الانتفاضة المعادية للاستعمار في السودان

ترجمة: د. ضرغام الدباغ

[email protected]

د. أرمين برنر

Dr. Armin Börner

قدمنا هذا البحث للنشر، وهو عبارة عن الفصل الثالث من الجزء الثالث من موسوعة تاريخ العرب، وهو عمل كبير من سبعة أجزاء، أشترك في العمل ما يزيد على العشرين مؤرخ وباحث ومستشرق، وهو يمثل فصل مبكر من تاريخ السودان الحديث، ودور الحركات الوطنية والقومية السودانية، ودوائر الاستعمار البريطاني.

هذا البحث هو فصل من الجزء الثالث من موسوعة تاريخ العرب الذي كان من إنتاج فريق من المؤلفين بإدارة بروفسور دكتور لوثر راتمان

حرر هذا الفصل: الدكتور أرمين برنر

Geschichte der Araber von den Anfängen bis zur Gegenwart

Autorenkollektiv Unter Leitung: Prof. Dr. Luther Rathmann

Kap.3, Teil 3: Geschrieben von: Dr. Armin Börner

ترجمة: د. ضرغام الدباغ

المحتويات

الانتفاضة المعادية للاستعمار في السودان

1.         الحكومة الاستعمارية البريطانية ونظام السيادة الغير مباشرة.

2.         تكون الحركة الوطنية السودانية.

3.         السياسة الاستعمارية البريطانية وانتعاش جديد للمقاومة ضد الاستعمار.

أولاً : النظام الاستعماري البريطاني ونظام " السيادة غير المباشرة "

وجدت أزمة النظام الاستعماري الإمبريالي، كتعبير عن التبدل في ميزان القوى الدولي بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، والتأثيرات الاجتماعية / الاقتصادية / السياسية للحرب العالمية الأولى، وجدت انعكاساتها في السودان أيضاً في انتعاش سريع قادته قوى اجتماعية جديدة في النضال المعادي للاستعمار. ومنذ أن كان الحكم الثنائي Kondominium الأنكلو/ مصري قد تأسس في السودان عام 1899، كانت هناك الانتفاضات المحلية التي كانت تندلع دائماً بصورة عفوية من القبائل السودانية ضد الاستعباد الاستعماري، مثلت العلامة المميزة للمرحلة الماضية. والآن، فإن راية النضال ضد الاستعباد الأجنبي قد رفعت في وادي النيل من القوى البورجوازية الناشئة والمثقفين، والتي وإن كانت تأثيراتها وفاعليتها الجماهيرية ما تزال في حدود معينة، بيد أن الأهداف التي أعلنت عنها والمطالب التي طرحتها ينبغي أن ينظر إليها وفق الأساليب العملية للاستعمار البريطاني، بأنها كانت مقدمة في نضالها من أجل تحقيق الاستقلال الوطني لعموم الشعب السوداني.

وبعد حلول القرن الجديد(القرن العشرين)، بدأت الإمبريالية البريطانية ببناء نظام استعماري مباشر في السودان، وفي ذلك حملت كافة نفقات نظام الإدارة الاستعمارية للمنطقة الواقعة على النيل الأبيض والأزرق على الخزانة المصرية، وكانت السلطتان: التنفيذية والتشريعية بيد الحاكم البريطاني العام في السودان، وهو في نفس الوقت القائد العام للقوات البريطانية والمصرية، وكذلك الوحدات القليلة السودانية التي كانت قيادتها من الضباط المصريين. وكنظام أعلى، كان هناك ما يسمى في ذلك الوقت "حكومة السودان" التي كانت هي الأخرى بإمرة موظفين إنكليز، وكان الموظفون الإنكليز يحتلون مراتب الوظائف العليا والوسطي في جهاز الإدارة المركزية في الخرطوم، مع وجود بعض الموظفين المصريين في الوظائف الصغرى. أما المواطنون السودانيون، فكانوا بعيدون عن العمل في وظائف الإدارة، وكذلك ضباط القوات المسلحة حتى الحرب العالمية الأولى.

ولم يبدأ الإنكليز بتدريب وتكوين موظفين من المواطنين السودانيين إلا عندما أرغموا على توسيع جهاز القمع الحكومي حيال تصاعد نضال الشعب السوداني ضد الاستعمار، ولا سيما بسبب أن سلطات الاستعمار البريطاني لم تكن تثق بتكوين فئة من الموظفين والضباط في القوات المسلحة، وكان أبناء شيوخ القبائل وأفراد القبائل الزنجية ينالون الموافقة على الإنظمام إلى كلية غوردون Gordon College التي تأسست عام 1905 في الخرطوم، وكذلك إلى المدرسة العسكرية التي تأسست عام 1905 أيضا، أو الدراسة في جامعة الأزهر، أو الجامعة الأمريكية في بيروت وفي المعاهد الدراسية الأوربية.

