمنون واستخدموها وكأنها بيوتهم. ولكن ثمة خطر أكبر الآن وهو خطر الأموال. فسلطة أراضي إسرائيل ستنشر في الأيام القريبة كراسة عطاء لبناء حي فاخر على أنقاض لفتا. 259 فيلّا وفندقاً ومجمعاً تجارياً. وتتعهد سلطة أراضي إسرائيل بالحفاظ على البيوت، ونشطاء الإنقاذ على قناعة بأن الحي الفاخر سيمحو جمال القرية وتراثها، والنضال العام والقانوني على مستقبل القرية انطلق. حتى بلدية القدس تعارض المخطط حتى الآن. في 2004 وُضع مخطط مشابه تم إحباطه في نهاية الأمر بعد نضال عام.
المهجرون الآخرون ونشطاء النضال اليهود يعرفون جيداً أنه لن تكون عودة إلى هنا، على الأقل ليس في السنوات القريبة. خسارة، فقد كان يمكن إقامة مشروع ريادي للعودة، عودة على سبيل المثال مثل شقة نموذجية، بادرة حسن نية من إسرائيل للاجئين كي يعودوا إلى بيوتهم المهجورة، دون حاجة إلى طرد أي يهودي من بيته. ولكن هذه تعدها إسرائيل 2021أحلام يقظة. هدف النضال هو الحفاظ على ما هو قائم، وعدم المس به وعدم هدمه، وعدم البناء، ويكفي تثبيت البيوت حتى لا تنهار، وترك قرار مستقبل القرية للأجيال القادمة.
الذين يؤيدون العودة يعتقدون أن هذه الوصمة التي على مدخل عاصمة إسرائيل قد تستخدم كتذكار صامت، ربما يثير الوعي. “وعي العودة”، كما تسميه غولان في كتابها “أمل على هامش الحرم الجامعي” (من إصدار ريسلينغ)، يشبه متحف الضاحية 6 في كيبتاون، الذي سيستخدم كمركز تعليمي لذكرى القرية التي تم تدميرها واختفت. وعندما تذهب غولان أبعد من ذلك، تتحدث عن القرية كمكان اجتماع للجان الحقيقة والمصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين، التي سيتم تشكيلها ذات يوم خيالي، مثلما في جنوب إفريقيا. من يحبون الطبيعة وجودة البيئة يريدون الحفاظ على المشهد الجميل والطبيعة البرية، يكفي أن تنظر إلى مباني حي “جفعات شاؤول” التي ترتفع فوق بيوت القرية كي تفهم كم سيكون البديل قبيحاً. ومؤسسات دولية مثل “اليونسكو” كانت أدخلت لفتا إلى قائمة المواقع قبل الإعلان عنها كموقع تراث عالمي. وصندوق مواقع التراث العالمي الذي وضعها في قائمة الـ 24 موقعاً تراثياً المعرضة للخطر، يعملون من أجل إنقاذ القرية. يمكن الافتراض أن مالاً كبيراً وتطويراً يختفيان من وراء قرار بناء الحي الفاخر المقدسي، وكذا نية في محو الذكريات ومعها آخر احتمالات العودة.
بالنسبة لعودة، يدور الحديث عن مشروع حياة، إذ يحمل معه في حقيبته أنى ارتحل صور الكواشين التركية وذكريات الطفولة الخاصة. ويمكنه التحدث عنها لساعات، ومن الصعب وقفه. هو يأتي إلى هنا مرة كل أسبوع أو أسبوعين وهو يتكئ على ماضيه ويفحص الحاضر. قبل بضعة أيام، اكتشف أن بعض الحجارة اقتُلعت من سقف المسجد، ولم يبق من بيت طفولته الثاني إلا كومة حجارة مغطاة بالأشواك. وبيت العائلة الأول قبل انتقال العائلة إلى البيت الثاني والذي يقع على الجانب للوادي، ما زال موجوداً. الطابقان العلويان تم تدميرهما. شقيق جده، المؤذن، كان يؤذن من شرفة هذا البيت داعياً للصلاة. ومبنى الكنيست يقع على أراضي القرية، في حي الشيخ بدر. ولكنه بعيد من هنا. وصلت أراضي القرية حتى وادي الجوز في شرقي القدس. سبعة مناشير حجارة كانت موجودة فيها لبناء بيوت القرية من حجارة المنطقة وست معاصر زيتون.
ما الذي تشعر به عندما ترى طلاب المدرسة الدينية في القرية؟ ما الذي تشعر به إذا أخذت هويتك وأخرجت منها صورتك ووضعت بدلاً منها صورة شخص آخر؟ صمت للحظة، وواصل: “طفولتي كانت هنا في بركة النبع، كنت مثل السمكة. عندما كان يدق جرس المدرسة على قمة الجبل، كنا نتسابق من يصل أولاً عن طريق القفز من صخرة إلى أخرى نحو النبع. المدرسة بقيت على حالها ويجري فيها تعليم للتوراة. سحب عودة من حقيبته صورة أخرى، صورة دُفعته في المدرسة.
بعد إطلاق النار على مقهى صالح عيسى، جاء إحراق بيت المختار محمود صيام كإشارة تحذير للسكان من أجل المغادرة. أصبحت القرية محاصرة، 20 بيتاً تم تفجيرها، وتبادل لإطلاق النار بين الجنود اليهود والعرب أصبح روتيناً. سكان القرية، ومن بينهم الطفل يعقوب، وجدوا ملجأ لهم في الوادي. في النهاية، قرروا إخلاء النساء والأطفال. يتذكر عودة السفر في الشاحنة الذي انتهى به في رام الله. “خلال ساعة أصبحت لاجئاً. لم نأخذ معنا شيئاً. في الغد سنعود. كنا ملوكاً، وخلال ساعة أصبحنا متسولين ونطرق الأبواب طلباً للطعام. هكذا انضممت إلى الحركة الوطنية الفلسطينية. حلمت بالعودة طوال حياتي. بقي والده مع مقاتلي القرية حتى مذبحة دير ياسين المجاورة، التي وقع رعبها على سكان القرية مثلما وقع على فلسطينيين كثيرين. وعندها غادروها بشكل نهائي لم يعد بإمكانهم العودة إليها. والده توفي بعد سنة في سن الـ 37. وعودة على ثقة بأن ذلك جاء نتيجة الحسرة. بعد 15 شهراً في رام الله انتقلت العائلة إلى البلدة القديمة في القدس كي يكونوا أقرب إلى لفتا.
“لا حق لأحد ببناء حي فاخر وهدم بيوت أجدادنا وآبائنا وتدمير ذكرياتنا. أعرف أنني لا أستطيع العودة إلى بيتي، ولكن اسمحوا لنا بإبقاء الوضع على حاله. لفتا لم تهدم في الحرب. لا تدمروها الآن”. فجأة تذكر أحد البيوت في الوادي الموجود عند أقدامنا، الذي زرعت صاحبة البيت الازهار في حديقته. كان الأولاد يتسللون إلى الحديقة ويحاولون قطف الأزهار. وقد قامت بضبطهم ذات مرة وقال الأولاد إنهم جاءوا لشم روائحها فقط. وهي قالت إذا قطفوا الأزهار سيموتون ولن يستطيعوا شمها بعد ذلك. ومنذ ذلك الحين، لم يقطف عودة أي زهرة في حياته.
وسوم: العدد 939