حقائق وأرقام عن التشيع في سوريا (1/3)
زمن الشيعة:
بحث ميداني
بروفيسور خالد سنداوي
ترجمة: د. حمد العيسى
تقديم المترجم: هنا بحث نادر ومهم للغاية للبروفيسور خالد سنداوي عن التشيع في سوريا. نشر البحث في يونيو 2009 ضمن مشروع «اتجاهات حالية في الفكر الإسلامي» التابع لمؤسسة بحثية أمريكية مرموقة غير حزبية وغير حكومية، ومكرسة للبحوث والدراسات التحليلية المبتكرة التي تعزز الأمن العالمي والازدهار والحرية.
أما المؤلف بروفيسور خالد سنداوي، فهو باحث وأكاديمي فلسطيني مرموق متخصص في الأدب العربي والدراسات الإسلاميةّ بصورة عامة، أما التخصص الدقيق فهو «أدب الشيعة» والذي يعتبر من التخصصات النادرة في العالم. وهو من مواليد قرية الجـشّ الفلسطينية في منطقة الجليل الأعلى عام 1965.
ويعدّ السنداوي حالياً من دارسي الإسلام الشيعي البارزين والنادرين على الصعيدين العربي والعالمي من حيث عقيدة الشيعة وفكرهم وأدبهم. أصدر عشرة كتب آخرها وأهمها «معجم مصطلحات الشيعة»، كما ألف ما يزيد على 60 مقالة علمية في تخصصه نشرها في مجلات عالمية محكّمة.
وكان قد حصل على شهادة الدكتوراه في عام 1999 عن أطروحته: «مقتل الحسين بن علي في الأدب الشيعي». وقد كتب البروفيسور السنداوي هذا البحث بناء على جولة ميدانية قام بها بنفسه داخل سوريا كما سيلاحظ القراء، حيث زار سوريا في أواخر عام 2008 وبداية عام 2009 أي قبل الحرب الأهلية بسنوات حيث تجول في المحافظات التي دخلها التشيع وتحدث مع أعيانها ورصد الأساليب والحكايات ليكتب هذا البحث النادر والفريد من نوعه من قلب الحدث.
وهذا البحث يشكل الفصل الخامس من أصل عشرة فصول في كتابي المترجم القادم عن «الصراع الإستراتيجي الجديد في الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة» والذي سيصدر خلال عام 2014 بحول الله.
* زمن الشيعة: حقائق وأرقام عن التشيع في سوريا (1/3)
لم يكن في سوريا قط نسبة كبيرة من السكان الشيعة، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح هناك زيادة في حالات التحول إلى المذهب الشيعي (أي التشيع) ضمن السكان السوريين السنة، والإسماعيليين والعلويين. وقد أدى القرب الجغرافي لسوريا مع إيران دائماً إلى درجة معينة من النفوذ الإيراني في سوريا، والذي زاد كثيراً مع وصول بشار الأسد إلى السلطة في عام 2000، بعد وفاة والده حافظ.
تشجيع الحكومة السورية للنشاط التبشيري الإيراني قد يكون السبب الرئيس للزيادة في التشيع، ولكنه ليس السبب الوحيد؛ فمن العوامل الأخرى التي يجب أخذها بعين الاعتبار كما سنشرح لاحقا:
(أ) وجود سكان شيعة «أصليين» ومزارات شيعية تاريخية في أنحاء مختلفة من سوريا.
(ب) طبيعة طقوس التعبد الشيعي.
(ج) قوة وسائل الإعلام الشيعية.
(د) الانتصار «المُتوهم» لحزب الله في حرب لبنان عام 2006.
(هـ) التودد الاستراتيجي لبعض السوريين النافذين.
(و) الإغراءات الاقتصادية والتعليمية للفقراء.
(ز) هيمنة الطائفة العلوية السياسية.
ليس من السهل الحصول على إحصاءات دقيقة حول تعداد مختلف الطوائف الدينية في سوريا بسبب حساسية النظام العلوي تجاه المسائل التي من هذا النوع. تقرير الحريات الدينية الدولية لعام 2006، الذي تنشره وزارة الخارجية الأميركية، أشار إلى أن الأقليات الإسلامية العلوية والاسماعيلية والشيعية وغيرها يشكلون 13 في المائة من سكان سوريا، أي حوالي 2.2 مليون شخص من مجموع السكان البالغ عددهم 18 مليون نسمة.