وبدأت الإمبريالية البريطانية في مطلع القرن الجديد، بإخضاع السودان إلى النهب في مجال الثروات الطبيعية والمنتجات الزراعية. وفي السنوات الأولى للقرن العشرين كان النهب الاستعماري يتركز بصورة جوهرية على المنتجات التقليدية مثل الصمغ العربي والماشية والجلود، عاج الفيل والسمسم. وبعد المحاولات التي بدأتها الشركة البريطانية Sudan Plantations Syndicate التي تأسست عام 1905، بدأت تجارب في زراعة قطن طويل التيلة مصري وأمريكي في مناطق زيداب، تعطي نتائج جيدة. كما وافق البرلمان البريطاني عام 1913 بمنح قرض قيمته 3مليون باون لاستخدامها في استزراع القطن بكثافة في السودان. ومنحت الحكومة البريطانية الشركة الإنكليزية سنديكات Syndicate حق الاستثمار في منطقة الجزيرة بين النيلين الأبيض والأزرق في اتفاقية للاستغلال والنهب المشترك.

وكان عام 1921 قد شهد بدء العمل في سد سينار الذي أنتهي العمل فيه بعد أربعة سنوات. وجعل نظام الري بالسقي والرش، الاقتصاد السوداني اقتصادا زراعياً متعلقاً بزراعة القطن بصفة نهائية. وتوسعت بذلك المساحات المزروعة بالذهب الأبيض من 13 ألف هكتار 1907 إلى 176 ألف هكتار عام 1930، وكانت الاحتكارات البريطانية قد أمنت الأراضي اللازمة لذلك قبل ذلك بوقت طويل من خلال المرسوم الصادر عام 1905 الذي تنظم به حق الأرض، وفي ذلك فإن كل قطعة أرض لا يمكن أثبات ملكيتها من خلال وثيقة تملك، كانت تخضع للمصادرة وتوضع تحت تصرف"حكومة السودان"، وعدا ذلك فإن الكثير من مالكي الأراضي السودانيين فقدوا أفضل أراضيهم من خلال إرغامهم على توقيع عقود إيجار لأراضيهم لمدة تزيد على 40 عاماً وفق سعر سنوي لا يتجاوز 10 قروش لكل فدان، كما استولت الاحتكارات البريطانية على مصادر المياه الثمينة(الآبار والقنوات) ومحطات ضخ المياه.

وأدخل تعبيد (تبليط) العديد من الشوارع والمدقات في الصحراء ومد السكك الحديدية، وبناء ميناء بور سودان(منذ عام 1908)، ومن خلال ربطها بالطرق المعبدة والسكك الحديدية مع الخرطوم(1909) وكذلك مع مناطق زرع القطن في الجزيرة، أدخل السودان إلى السوق الرأسمالية العالمية. وظل التطور الصناعي ضمن الدور الذي أرادته له بريطانيا العظمى كقاعدة للمواد الخام وسوقاً للسلع البريطانية. وفي تأسيس معامل استخلاص القطن(محالج)وتحضيره والأعمال المكملة في الإنتاج الزراعي.

وتضاعفت تجارة التصدير والاستيراد في غضون السنوات القليلة اللاحقة، وكان للشركات البريطانية الدور والموقع الأهم والرئيسي. وتحت ضغط ونفوذ الإنتاج الصناعي الأوربي الزهيد، بدأت بالمقابل مراكز مثل الخرطوم وأم درمان وبربر ودنكلا وسواكن التي كانت بؤر للإنتاج الحرفي اليدوي، بالضمور والانحلال.

وبموجب التجارب الاستعمارية للإمبريالية البريطانية، فإنها سعت في السودان أيضاً من أجل كسب القوى التقليدية لمرحلة ما قبل الرأسمالية السائدة في تلك المرحلة، ليس فقط من أجل قمع الجماهير واستغلالها وصد وإيقاف فعاليات الانتفاضات التي كانت غالباً ذات صبغة دينية ومرتبطة بفكرة ظهور المهدي، والتي كانت تقوم بها القبائل السودانية، بل وأيضاً من أجل تكوين عناصر معادية للنفوذ المصري بالدرجة الأولى. وقد أحتاج الأمر إلى عقدين من السنوات قبل أن تصل الإمبريالية البريطانية إلى هذا الهدف. وقد جعلت الأوضاع الاقتصادية التي قفزت خلال الحرب في المحافظات السودانية الشمالية، والعروض البريطانية المغرية، الكثيرين يساهمون في زراعة القطن مثل أرستقراطية الإقطاع وشيوخ القبائل والشخصيات الدينية، بل وكل من له صلات قوية مع موظفي الإدارة الاستعمارية. كانت هذه العناصر، بالإضافة إلى قادة الطوائف الإسلامية في السودان(عبد الرحمن المهدي، وهو نجل للمهدي في مقدمة الأنصار، والميرغني هو كبير الختمية) كانوا قد تركوا التنافس ووقفوا إلى جانب الاستعمار البريطاني.

