المجاهد الحزين
مترجم/ من الأدب التركي المعاصر:
قصة الكاتب: مصطفى قوتلو
ترجمة: صالح حسن
تركيا
من سنين لم تصل إلينا أخباره، كنا نظنه قد مات، وتهيأنا لإقامة مراسيم التعازي، ولكن إقامة التعازي ممنوعة.
مات: كلمة يأبى اللسان نطقها قبل أن يصدقها الفؤاد! ظناً منا أنه سيرجع يوماً ما، الأمل لم ينطفئ، وشعاعه مازال يثير أعماق قلوبنا.
في ذلك اليوم كنا أمام حديقة البيت واقفين، أمي كانت تغسل الثياب، وأنا أحمل الحطب للموقد.
أخي الصغير عبد الرحمن يركب حصانه الخشبي شاهراً سيفه كالمجاهد، يطارد الدجاجات! وجدي كعادته جالس على السرير في الإيوان صامتاً يرنو إلى الجبال أمامه.
يوم مشمس، وكل شيء هادئ حولنا، أزيز النحل يطن في الآذان، وفجأة هبت نفحة ريح عطرة، والتفتنا جميعاً نحو الشرق.
النار ترتجف في الموقد، والكلب الأسود يفتح أذنيه يلتقط الأصوات، والعصافير التي كانت تتراقص طارت بعيداً، ووقفت على أغصان أشجار الكرز، وانكشفت السحابة التي حجبت الشمس هنيهة. أما نحن فقد كتمنا أنفاسنا!!.
خطت أمي خطوة نحو الطريق.. طريق ترابي يمتد بين الحقول في انحناءات خفيفة يتجه نحو دارنا. وضعت الحطب الذي كنت أحمله إلى الأرض بهدوء، ونزل عبد الرحمن عن حصانه الخشبي، وقام جدي متكئاً على عصاه ينظر نحو الطريق حيث يطير سرب من الغربان السود فوق السنابل الصفراء يعلو ويهبط، وأخذ الكلب الأسود ينبح بنبرات متقطعة، وينظر إلينا واحداً واحداً ثم بدأ يجري نحو الطريق!!.
في هذه اللحظات ظهر شبح على المرتفع، والنفحات العطرة زادت، وظننت أن أمي ستصرخ قاطعة أنفاسنا المكتومة المترقبة.
بدأت تسوي شعرها من خلال خمارها وترده إلى خلف أذنها، وتجمع أناملها على شكل قبضة وتضعها على فمها، وجرى الكلب نحو الشخص القادم وهو ينبح ثم بدأ يطلق أنات الفرح.
فقدت أمي السيطرة على نفسها، وبدأت تسير نحو المنحدر، وعبد الرحمن الصغير يتبعها مسرعاً مثيراً الغبار، أما أنا فما زلت واقفاً حيث كنت والدموع تتقاطر من عيني، أتساءل لماذا أرى هذا الشبح – أعني أبي– يتعانق مع أمي وأخي في مدخل الحقل، وقد صاروا كومة متلاصقة!!.
الكلب يدور حولهم، يقفز يميناً وشمالاً، وكأن صوته صوت إنسان يريد أن يقول شيئاً!!
احتضن أبي عبد الرحمن الذي بدأ يداعب لحيته التي اشتعلت شيباً، يتخلله خيوط من السواد. يرتدي معطفاً وحذاء قديماً رمادياً مما يرتديه الجنود، وفجأة أحسست بيد جدي على كتفي فأخرجني من الذهول والدهشة!! متى نهض من سريره، ومتى جاءني؟!. وبدأنا – أنا وجدي – ننظر إلى أبي وهو مقبل إلينا.
ويهز مسعد ساعده الأيمن من معطفه أمام الريح !!.
فقلت بصوت خافت: أين ساعدك يا أبي؟! ماذا أصابك؟!.
* مصطفى قوتلو: كاتب تركي يكتب القصة القصيرة، ولد في آرزنجان عام 1947م. متخرج من كلية الآداب في جامعة أرضروم يصدر مجلة أدبية شهرية: DERGAH.