ويشير تقرير آخر بعنوان «الطوائف الدينية والمذاهب والمجموعات العرقية» الذي نشر في عام 2005، من قبل مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية في القاهرة، إلى أن الشيعة يشكلون 1 في المائة من سكان سوريا، بينما يشكل العلويون 8-9 في المائة. وتزعم مواقع شيعية على الإنترنت أن الشيعة السوريين يشكلون 2 في المائة من سكان ذلك البلد.
إضافة إلى الشيعة الأصليين، تستضيف سوريا أيضاً جالية من المهاجرين الإيرانيين الشيعة الذين يقيمون بصورة رئيسة في دمشق، فضلاً على عدد كبير من الشيعة العراقيين الذين وصلوا خلال السبعينيات والثمانينيات بسبب السياسات القمعية للنظام العراقي السابق. وزاد عدد السكان من الشيعة العراقيين كذلك في أعقاب غزو العراق عام 2003.
وبشكل عام ليس هناك تمييز اجتماعي ضد الشيعة في سوريا؛ فهم مجموعة مندمجة اجتماعياً ويتزاوجون بسهولة مع الطوائف المسلمة الأخرى. العدد الصغير للشيعة في سوريا قد يفسر -جزئياً- لماذا لم يصنعوا «خصوصية طائفية» مثل التي شهدتها دول أخرى في المنطقة.
الشيعة يعيشون في معظم المحافظات السورية، مع وجود أعلى نسبة في طرطوس، وهي المحافظة التي يوجد فيها 44 في المائة من السكان الشيعة في البلاد.
وقد وصل بعض الشيعة إلى مناصب رفيعة في سوريا، بينهم مهدي دخل الله، وزير الإعلام الأسبق، وصائب نحاس، وهو رجل أعمال بارز. الأسر الشيعية الأكثر شهرة في البلاد تشمل: آل نظام، آل مرتضى، آل بيضون، وآل روماني.
شيعة سورية لا يتبعون مرجعاً واحداً للتقليد. البعض يتبعون آية الله علي السيستاني في النجف- العراق. وآخرون يتبعون آية الله علي خامنئي، وهو أعلى سلطة دينية في إيران، وآخرون [كانوا] يتبعون السيد محمد حسين فضل الله في لبنان.
* العامل العلوي:
ما الذي يفسر المعاملة التفضيلية نسبياً للشيعة في سوريا؟ لقد كان وضعهم الإيجابي موجوداً حتى قبل مجيء حكومة بشار الأسد، والتي اتخذت موقفاً أكثر إيجابية تجاه إيران والتشيع علناً.
منذ عام 1963، حكمت سوريا من قبل النظام البعثي الذي تهيمن عليه الطائفة العلوية، والتي لديها صلات مع التشيع.
حزب البعث الحاكم كان يدرك دائماً موقفه غير الآمن، لكونه في الجوهر يمثل طائفة صغيرة تنتمي للأقلية العلوية ولذلك حاول الحفاظ على التوازن بين ادعاء الانتماء إلى المذهب الشيعي الإثني عشري المعترف به، ولكن من دون فقدان الهوية العلوية العرقية والثقافية، وكذلك عقائد وممارسات مذهبهم السرية.
ولذلك فقد قام الحزب باتخاذ سياسات تهدف إلى إضفاء الشرعية على العقيدة العلوية، التي أدت دوراً مهماً في صياغة السياسات السورية تجاه الشيعة.
وكانت أحد أهم نتائج الهيمنة السياسية للعلويين هي الأهمية التي توليها سورية لعلاقاتها مع الشيعة في لبنان وإيران.
وكانت هذه العلاقات من وقت إلى آخر تتعزز بفضل العلاقات الشخصية مع زعماء لبنان الشيعة. كان هذا ينطبق بشكل خاص على السيد موسى الصدر في بداية السبعينيات. كما قدمت سوريا تنازلات خاصة لقادة المعارضة الإيرانية قبل ثورة الخميني.
وكان القانون في ظل نظام سياسي قائم على الحزب الواحد في سوريا يحظر إنشاء الأحزاب السياسية التي لها أيديولوجية تتعارض مع حزب البعث الحاكم.
وأصر النظام الاستبدادي في سوريا على إبقاء الدين بعيداً عن السياسة كما تبين للإخوان المسلمين في 2 فبراير 1982، عندما تمردوا على الحكومة السورية.