وقد توصلت الجهود البريطانية إلى ذروة نجاحاتها في مد وشمول الفئات الاستغلالية التقليدية في النظام الاستعماري البريطاني والذي كان فيما يسمى السيطرة غير المباشرة عام 1922 حيث أقام قرابة 300 من قادة القبائل بتلك الوسيلة وظائف ومهام إدارية محدودة، ومن خلال هذه السياسة عملت السلطة الاستعمارية على إيقاف تدهور وانهيار نظام القبائل منذ انتفاضة المهدي وإعادته والحفاظ عليه.

وكان استهدافاً كهذا(أحياء وإنهاض نظام القبائل) يدعم أيضاً سياسة التقسيم التي كانت تعمل لها الإمبريالية البريطانية في السودان: الانقسامات العرقية(الأثنية) بين المواطنين العرب في الشمال والزنوج في المحافظات الجنوبية، وكذلك بين المواطنين المسيحيين الذين كانوا يقفون دائماً إلى جانب المسئولين الإنكليز، وكانت هناك بعثات تبشيرية: كاثوليكية على الأغلب في جنوب السودان، كانت تعمق من التفرقة الدينية، وأتخذ الإجراءات التي من شأنها تعمق الهوة بين الشمال والجنوب، ولم يكن هذا آخر ما أتبعه الاستعمار البريطاني، فقد كان القصد من إعطاء أهمية للقبائل، هو خلق قوة مواجهة لتلك القوى التي كانت تحل تدريجياً من خلال علاقات الإنتاج الرأسمالية في السودان والذي بدأ بعد الحرب العالمية الأولى يخوض نضالاً تحررياً معادياً للاستعمار ومتأثراً بالنضال التحرري للشعب المصري وبدأ بالنهوض ضد السيادة الاستعمارية.

ثانياً : تأسيس الحركة الوطنية السودانية

كانت القوى الوطنية السودانية التي تكن الكراهية العميقة ضد السيادة الاستعمارية ونفوراً من التحالف مع العناصر الرأسمالية الفتية. تلك القوى الوطنية التي تتألف على الأغلب من فئات المثقفين السودانيين التي لم تزل بعد ضعيفة، قد بدأت بتكوين مطالبها ودعاياتها، ثم بدأت تتجمع عام 1918 في نادي الخرجين بأم درمان بقيادة حسين شريف أحمد عثمان القاضي، سيد أحمد الفيل، الدردري أحمد إسماعيل.(1)

ولتوسيع فرص لبناء والتكوين، فقد دخلوا ميدان الثقافة الذي كان عناصره وممثلوه متأثرين بالنضال المعادي للاستعمار في مصر والذي كان قد أظهر فاعلية سياسية كبيرة. ثم سرعان ما قاد راديكالية الحركة تعمقها إلى انشقاقها. وقد أصطف جزء من أعضائها مع حسين شريف الناطق الرسمي، والذي كانت أهدافه تتلخص بشمول السودانيين في نظام الإدارة وحصولهم على الوظائف المهمة. وقد أدت مناداته تلك إلى انتهاج سياسة مؤيدة للإنكليز، وليجد نفسه في تحالف مع قوى الإقطاع والأرستقراطية. وهكذا فقد شن حسين شريف الهجوم الحاد كرئيس لتحرير صحيفة "حضارة السودان" التي سمح الإنكليز بصدورها كأول صحيفة ضد أعضاء نادي الخريجين الذين كانوا قد تصدوا للنضال ضد الاستعمار، ودعوا إلى العمل والنضال المشترك للشعب السوداني والمصري.

