خيار المستقبل السوري بين الديمقراطية والاستبداد
خيار المستقبل السوري
بين الديمقراطية والاستبداد
علي صدر الدين البيانوني
الغارديان – ترجمة قسم الترجمة في مركز الشرق العربي
يتخوف كثيرون من نظام حكم ديمقراطي في المستقبل السوري. يعبّر هؤلاء المتخوفون عن
هواجس عديدة، منها ما يتعلق بالأقليات، ومنها ما يتعلق بالمرأة، ومنها ما يتساءل عن
الانتقام المستقبلي واحتمالات العدالة الانتقالية ، ومنها ما يتعلق بالقيم
الإنسانية العالمية، أو ما يسمونه منظومة حقوق الإنسان، ويبالغ بعض هؤلاء أكثر
فيعلنون تخوفهم من دولة دينية (ثيوقراطية)، ومن استبداد بركيزة دينية، كبديل
لاستبداد يدعي الحداثة والعلمانية..
وتصبّ كل هذه التخوفات عملياً لمصلحة قاتل أطفال ومغتصب نساء، مثل بشار الأسد،
وتنحاز إليه دون أن تتساءل عمليا عن موقفه من كل تلك القضايا، ولاسيما بعد أن صدر
عن الناطق باسم الخارجية السورية، تهديد رسمي باستعمال الأسلحة الكيمائية
والبيولوجية، عندما يقدر بشار الأسد أن ذلك ضروري .
نعتقد أن الموقف من بشار الأسد وزمرته، بعد آلاف الجرائم الموثقة أصبح أخلاقيا
محضا. ولم تعد موضوعا سياسيا قابلا للتقدير والنقاش. يطرح السوريون قضيتهم على
الرأي العام بالطريقة المباشرة التالية: هل أنت مستعد أن تتفهم جرائم تعذيب
الأطفال، وقتلهم تحت أي ظرف، ولأي سبب ؟!!!. هل أنت قابل للتعاطف مع مغتصب نساء عهد
إليه النظام العام أمر حمايتهن؟! كل هؤلاء يجدون في العادة في المحاكم ما يقولونه،
ويجدون المحامين الذين يدافعون عنهم ويبررون جرائمهم .
إن صورة سلبية نمطية، عن (حضارة الإسلام)، وعن أبنائها (المسلمين)، هي التي تستدعي
هذه التخوّفات والهواجس، التي تستدعيها أيضا معطيات خاطئة، تاريخية، وثقافية، تختلط
ببعض المصالح الفئوية، التي لا يغيب عنها الحرص على شراكة في الاستئثار بالسلطة
تارة، وبالثروة تارة أخرى .
هل يمكن لنصف قرن من حكم نظام شمولي مستبد، أن يحجب تاريخ مجتمع، يمتد وجوده إلى
نقطة اللابدء في الحضارة الإنسانية؟ (تصنف المدن السورية: دمشق وحلب وحمص، بأنها من
المدن التي لا أول لها) أي التي لا يعرف من بناها، ولا أول من سكنها. تاريخ طويل
كانت فيه (بلاد الشام) حسب التسمية العربية، أو الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط،
وعاء حيويا لحضارات وثقافات وأديان وأجناس، تعايشوا دائماً، وتفاعلوا دائما، وكانت
الصفحات الإيجابية في التاريخ هي الأصل.
إن الاعتقاد أن تاريخ سورية الحضاري، أو الاجتماعي، أو الثقافي، قد بدأ مع دولة حزب
البعث، أو مع أسرة آل الأسد، هو اعتقاد خاطئ وساذج. إن احتفاظ هذا الوعاء بكل
مكوناته البشرية والدينية والثقافية، لهو أمر يستحق أن يفخر به هذا الشعب السوري
العظيم، وأن تفخر به أيضا حضارة الإسلام ودولته التي ظلت حاكمة، بعيدا عن سياسات
الاستئصال التي كان السائدة حتى عهد قريب، في تاريخ كثير من الحضارات والشعوب.. في
سورية تجد اليوم سلالات أقوام وحضارات سابقة بقرون عديدة، لميلاد المسيح عليه
السلام. في سورية تجد الكلدان والآشوريين، وفي سورية على المستوى الديني، تجد إلى
جانب المسلمين والمسيحيين واليهود، الذين غادروا سورية لدواع سياسية، بقايا ديانات
ومذاهب يتمسك بها أصحابها، من غير تضييق عليهم في حق أو في معاش.
على المستوى الثقافي: تفخر سورية أنها ما تزال موئل اللغة السريانية التي كانت جسر
عبور الترجمات في العصر الإسلامي الأول، و ما تزال اللغة الدينية السائدة في العديد
من الكنائس السورية. في سورية وحدها تجد تجمعات بشرية حية، ما تزال تتكلم الآرامية
لغة السيد المسيح. هل هذا السياق هو هروب إلى الحديث عن التاريخ ؟!!