اعتقلت الحكومة السورية 20,000 سجيناً سياسياً من جماعة الإخوان المسلمين وقتلت منهم 10,000 شخص، ووضعت منهم على القائمة السوداء 600,000 شخص.
هذه الإجراءات تساعد على تفسير سبب عدم تأسيس الشيعة أية منظمات سياسية خاصة بهم، ومحافظتهم على مسافة ما بعيداً عن السياسة وتقييد عملهم في المسائل الدينية.
تمت المحافظة على الحقوق الدينية الشيعية، وعلى الرغم من الأيديولوجية العلمانية للنظام، إلا أنه يسعى إلى ضمان ولاء المؤسسات الدينية المختلفة في البلاد، وربما التعويض عن النقص العام للتأييد الشعبي الحقيقي.
* نتائج مسح استطلاعي أوروبي:
أجريت دراسة ميدانية رائدة ممولة من الاتحاد الأوروبي في الأشهر الستة الأولى من عام 2006، ونتج منها بيانات مفيدة عن المشهد الديني السوري.
لقد أشارت نتائج الدراسة إلى أن المحافظات ذات الأغلبية العلوية كانت تضم أعلى نسبة مئوية للمتحولين إلى المذهب الشيعي مقارنة بالمحافظات الأخرى.
ووفقاً لهذه الدراسة، فإن توزيع المتحولين إلى المذهب الشيعي (المتشيعين) بين «العلويين» في مختلف المحافظات هو على النحو التالي:
- طرطوس 44 في المائة، (44 في المائة من «مجموع» المتشيعين من الطائفة العلوية هم في طرطوس).
- اللاذقية 26 في المائة، (26 في المائة من «مجموع» المتشيعين من الطائفة العلوية هم في اللاذقية).
- حمص 14 في المائة، (14 في المائة من «مجموع» المتشيعين من الطائفة العلوية هم في حمص).
- حماة ودمشق: 16 في المائة.
- المجموع = 100 في المائة
وأما النسب المئوية للمتحولين إلى المذهب الشيعي بين «السنة» في مختلف المحافظات فهي على النحو التالي:
- حلب 46 في المائة، (46 في المائة من «مجموع» المتشيعين من أهل السنة هم في حلب).
- دمشق 23 في المائة، (23 في المائة من «مجموع» المتشيعين من أهل السنة هم في دمشق).
- حمص 22 في المائة، (22 في المائة من «مجموع» المتشيعين من أهل السنة هم في حمص)
- حماة 5 في المائة، (5 في المائة من «مجموع» المتشيعين من أهل السنة هم في حماة)
- إدلب 4 في المائة. (4 في المائة من «مجموع» المتشيعين من أهل السنة هم في إدلب)
- المجموع = 100 في المائة.
أما نسب المتحولين (المتشيعين) في محافظات دير الزور والرقة والقنيطرة فهي صغيرة جداً لدرجة يمكن اعتبارها صفراً.
أما بين «الإسماعيليين»، فإن نسب المتحولين في مختلف المحافظات على النحو التالي:
- حماة: 51 في المائة، (51 في المائة من «مجموع» المتشيعين الإسماعيليين هم في حماة).
- طرطوس: 43 في المائة، (43 في المائة من «مجموع» المتشيعين الإسماعيليين هم في طرطوس).
- حلب: 3 في المائة، (3 في المائة من «مجموع» المتشيعين الإسماعيليين هم في حلب).
- دمشق: 2 في المائة، (2 في المائة من «مجموع» المتشيعين الإسماعيليين هم في دمشق).
- إدلب: 1 في المائة. (1 في المائة من «مجموع» المتشيعين الإسماعيليين هم في إدلب).
- المجموع = 100 في المائة.
وبالإجمال، فإن معدل التحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي منخفض جداً، حيث يقدر بـ 2 في المائة من مجموع المتشيعين بشكل عام [تعليق المترجم: أي أن 98 في المائة من مجموع السورين المتشيعين هم من الطوائف غير السنية. انتهى تعليق المترجم].
ربما لا تكون هذه النسبة القليلة مستغربة، فنحو 7 في المائة من المسلمين السنة الذين تحولوا في منطقة دمشق ينتمون إلى أسر سورية كانت في الأصل شيعية ولكنهم أصبحوا سنة مع مرور الزمن، مثل عائلات: آل عطار، آل قصاب، آل حسن، آل لحام، آل بختيار، آل اختيار. وفي حلب، 88 في المائة من السنة المتشيعين كانوا من مثل هذه العائلات ذات الأصل الشيعي.