وفي سبيل تحقيق الأهداف، أسس عام 1919الأعضاء الراديكاليون في النادي: عبيد الحاج الأمين، توفيق صالح جبرائيل، محي الدين جمال أبو سيف، إبراهيم بدري، سليمان كيشا. وفي أم درمان تأسست أيضاً جمعية الاتحاد السوداني. وبسبب المنع البريطاني لكل فعالية سياسية منظمة تزيد عن خمسة أعضاء(2)، أصبحت المنظمة السياسية السودانية الأولى. وكانت سياستها تعبر عن مصالح الشعب السوداني، وجدت صداها بالدرجة الأساسية بين طلبة المؤسستين التعليميتين في البلاد "كلية غوردون" و " المدرسة العسكرية" في الخرطوم، وبين الخريجين وصغار الموظفين والتلاميذ الذين شكلوا أعضاء الاتحاد والذين في اجتماعاتهم السرية يمثلون رفض السيادة الاستعمارية والتضامن مع مصر كوسيلة دعائية لنيل الاستقلال لكلا القطرين. وأصدرت الجمعية أدبيات عن التطور الثقافي في مصر، وأدانت في نشرات عام 1920 منظمة (حضارة السودان)وتعاونها مع السلطات البريطانية.(3) وشددت من فعالياتها مطلع عام 1921 عندما أرسلت بعثة ميلنر Milner Kommission اثنان من أعضاءها إلى الخرطوم.

وقد اكتسبت الحركة الوطنية السودانية نوعية جديدة بأنظمام علي عبد اللطيف(وهو ضابط ينحدر من اصل عبيد) لأحدى القبائل السودانية الجنوبية وتدعى دينكا. وكان عبد اللطيف قد نادى بخطبه علنية عام 1919 جميع السودانيين إلى النضال المشترك مع الشعب المصري ضد السيادة الأجنبية البريطانية(4) ولكن ذلك صدر بوضوح أكثر(مكتوب خطياً)عام 1921 بأسم مطالب الأمة السودانية التي أنتقد فيها الأساليب الاستعمارية في منطقة الجزيرة وطالب الحكومة بزيادة عدد المدارس وإنهاء احتكار السكر.(5) وقد غدا اعتقاله باعثاً على توسع الحركة وسيما من خلال صلاته بضباط الجيش والشرطة السودانيين، وكذلك بين عناصر القبائل. وقد وجدت القوى الوطنية السودانية بعلي عبد اللطيف القائد المعترف به باعتباره أحد أبناء القبائل السودانية، فقد جسد في شخصه بنفس الوقت وحدة البلاد، وأصبح رمزاً للنضال ضد المساعي الانفصالية البريطانية في جنوب السودان.

والتصديق على الدستور الاستعماري للسودان الذي أعلن في 28/شباط ـ فبراير/1922، والذي أمن الاستقلال الشكلي لمصر، كان سبباً كافياً لجمعية الإتحاد السوداني وللمواطنين المنظمين في صفوفها لأن يكثفوا من نشاطهم داخل وخارج هذه المنظمة. ومن خلال المطالب الراديكالية للحركة المعادية للاستعمار، وجعلها قائمة على قاعدة عريضة والعمل على مواجهة مفتوحة مع الإمبريالية البريطانية، التي على الرغم من منبتها الاجتماعي، وبسبب مفاهيمها السياسية الأساسية، فقد بحثوا عن الدعم ووجدوه لدى الكثير من الضباط المصريين وكذلك لدى الموظفين المدنيين في الخرطوم والمحافظات الأخرى.

وقد حيا الوطنيون السودانيون بحماسة انتصار الوفد في الانتخابات لعام 1924، حيث كانوا يعلقون الآمال الكبيرة على انتصار حركة التحرر المصرية، وعلى تأثيراتها الممتدة إلى السودان.

وكانت جماعة الممثلين التقدميين لمثقفي البورجوازية السودانية بقيادة على عبد اللطيف والذي بعد إطلاق سراحه في نيسان ـ أبريل/1923 وطرده من القوات المسلحة، كانت تدين بشكل حازم السيادة الاستعمارية البريطانية. بل أنها بدأت وبعد الانشقاق الذي حصل في جمعية الاتحاد السوداني، بتأسيس منظمة سرية تدعى "اللواء الأبيض" في الخرطوم وأم درمان. ثم تمكنت اللجنة المركزية التنفيذية للمنظمة وبعد أسابيع قليلة من تأسيسها في شهر أيارـ مايو/1924، تمكنت من مد فروعها إلى بور سودان، ووادي مدني، العبيد، فاشير شندي ، وكذلك إلى جبال النوبة، وكانت بقيادة اللجنة المركزية: علي عبد اللطيف، صالح عبد القادر، عبيد الحاج الأمين، حسان صالح، غسان شريف، وكانوا جميعاً يعملون كموظفين في دوائر البريد.(6)

