ما هو الشعر ؟!
أصل الشعر ، مثل الفنون الأخرى ، هو السحر والطقوس الدينية ، ومثل الفن المسرحي ، الذي عده أرسطو جذر شجرة الشعر وساقها ، صار " علمانيا " مع توالي الزمن إلا أن طبيعة الشعر الجوهرية لم تتبدل كثيرا ، وإن تبدلت منزلة الشاعر . وكلما كان المجتمع بدائيا ساد اعتبار الشاعر فيه نبيا ، أو عرافا ، وحتى حكيما يقضي بين الناس ، وغالبا ما كانت وظيفة الشعر الاجتماعية والدينية ظاهرة في الأزمنة التي تسودها الأمية . وكثير من الشعر القديم المعروف لنا من النوع الملحمي مثل " ملحمة جلجامش " السومرية ، وشعر هوميروس الإغريقي . واستهدفت تلك الأشعار نقل معرفة أساسية عن الآلهة وخلق العالم إلى جانب وظيفتها الإمتاعية وما إلى ذلك من الوظائف . واستهدف الشعراء أيضا إلهام الناس بسرد الأعمال البطولية ، وإبهاج ولاة أمرهم بتأكيد عراقة أسرهم الحاكمة و" قداستها التي لا ريب فيها " . ويمكن تشبيه كل هدفهم بهدف بعض خطب رئيس وزراء بريطانيا زمن الحرب العالمية الثانية . ولا تقتصر أهمية القصائد العبرية العظيمة في التوراة على انتمائها إلى حقل ما يمكن أن نسميه الآن الشعر. ويقدم الشعر من المنظور التاريخي تشكيلة محيرة من الصيغ والأشكال والنظريات التي يعتبر كثير منها متناقضا مع سواه . فالمذهب البتراركي ( نسبة إلى الشاعر الروماني بترارك . المترجم ) في القرن السادس عشر أخلى المكان لشعر " ما وراء الطبيعة " في مطلع القرن السابع عشر ، وتلا وضوح الشعر الأوغسطي ما سبقه من اضطراب في الشعر إلا أنه ما لبث أن أزاحه تيار الرومانسية الجارف ، ثم تلا الرومانسية مطالبة البرناسيين في فرنسا في القرن التاسع عشر
بالصور الشعرية ذات البريق الوصفي ، وبعد سنوات قليلة ألح الرمزيون على الغموض الموحي ، وحاول السرياليون بعدهم أن ينقلوا إلى الكتابة الشعرية التجربة التي نزعوها مباشرة مما خلف الشعور . وسبقت محاولات كثيرة للإجابة عن سؤال " ما هو الشعر؟! " ، فقال الناقد والشاعر ماثيو أرنولد : " هو نقد الحياة . " ، وقال الشاعر و . ه . أودن : " إنه الكلام الذي لا ينسى . " ، وقال الشاعر وليم وردز ورث : " إنه الفيض العفوي للأحاسيس القوية . " ، أما لويس ماكنيس فعرفه بأنه " وسيلة دقيقة لتسجيل رد فعل الإنسان نحو الحياة ." ، وعرفه صامويل تايلور كوليردج ب " أحسن الكلام في أحسن صياغة . " ، وعرفه بيرسي شلي ب " التعبير عن الخيال ." إلا أن كل تلك التعريفات الموجزة إنما تعطينا وجهة نظر فردية جزئية في الشعر ، وفي ذات الوقت يمكن انطباقها بسهولة على اشياء كثيرة غير الشعر ، ومن ثم لعله من الأحسن الاكتفاء ببيان الأسس الجلية التي تميز الشعر عن سائر الإبداعات الأخرى ، وهي أنه فن مادته الأساسية هي اللغة ، وأنه من ثم يتطلب كل مصادر الصياغة والصوت الموسيقي والإيقاع والرمز والمجاز والصور الفنية والاستعارة والتشبيه التي توفرها اللغة لتكون النتيجة صنعة لغوية في منتهى التكثيف وفي ذات الوقت في منتهى البساطة والإحكام . والتعرف على الطبيعة الجوهرية لتلك الصنعة أيسر من تعريفها اصطلاحيا . ولا يمكننا بحال من الأحوال أن نعرف الشعر بنقيضه وهو النثر ؛ ذلك أن نقيض النثر ليس الشعر وإنما النظم ، وقد تكون كتابة منظومة شعرا أو لا تكون شعرا .
*"موسوعة كاكستون البريطانية الجديدة " .
وسوم: العدد 988