ووفقاً لدراسة الاتحاد الأوروبي، فإن الحالات المعروفة للسنة الذين تشيعوا لا يمكن أن يُعزى تشيعهم لأسباب اجتماعية أو اقتصادية عادية وطبيعية في أي من الطوائف؛ ففي دمشق، على سبيل المثال، 64.4 في المائة من المتحولين للمذهب الشيعي ينتمون إلى أسر ذات مداخيل متوسطة/مرتفعة من فئة التجار والمهنيين.
الغالبية العظمى منهم (69 في المائة) حاصلة على الأقل على شهادة الثانوية العامة. وفي حلب، أيضاً، وُجد أن 61 في المائة من المتحولين جاؤوا من الطبقات المتوسطة أو العليا.
وبين الفقراء كان 39 في المائة من المتحولين ينتمون إلى عائلات ذات أصل شيعي سابق (وبالتالي يكونون قد «جددوا» انتماءهم الشيعي)؛ ولذلك من المحتمل أن تحولهم له أسسه الدينية.
وبين السنة، كانت نسبة المتحولين لأسباب مالية (في جميع المحافظات التي شملتها الدراسة) لا تتعدى 3 في المائة.
ووفقاً للدراسة، فإن التحولات نادراً ما حدثت لأسباب مالية نفعية، باستثناء عدد قليل من المتحولين السنة، وخاصة بعض طلبة الجامعات، الذين قالوا إنهم غير متدينين على الإطلاق، ولكنه قرروا التشيع «من أجل الحصول على ما يكفي من المال لإنهاء دراستهم أو للزواج، مع تأكيدهم أن أياً من المذهبين السني والشيعي لا يعنيان لهم شيئاً».
وأكدت نتيجة أخرى للدراسة وجود نسبة قليلة جداً من المتحولين السنة، الذين زعموا أنهم تشيعوا بعد حرب لبنان عام 2006 وذلك «بدافع الحب لحزب الله وحسن نصر الله».
أما بالنسبة إلى تحول العلويين في جميع المحافظات السورية، فقد وجدت الدراسة أنه بخلاف السنة، كانت الغالبية العظمى (حوالى 76 في المائة) من الطلاب أو العاطلين عن العمل.
وكذلك أكد رجل دين علوي في طرطوس تحول بعض العسكريين، وشهادته مهمة، لأن المعلومات الرسمية عن العسكريين ليس من السهل الحصول عليها. وكانت الأغلبية الساحقة (84 في المائة) من المتحولين الإسماعيليين، مثل المتحولين السنة، من أسر من الطبقة الوسطى/العليا.
وتوصلت دراسة الاتحاد الأوروبي إلى الاستنتاجات العامة الثلاثة التالية بشأن التشيع في سوريا، وآخرها (الثالث) على وجه الخصوص سوف يقلق النظام الحاكم الذي يهيمن عليه العلويون:
(1) «معظم» حالات التحول (التشيع)، في الماضي وكذلك في الحاضر، تحدث بين الأسر التي لديها ميول شيعية تقليدية (كـ الإسماعيليين والعلويين).
(2) نسبة التشيع لتحقيق مكاسب اقتصادية أو مالية منخفضة جدا لدرجة أن فكرة «التحول لأسباب نفعية» يمكن استبعادها كنمط. (ولكن يبدو أن هذا الاستنتاج لا يعكس حال كل الذين تحولوا إلى المذهب الشيعي، حيث تشير دراسات موثقة أخرى إلى أن نسبة كبيرة (Large Percentage)، من الشيعة الجدد في سوريا تحولوا لأسباب مالية).
(3) إذا استمر المعدل الحالي للتشيع بين الإسماعيليين والعلويين في سوريا بلا انخفاض، فإن الطائفة الأولى ستنقرض في سوريا في غضون عشر سنوات، والثانية خلال ربع قرن.
وكما سنشرح هنا لاحقا، فإن هناك أدلة حكائية [أي حكايات متناقلة بين الناس في المجالس] كثيرة من مختلف محافظات سوريا، تشكك في الاستنتاجين الأول والثاني أعلاه.
* المزارات الشيعية في سوريا:
هناك العديد من المزارات الشيعية الدولية المهمة التي تعتبر بمثابة مراكز مهمة للوجود الشيعي في سوريا وتجذب كذلك آلاف الزوار من الخارج.