وهدفت منظمة اللواء الأبيض في عملها السياسي، إلى التوسع في توجهاتهم الاجتماعية صوب فئات جديدة من السكان كالمعلمين، الحرفيين، التجار، العاملين في الاقتصاد الزراعي والعمال. وبدؤا في عطبرة بتكوين حركة نقابية، وفي ذلك حصلوا على مساعدة من الحزب الشيوعي المصري الفتي، وكذلك من عمال أوربيون كانوا قد استوطنوا السودان، وحاولت المنظمة أن تنال الدعم والنفوذ من القبائل، وكانوا قد كرسوا تأييدهم لنضال الشعب المصري قد تكرس بإرسالهم وفداً يمثلهم إلى افتتاح البرلمان المصري صيف عام 1924، وكان كلا المندوبين الموفدين: محمد المهدي الخليفة، وزين العابدين عبد التام، قد أوقفا بتاريخ 14/حزيران ـ يونيو في منطقة وادي حلفا من قبل موظفي الإدارة البريطانية، ومنعا من مواصلة سفرتهما إلى القاهرة.

 وعندما شاع نبأ هذا الفعل الطغياني، سارت بعدها بأيام قليلة في الخرطوم للمرة الأولى، بمناسبة عودة المندوبين الخليفة وعبد التام، ثم في وادي حلفا، ومظاهرات أخرى في أم درمان. وقد أدى عدم الارتياح العميق الذي ساد صفوف سكان المدن وحقدهم على السيادة الأجنبية البريطانية، إلى تصاعد الاحتجاج بسرعة إلى درجة الاشتعال. وفي الأسابيع التي تلت 24 /حزيران ـ يونيه، أتسع الفعل الجماهيري إلى موجة من العداء للاستعمار، سرعان ما شملت المحافظات تحت شعار(وحدة وادي النيل)، وكان شعار اللواء الأبيض: النيل باللون الأحمر ومصغر للعلم المصري، وبحروف عربية كتبت على الأرضية البيضاء " إلى الأمام ". وكان المتظاهرون يحتجون ضد الأساليب الاستعمارية البريطانية، ويدعون إلى الوحدة مع مصر.

وبإرهاب وحشي، أمر الحاكم البريطاني بقمع التظاهرات التي ساهم بها حوالي 20 ألف شخص، واعتقال قادتهم، وكذلك الحال مع الانتفاضة البطولية لطلبة المدرسة العسكرية(مدرسة تخريج الضباط) ذات الواحد والخمسين طالباً في الخرطوم بتاريخ 9/ آب ـ أغسطس/1924 التي جرت بعد اعتقال علي عبد اللطيف الذي جرى في الرابع من آب/ أغسطس، وأدى إلى اشتعال نيران النضال مجدداً، لتقابلها نيران القوات البريطانية المتفوقة. واستخدمت الوحدات البريطانية المتمركزة في المحافظات الأسلحة النارية يوم 9/ آب ـ أغسطس، ففي عطبره حيث قامت التظاهرات الشعبية(على أثر عصيان أحدى الكتائب المصرية) والتي ساهم فيها للمرة الأولى عمال سودانيون، وفتحت النار على التظاهرة، وكذلك كان الأمر في بورسودان وشندي وملكا في النصف الثاني من آب ـ أغسطس وأيلول ـ سبتمبر/1924.

ثم شهدت حركة النضال المعادية للإنكليز ذروتها مرة أخرى عام 1924، بعد اغتيال الحاكم البريطاني العام للسودان لي ستاك Lee Stack (مر ذكر ذلك في الفصل السابق ـ المترجم) في 19/ تشرين الثاني ـ نوفمبر في القاهرة، وصدور الإنذار البريطاني النهائي إلى حكومة الوفد من أجل الهدف الاستعماري في إزاحة الحكم المشترك الأنكلو / مصري، وفصل السودان عن مصر وتأسيس الحكم البريطاني في البلاد. وبهذه المناسبة طلبت بريطانيا معونة القوات المصرية في الخرطوم والمحافظات، بسبب التضامن الذي أبدته الوحدات السودانية للفعاليات الشعبية المطالبة بالاستقلال.

وكان تأثير الثورة التي حدثت في السجن المركزي للخرطوم / الشمالي، ضعيفاً على قرارات السلطة الاستعمارية البريطانية، التي قام بها الطلبة الستون في مدرسة الضباط العسكرية، والسجناء السياسيين الذين استخدموا الأوضاع المتوترة في الخرطوم حيث احتلوا بناء السجن لعدة أيام. وعندما أخمدت الانتفاضة بسبب قلة العتاد، كانت الحركة التي قادها اللواء الأبيض قد أخمدت تماماً.