أبداً، إنه حديث عن المستقبل، هي محاولة لنؤكد بشهادة الواقع التاريخي الحيّ، أن
المجتمع السوري، والحضارة الإسلامية التي ظللته على مدى ألف وخمس مائة عام، كانت
الأوفى – وستبقى – من كل ما يحاول البعض زورا أن ينسبه إلى حكم أسرة الأسد تحت
عنوان (نظام الأقلية الذي يحمي الأقليات!!) .
إن تاريخ سورية الحديث منذ تشكلت، بعد الحرب العالمية الأولى بانفراط عقد الدولة
العثمانية، كان شاهدا آخر على قدرة هذا المجتمع على الحفاظ على تعدديته، وحماية
حقوقه، والانخراط في منظومة القيم الإنسانية العالمية الحضارية، على كل المستويات.
فمنذ المؤتمر السوري العام 1920 الذي أسس (بالتداعي) لدولة سورية الحديثة، وشاركت
فيه كل المكونات السورية، إلى آخر برلمان سوري حقيقي انقلب عليه العسكر في الثامن
من آذار سنة 1963، وصادروا بذلك الحياة العامة في سورية حتى اليوم، ظلت الشراكة
الوطنية على المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية، واقعا حيا وملموسا. يفخر
المواطنون السوريون واللبنانيون بمفكريهم وكتابهم وشعرائهم من المسيحيين والمسلمين.
بل لا يوجد دارس مؤرخ لما يعرف بعصر النهضة، إلا ويتوقف عند دور المفكرين المسيحيين
بإعجاب، في بعث حركة النهضة العربية المعاصرة، كما تحفظ قصائد الشعراء ويشهد إنتاج
الأدباء.
وعلى المستوى السياسي لا يوجد سوري لا يذكر باعتزاز فارس الخوري، السياسي المسيحي،
الذي تسلم رئاسة الوزراء في سورية أكثر من مرة، كما لا يوجد سوري لا يذكر أن قوائم
الانتخابات البرلمانية كانت ترصف أسماء المرشحين المسيحيين فيها على قوائم الإخوان
المسلمين بشكل خاص.
إن مستقبل سورية الذي يتطلع الشعب السوري إليه، هو سليل هذا التاريخ، سليل تاريخ
صنعه هاشم الأتاسي، وشكري القوتلي، وناظم القدسي، وفارس الخوري، وأكرم الحوراني،
ومصطفى السباعي.. كانت الجدلية السياسية والاجتماعية بكل تناقضاتها منتجة إيجابيا،
وكانت تضع سورية دائما على عتبة ما هو أجمل وأرقى..
بعد نصف قرن من حكم أحادي، كرسته المادة الثامنة من دستور حزب البعث، بإعلان
الوصاية على الدولة والمجتمع، نؤكد من موقعنا الوطني، ومن معطيات مشروعنا السياسي،
أن سورية المستقبلية لن تذهب في اتجاه أي أحادية: لا أحادية دينية، ولا مذهبية، ولا
سياسية، ولا اجتماعية. التعددية ليست سمة بشرية وثقافية، للمجتمع السوري فقط، بل هي
مقوم من مقومات الحداثة، ومعطى من معطيات التطور الإنساني العام. نؤكد في هذا
المقام أن موقف جماعة الإخوان المسلمين سيكون وفيا للدفع دائما في اتجاه التطور
الإنساني الإيجابي .
نؤكد أننا حريصون في سورية المستقبل أن تكون (المواطنة) أساساً للحقوق والواجبات،
وعلى أساس هذه القاعدة سيعيد السوريون بناء مجتمعهم المدنيّ الموحد، الذي نطمح
دائما إليه، وأنه في هذا المجتمع سيذوب تدريجيا مفهوم الأكثرية والأقلية.
إن الحملات الوطنية التي شاركت فيها جماعة الإخوان المسلمين بعمق، للدفع باتجاه
تعليم المرأة وتأهيلها، لا بد أن تفتح الأبواب بالتالي أمام أجيال النساء في مشروع
وطني، لتمكين المرأة من أداء دورها، وفتح الأبواب أمام شراكة مجتمعية على كافة
المستويات. إن الحرص على تطوير الموقف الاجتماعي إيجابيا، سيبقى دائما أكثر جدوى من
سياسات القسر والإكراه التي يتبعها أصحاب المشروعات المفروضة. لا بد أن تجد النساء
الفرصة المناسبة لإثبات أنفسهن وكسب ثقة مجتمعاتهن. إنها جدلية متبادلة تستحق
المعالجة برفق. وسيكون إطار التطور الكوني والمحلي صالحا للاعتبار .