المزارات تمول نفسها مالياً وتتبع وزارة الأوقاف. ولكن بالرغم من ذلك، استغلت إيران هذه الفرصة لبسط نفوذها في سوريا عن طريق تمويل مشاريع لتطوير بعض هذه المواقع.
الشيعة السوريون الأصليون يعيشون غالباً في أحياء مختلفة من العاصمة نفسها، وكذلك في عدد قليل من البلدات والقرى في محافظتي حمص وحماة.
معظم الشيعة العراقيين في سوريا يقيمون في منطقة السيدة زينب إلى الجنوب من العاصمة دمشق، وهي المنطقة التي نمت حول واحد من أهم المزارات الشيعة: قبر زينب حفيدة علي بن أبي طالب (ر).
مقام السيدة زينب هذا، والذي تُستخدم مرافقه للمحاضرات والاحتفالات الدينية، وكذلك لتوزيع المطبوعات الدينية التبشيرية الشيعية، هو أكبر مركز شيعي في سوريا.
إضافة إلى ذلك، يزور العديد من الحجاج الإيرانيين المقام. ومن اللافت زيادة عدد الحجاج الإيرانيين بصورة فلكية من 27,000 في العام 1978، إلى 290,000 في عام 2003. وجلبت هذه الزيادة –بالطبع- زيادة في النفوذ الإيراني في سوريا.
مزار السيدة رقية، هو ثاني أهم مزار شيعي من حيث عدد الزوار في سوريا. ونظراً إلى موقعه المركزي داخل العاصمة، فإنه يجلب الحشود الكبيرة للصلاة العامة اليومية وصلاة الجمعة الأسبوعية. ويعتبر إمام المسجد السيدة رقية، الشيخ نبيل الحلباوي، واحداً من الشخصيات الشيعية البارزة في سوريا.
وفي بعض الأحيان أدى وجود الأضرحة الشيعية في سوريا إلى تدخل إيراني نتج منه احتكاك. في بداية التسعينيات شيد الإيرانيون على قبر السيدة سكينة، الواقع في مقبرة «الباب الصغير» في دمشق، قبراً كبيراً فوق القبر القديم.
لقد اشتروا الأراضي التي حوله لبناء فناء كي يستوعب الحجاج الإيرانيين الذين كانوا بالمئات ثم أصبحوا بالآلاف والذين بدأوا يحجون للموقع الذي أصبح الآن يسمى بـ «مقام السيدة سكينة»، ابنة الإمام علي بن أبي طالب(ر). وبعد أن اشتروا الأرض، بدأ الإيرانيون أيضاً ببناء حسينية كبيرة جداً على الأراضي التي اشتروها.
المبنى الكبير في داريا، القريب جدا من دمشق للغاية، لا يزال قيد الإنشاء، ولكن المحلات التجارية والمباني السكنية التي أنشئت من حوله بدأت تعمل، وكذلك الفنادق، استعداداً لإنشاء مركز شيعي في مدينة داريا. وقام مسؤولون إيرانيون بارزون بزيارة الموقع للتعبير عن دعمهم لهذا المشروع.
أحدث وأبرز هؤلاء الزوار كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بنفسه، الذي وصل الموقع خلال زيارته الأخيرة إلى سوريا، في 20 يناير 2006.
كان سكان البلدة على بينة بالخطط الإيرانية لمدينتهم واحتجوا لدى رئيس البلدية، الذي كان يؤيدهم. ولكن النظام السوري، وبخاصة أجهزته الأمنية، اتخذوا موقفاً قاسياً من السكان، وطُرد رئيس البلدية المتعاطف معهم، وعُين آخر.
وأبلغ رئيس البلدية الجديد أهالي البلدة أنه لا يمكن أن يفعل شيئاً لأن الأمن هدد بعواقب وخيمة على المدينة بأكملها إذا استمر سكانها في الاحتجاج على المشروع الإيراني. اللوحات التي على الضريح والمحلات كلها باللغتين العربية والفارسية. ونتيجة لهذا التطور في المنطقة، ارتفعت أسعار أراضي وإيجارات المحلات التجارية بصورة فلكية.
* التاريخ السابق للتشيع في سوريا:
التشيع له تاريخ طويل في سوريا يرجع إلى القرن السابع الميلادي، على الرغم من أنه لم يصبح سائداً هناك إلا في القرن العاشر الميلادي. وواصلت العقيدة الشيعية الانتشار خلال فترة صعود الدولة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية (969-1172 م)، والتي حكمت مصر ثم بسطت سيطرتها على سوريا خلال القرن الحادي عشر الميلادي.