وكانت الفعاليات الثورية لعام 1924 التي تكونت من خلالها للمرة الأولى الحركة العمالية السودانية من خلال إضراب عمال السكك الحديدية في كانون الثاني/ يناير، والمساهمة في التظاهرات المعادية للاستعمار البريطاني الذي قادوا حملة إرهاب ضدها. ويذكر المؤرخون البريطانيون والبورجوازيون بصفة عامة أن الحركة الثورية قد نشأت نتيجة لمحاولة علي عبد اللطيف مع رؤسائه الإنكليز.(7) أو باعتبارها من نتائج الشأن المصري ومتعلقاته.(8) من أجل إلغاء صفة الحركة الذاتية عنها، ولكنها في الواقع كانت تعبيراً لما كان لينين قد تنبأ به " نضج شعوب الشرق " التي بشجاعتها واستعدادها للتضحية، أوقعت النظام الاستعماري والإمبريالي في أزمة في السودان أيضاً.

ثالثاً : السياسة الاستعمارية البريطانية وانتعاش جديد للمقاومة ضد الاستعمار

كانت سياسة الإمبريالية البريطانية في السودان بعد أحداث 1924 قد أتسمت بهذه الملاحظات: بعد انسحاب القوات المصرية من السودان، قامت السلطات الاستعمارية البريطانية باتخاذ كافة الإجراءات والوسائل لأجتثاث نفوذ المصريين في أعالي مجرى النيل بصفة عامة. فقد سرحوا الموظفين المصريين، وفي ذلك كانوا يميزون بين شمال السودان وجنوبه، ثم أبعدت كافة العناصر في أجهزة الإدارة التي اشتركت أو تعاطفت في الأحداث الثورية، كما أوقفت العمل بتدريب الموظفين السودانيين، وأغلقت المدرسة العسكرية أبوابها في الخرطوم، وقطع العمل بإرسال السودانيين إلى الخارج للتعليم.

وفي إجراءات أخرى عمدت السلطات البريطانية إلى تشكيل وحدات أطلقت عليها قوة دفاع السودان Sudan Defence Fotces من بين تلك الوحدات التي لم تساهم في نضالات عام 1924 وكانت قياداتها تتألف من الضباط الإنكليز.

وكانت عملية إصلاح وتجديد لنظام القبائل قد جرى تعزيزه بواسطة إجراءات جديدة للنظام الذي جرى العمل به عام 1922(السيادة غير المباشرة) الذي واصلوا العمل بموجبه. ومن خلال تنظيم سلطة الشيوخ الصادرة عام 1927 و1928، استلم عمد القرى(جمع عمدة) التأكيدات من الإدارة البريطانية، بأنهم مسئولين أمام حكام المحافظات الإنكليز، ومنحت صلاحيات جديدة ووظائف شرطة جديدة، وذلك من أجل خلق فئات تابعة لها مؤلفة من العاملين في الإدارة، كما عمدت "حكومة السودان" إلى تحسين ظروف التعليم لأبناء قادة القبائل، وسهلت انضمامهم إلى الأعمال الإدارية، وأن تتقاسم البلاد الأرستقراطية الإقطاعية وقادة الطوائف الدينية بأشراف الاستعمار البريطاني ضمن عملية الاستغلال الرأسمالية، وكذلك من خلال تخصيص الأرض من صندوق حكومة السودان وتحول العديد منها إلى زراعة القطن في مزارع كبيرة.

وفي عام 1929 أستطاع عبد الرحمن المهدي من توسيع ملكيته وإيصالها إلى 15 ألاف فدان، وأن يضيف إليها 7ألاف فدان أخرى عام 1939، وبفضل الأموال التي يمتلكها بمشاركته للعديد من الشركات الأجنبية وأصبح مالكاً للاستثمار التجاري" السيد عبد المهدي " ومالكاً لمعمل سمنت بورتلاند ومعمل اللحوم.(9)

وكانت الإمبريالية البريطانية ومنذ بدء سيادتها في السودان قد أتبعت سياسة مميزة حيال المحافظات السودانية الجنوبية والتي اتخذت أبعاداً جديدة. ووجدت هذه السياسة نقطة تبلورها في أتباع ما يسمى(بالمناطق المغلقة) والتي بموجبها شملت محافظات أعالي النيل الاستوائية وكذلك المناطق الغربية والجنوبية، دارفور كردفان.