بالنسبة لرؤيتنا لمستقبل العدالة الانتقالية نعتقد أنه كلما ازدادت معاناة الناس
ازدادت ردود الفعل السلبية غير المنضبطة . لقد تجاوز هذه الزمرة كل الحدود في
العدوان على أعراض الناس وذبح صغارهم وكبارهم . لقد تغاضى عنه المجتمع الدولي مع
2000 طفل يقتلون وبعضهم يذبحون بالسكاكين ، يذبح هؤلاء قطعان بشرية تتحرك بأمر
النظام . كل العقلاء يرفضون أي رد فعل غير منضبط . أساس موقفنا الشرعي والسياسي أنه
( لا تزر وازرة وزر أخرى ) وثقافتنا التي تعطي الإنسان الحق في القصاص تفتح في
الوقت نفسه الأفق للجميل للعفو والسماحة ، وتؤكد شريعتنا أن أي قصاص لا يمكن أن
يطبق إلا عن طريق قضاء عادل وسلطان نافذ . نأمل أن يتاح للعقلاء في سورية المستقبل
أن يصادروا كل عوامل النقمة موظفين طاقاتهم في ميدان الدعوة عن طريق التثقيف
وسلطانهم لاسترداد الحقوق عن طريق المحاكم والأخذ في كل حال على أيدي المسيئين .
نؤكد دائما على أبناء شعبنا أنه لا ثأر ولا انتقام . ونرفض توجيه مشاعر النقمة
باتجاه أي فئة مجتمعية لا على خلفية دينية ولا على خلفية مذهبية ولا على خلفية
سياسية . نخشى أن كثرة ترداد المجتمع الدولي التخوف على الأقليات كمبرر لذبح
الأكثرية سيكون له ردود فعل عكسية .
من المفيد أن نختصر المسافة في تأكيد رفضنا للدولة (الثيوقراطية). إن هذا الشكل من
أشكال الدولة ليس له وجود في الفكر الإسلامي، أو في الفقه الإسلامي، السني منه بشكل
خاص . الحاكم في الإسلام هو اختيار بشري مدنيّ، يبقى دائما تحت المساءلة والمتابعة،
كما أن الإسلام لم يعرف قط ما يسمى في المسيحية بالإكليروس أو رجال الدين.
تتركز رؤيتنا المستقبلية للدولة السورية، في شكل الدولة المدنية الحديثة، وهي
الدولة التي نحرص على أن نكون شركاء في بناء سورية الحديثة على أسسها .
قد يكون من الطبيعي في أي بلد استقرت فيه الديمقراطية، أن يكون هناك فريق حاكم وآخر
معارض. في مرحلة إعادة التأسيس للدولة السورية، لا نعتقد أن هذا التوزّع الديمقراطي
مقبولا. والذي نتمسك في سورية المستقبل هو التأسيس للشراكة الوطنية. وحين يعطي
صندوق الاقتراع الحق لأي فريق ليفعل ذلك، سنذكره أنّ في الشريعة الإسلامية نفسها،
قاعدة تمنع من التعسف في استعمال الحق، وأن هذه القاعدة ستغلق الباب أمام كل دعاة
الانفراد والإقصاء.
الشعب السوري صانع حضارة، يستحق من الكرامة كل ما تستحقه شعوب الأرض. والدولة
المدنية في إطارها الحديث، هي شكل من أشكال الإنجاز الإنساني، لن يقبل الشعب السوري
بديلا عنه. سورية المستقبل التي نتطلع إليها هي الدولة المدنية ذات السيادة التي
يتمتع فيها الفرد بجميع الحريات الأساسية التي تكفلها الشرائع والمنظومات الدولية
لحقوق الإنسان ، دون أي تمييز على أي خلفية دينية أو مذهبية أو عرقية أو اجتماعية .
دولة تستند على دستور مدني يكرس الفصل بين السلطات كحقيقة واقعة ، ويشترك في حكمها
جميع مواطنيها من الرجال والنساء من خلال صندوق اقتراع حر ونزيه يسمح باختيار
الألكف لكل موقع .
أكتب هذا المقال ومدينتي حلب المحاصرة التي تضم ثلث سكان سورية تعيش تحت قصف
المدفعية والطيران بلا ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا دواء ولا صليب أحمر . حتى الصليب
الأحمر قرر أن يسحب بعثته من سورية ، ويدير ظهره ليترك الشعب السوري الأعزل يواجه
الجزار منفردا. الفيتو الروسي الصيني جدار صالح ليختبئ وراءه الضمير العالمي .
وضمير العالم الحر بشكل خاص . قبل أن أختم المقال أتابع خبر المجزرة الجديدة في (
جديدة عرطوز ) تدخل قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد البلدة وتنفذ
عمليات قتل وإعدام وذبح وقريبا من ستين شهيد ومائة وسبعين معتقل هم برسم القتل هل
بقي للشعب السوري من أمل في عالم تصحرت فيه العقول والقلوب ؟! .. ..