ولكن لاحقا، بدأ التشيع في سوريا يزول بسبب محاربة السلالة الأيوبية (1171-1250 م) له وفي ما بعد محاربة الدولة العثمانية (1517-1798 م) له. وبحلول أوائل العصر الحديث أصبح معتنقو المذهب الشيعي الإثني عشري في سوريا أقلية هامشية.
أول وأبرز عالم شيعي حديث عمل على نشر التشيع في سوريا كان العالِم عبد الرحمن خير (م. 1925)، ولكن لم تتحول إلى أعداد كبيرة إلا بسبب أنشطة جميل الأسد المكثفة، الشقيق المتدين للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وذلك خلال الثمانينيات.
ويمكن تتبع بدايات الاتجاه إلى التشيع في الماضي إلى زيارة موسى الصدر في عام 1974، إلى شيوخ الطائفة العلوية في جبال اللاذقية في المنطقة الساحلية من البلاد. وقد سبقه آية الله الشيرازي، الذي أصدر الفتوى الشهيرة والتي تفيد أن أهل تلك المنطقة ينتمون إلى الشيعة الإثني عشرية.
وبدأ جميل الأسد بتشجيع التحول إلى المذهب الشيعي في المنطقة نفسها، وبخاصة بين أعضاء الطائفة العلوية.
لقد بعث مجموعات من العلويين إلى إيران لدراسة المذهب الإثني عشري، وبعد عودتهم إلى سوريا نشروا العقيدة الشيعية بين زملائهم العلويين. وبنى جميل الأسد، حسينيات في الجبال، حيث لم يكن هناك من قبل سوى أضرحة علوية.
ومن أجل جعل التشيع أكثر قبولا لدى الناس هناك عين شيخا شيعيا كإمام لمسجد الزهراء العلوي في مدينة بانياس على الساحل السوري.
وبعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1970، أعرب بعض كبار رجال الدين السنة عن معارضتهم لرئاسته بسبب كونه علوياً. ولكنه تعامل معهم بدهاء حيث بدأ بحضور الصلوات في المساجد السنية، وأقام حفلات الإفطار خلال شهر رمضان لرجال الدين السنة.
وعمل حافظ على أن يقوم شقيقه جميل بتأسيس جمعية المرتضى العلوية وهي جمعية خيرية طائفية تصبو إلى تنصير أبناء السنة، أي دعوتـهم لاعتناق النصيرية وهو المسمى الأصلي للطائفة العلوية، مع فروع في جميع أنحاء سوريا.
وأنشأ حافظ الأسد جمعية المرتضى من أجل إظهار أن العلويين ينتمون إلى المجتمع الأكبر من الشيعة وليسوا أقلية.
وبعد بعض البحث العميق، طلب حافظ الأسد من آية الله محمد حسين فضل الله، أن يعمل في سوريا. افتتح فضل الله مكتباً في حي السيدة زينب في دمشق، وبدأ التلفزيون السوري لاحقاً ببث برامج للمبشر الشيعي العراقي عبد الحميد المهاجر.
ولكن بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة في عام 2000، تضاءل تأثير فضل الله إلى حد ما وحلّت مكانه السفارة الإيرانية من خلال الملحق الثقافي في حلب.
وعلى الرغم من أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حافظ، كان على تحالف استراتيجي مع إيران، إلا أنه لم يسمح لمبادئ الثورة الإيرانية بالتغلغل في سوريا.
وفي الواقع، لقد قام بمنهجية وحزم بتقييد الوجود الإيراني، وذهب في بعض الأحيان إلى حد إغلاق مؤسسات ممولة من قبل إيران، بما في ذلك العيادات.
وحاول الإيرانيون الدخول إلى المناطق التي يسكنها العلويون من خلال استغلال الانتماءات الدينية المشتركة معهم، ولكن الرئيس السوري الأب اتخذ عدداً من الخطوات داخل وخارج مجتمع الطائفة العلوية للتأكد من أن محاولة إيران لاختراق سوريا لن تنجح.
وأمر الرئيس أيضاً مفتي سوريا، أحمد كفتارو، بإنشاء مدارس للدراسات القرآنية في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك في المناطق ذات الأغلبية العلوية في البلاد. وسميت هذه المدارس بـ«معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم». كما منع أيضاً إرسال الطلاب لدراسة الدين في إيران...(يتبع)..