وكانت الإجراءات المبنية على أساس هذه المبادئ العنصرية تشير بوضوح إلى تعمق الاختلافات العرقية والدينية واللغوية بين الجنوب والشمال في السودان وإلى الإبقاء على الاختلافات العلاقات القبلية(الجنتيلية) في جنوب السودان عن فعاليات المواطنين العرب في الشمال المعادية للاستعمار البريطاني. إن الأمر البريطاني الصادر عام 1928 حول التجارة ومنع نشاط الجلابة gallaba، وهم التجار العرب العاملين في التجارة بجنوب السودان. كما كان الموظفون البريطانيون يعمدون وبشكل منظم إلى إلغاء كل ما له علاقة وصلة باللغة العربية والأسماء العربية والإشارات(الإعلانات ـ التاشير)في مناطق جنوب السودان.

ومن أجل تقوية زراعة القطن، يسرت الحكومة البريطانية عام 1924 القروض بحجم 13 مليون جنيه مصري، وكانت الشركتان البريطانيتان" شركة مزارع السودان "Sudan Plantations Syndicat وشركتها الشقيقة " شركة قطن كسلا " Cassala Cotton Company، تستثمران الأرض بزراعة القطن في مناطق دلتا الجاش ودلتا خور براك، وكذلك مناطق منجلا وفي جبال النوبة. وفي عام 1924 تم مد السكك الحديدية حتى كسلا/ وإيصالها حتى مناطق العبيد عام 1929.

ولقد كان في الإنذار الذي وجهته بريطانيا في تشرين الثاني ـ نوفمبر/ 1929 منسجماً مع مصالح الصناعات البريطانية، في أرغام الحكومة المصرية الموافقة على أرواء مساحات غير محدودة، بعد أن كانت تلك محددة بنظام ري 300 ألاف فدان، وكان ذلك لا يعني للحكومة البريطانية تضحية كبيرة، للإعلان عن تقسيم مياه نهر النيل الذي كانت ترغب فيه الحكومة المصرية، ومن خلال الاستمرار برفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة إلى أكثر من الضعف في الأعوام 1923 حتى عام 1945، ونتيجة لذلك، أنصبت كميات هائلة من المداخيل إلى السلطات المحلية الاستعمارية البريطانية أو للرجعية المحلية من جيوب الشعب. وإلى جانب ذلك كانت هناك أرباح للسلطات البريطانية من الضرائب غير المباشرة بما يقارب 20 مليون جنيه مصري.

وشمل النهب الاقتصادي المتزايد مصحوباً بانخفاض شديد أيضاً الاقتصاد السوداني في سنوات الأزمة الاقتصادية العالمية، وأدى إلى تجديد الصعوبات في الوضع الاقتصادي للجماهير الشعبية التي كانت تحت سلطة نظام استعماري لا يرحم، فيما كان لهيب نيران الحركة الوطنية يتسع. و قد أحتاج الأمر إلى سنوات عديدة من أجل أن تعيد الحركة الوطنية تنظيم صفوفها. بعد الهزيمة الدموية لمظاهرات عام 1924، التي حكم فيها على الكثيرين من المشاركين بالسجن سنوات طويلة وأبعادهم إلى جنوب السودان.

وتمثل أول إعادة اشتعال وهبوب لتيار النضال المعادي للاستعمار، كان في إضراب طلبة كلية غوردون بتاريخ 24/تشرين الثاني ـ نوفمبر/1931، ورفع المضربون احتجاجهم ضد تخفيض رواتب خريجي المدرسة من 8 جنيه مصري إلى خمسة ونصف شهرياً، بينما بقيت رواتب الموظفين البريطانيين ومنتسبي الأرستقراطية القبلية كما هي بدون تغير.

وكان لمثقفوا البورجوازية الفتية مشاعرهم وانطباعاتهم الوطنية في صحف: النهضة التي تأسست عام 1930، وصحيفة الفجر 1935، وصحيفة النيل 1935، في إدانة مواقف بريطانيا بطرد 70 ألاف سوداني من مناطق الجبل الأخضر إلى الحدود السودانية ـ الليبية من قبل الفاشية الإيطالية (كما فعل رئيس تحرير صحيفة الفجر، عرفات محمد عبد الله العضو السابق في اللواء الأبيض وممثلهم في القاهرة) والذي أصيب بخيبة أمل من موقف حزب الوفد المصري حيث بدأ بالدعاية لشعار السودان للسودانيين بدلاً من: وحدة وادي النيل.

وتحت سيطرة قاسية للإدارة البريطانية وموظفيها، ظلت تعبيراتهم السياسية وجلة، ومتفاوتين في أحاديثهم، ولكن ذلك تغير مع عقد الاتفاقيات الأنكلو ـ مصرية في 26/آب ـ أغسطس/ 1936 الذي أعاد في الواقع الحكم الثنائي البريطاني ـ المصري، وأعاد تجديد الدستور الاستعماري للسودان، وإن خيبة الأمل حول هذه الاتفاقية ونتائجها، وحدت الآراء ورفعت من أعداد المنظمين إلى العمل الوطني لا سيما في صفوف المثقفين الذين كانوا يطالبون لأنفسهم وللسودان بتوسيع فرص التطور وتحسين شروط الحياة بحقوق أكثر.

وفي فعالياتهم لتحقيق هذا الهدف، كانوا يجدون في الوضع الدولي تشجيعاَ لهم، وكانت الإمبريالية البريطانية، تسعى من أجل تأمين مواقع استراتيجيتها الاستعمارية في الشرق الأوسط وأفريقيا حيال الخطر الفاشستي الذي كان يهددها، قادتها إلى سياسة توفيقية مع الحركة الوطنية. وكانوا يجدون الدعم في المطالبة بالمزيد من الحقوق والامتيازات من الأرستقراطية الإقطاعية والقيادات الدينية الذين لم يستشاروا في عقد الاتفاقية المصرية ـ البريطانية، كما كان لرفض مصر تخصيص وظائف للسودانيين، المشجع للجناح المعادي لمصر في السودان.   

وكانت الطلبات الوطنية تتلخص بتشكيل منظمة استشارية من حكومة السودان، والتي بموجب مواصفات شريف يوسف الهندي، ينبغي أن تتألف من قادة جميع الطوائف(الأنصار) و (الختمية) وشيخ العلماء، وكذلك من 7 من ممثلي الخريجين.(10) ولصيانة حقوق السودانيين في إطار الحكم الثنائي Kondominium البريطاني ـ المصري، واقترحت قيام تعاون مع مصر في تكتل ألفه أحمد خير وتأسيس برلمان سوداني.

ومع موافقة السلطات البريطانية الاستعمارية، دخلت في شباط ـ فبراير/1938 كتلة من ممثلي الشبان المثقفين مؤلفة من إسماعيل الأزهري ومكي شيبايكة من خلال تأسيس المؤتمر العام للخرجين الذي أصبح بمرور الوقت الوعاء الذي يجمع القوى الوطنية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية.

وقد أتخذ المؤتمر في أولى جلساته منهاجاً، دستوراً أعلن فيه: " إن المنظمة تخدم مصالح واهتمامات كافة الخريجين".(11)، رأت أن الواجب الرئيسي في المطالبة هو تعليم الشعب وبناء المدارس ورفع المستوى ألمعاشي للسكان على الرغم من أن المؤتمر كان مؤلفاً من الخريجين فقط، وبدأـ بقبول كافة الأشخاص الذين يتبعون مرحلة دراسية.

ومع إحداث التغير في أهدافه الاجتماعية، صار يقبل في صفوفه الطلبة والتجار والحرفيين والعمال والأعمال الحرة، وموظفين كبار ومتوسطين.(12) وبدأت شخصية وطبيعة مطالبه تتغير هي الأخرى، وكذلك أهدافه. وفي نظامه المؤلف من 12 نقطة، أعلن المؤتمر المنعقد في 2/ نيسان ـ أبريل /1942 لفت نظر الحاكم البريطاني العام في الدفاع وصيانة حق تقرير المصير الذاتي للشعب السوداني، وفعاليات مؤتمر الخريجين وطلباتهم كانت تلاقي الدعم من القوى الوطنية للشعب السوداني، شكلت المقدمة لما سيحدث بعد الحر العالمية الثانية من انهيار للسلطات وسيادة الاستعمار البريطاني في السودان.

               

هوامش الفصل الثالث

    Dardiri, M. u. al: Mudakkirat, Khartum, 1961, S.11   (1) مذكراتي

(2)  Publik Record of Office, London : folgenden: PRO London, F.o. 371, No, 10905 of Political Agitation in the Sudan, S.6

(3) Muddathir, A. R., Imperialism and Nationalism in the Sudan, Oxford 1969, S.103

(4) PRO, London, a.a.o., S.3

(5) Dirar, S. D. : Tarih as Sudan al hadith, Khartum 1964, S. 246

(6) PRO London, a.a.o., Appendix 7, S.27

(7) Holt, P. M. : Modern History of the Sudan, London 1961, S. 130

(8) PRO, London, a.a.o., S.21

(9) Neues Deutschland vom 3.5.1956

(10) Muddathir, A. R.: a.a.o., S. 21

(11) Henderson, K. D.D. : The Making of the Modern Sudan. , London 1952, S. 541

(12)  Novjsaja istorij arabskich Stran , (1977 -1966) Moskau 1968, S.443