أليف شافاق – حليب أسود: الحلقة الثالثة
أليف شافاق – حليب أسود:
الحلقة الثالثة
أحمد العلي
(مانيفيستو الفتاة العزباء)
لو أنّ المرأة التي بجانبي كانت قِطّة، لكانت تستلقي في سلّة وثيرة بالقرب من مدخنة، بالكاد ترفع جفنيها من التّرَف، أو أنها ستكون متكوّمة في حُضن صاحبتها، تموء مُستأنسة، و تلوحُ بذيلها كيفما يحلو لها. لو أنني كنت قطة، لكنت أجلس متلهفة عند إفريز النافذة طوال اليوم، أرقُبُ السيارات العابرة و المُشاة المهرولين، و لكنتُ هربتُ من المنزل نحو العالم الواسع في الخارج عند أوّل فرصة سانحة.
يجلسُ إلى جانب المرأة صبيٌّ في الثامنة من عمره تقريبًا و آخَرٌ، أخوه، أصغر منه و يستعير ملامحه بشكلٍ مُبهر. يرتديان نفس الجينز و نفس القمصان الكحليّة المخططة بالأبيض، و يحملان نفس الألعاب بين أيديهما؛ رجالٌ عسكريّون من البلاستيك، يرتدون الأخضرَ الدّاكن، بعضلاتٍ مفتولةٍ و عُدّةٍ كاملة، في اليد الأولى قُنبلةٌ بمسمارٍ مُعَدٍّ للسحب و التفجير، و في الأخرى كلاشينكوف. كِلاهما يمضغان علكةً كبيرةً بحجم حبّات البندق، ينفخونها فقاعاتٍ تلوَ أخرى. و كُلّما تفرقعت إحداها، أجفلُ، كأنهم أطلقوا النار على أحدٍ ما بتلك الأسلحة البلاستيكية؛ عَدوٌّ آخر تمّت تصفيته على الباخرة!.
قَد تقومُ تلك الألعابُ بتوجيه الإهانات بشكلٍ ما، لكن الصّبْيَةَ أنفسهم لن يقومو بذلك، أبدًا. إنهما لا يجرُءان حتى على رفع رأسيهما و النظر لوالدتهما. أعتقد بأنه ليس من السهل على طفلين بعمرهما أن يحظيا بأُمٍّ جذّابةٍ كهذه!
مقتعنة بأنه ليس بوسع الصّبيين ولا أمهما مساعدتي في مهمّة البحث عن ورقة، إلتفتُّ نحو الرجل الجالس إلى شمالي؛ إنه يرتدي نظّارةً ذات إطارٍ معدنيٍّ، و ملامحه صارمة بعضَ الشّيء، و أفترض أنه قد بلغ الأربعين توًّا، إذ بدأت قمّة رأسه بالتخفّف من الشعر.
أمّا لغة جسده فتصرخ: (أنا تاجر). إنه يقبض على حقيبة جلديّة، و هناك، في مكان ما بداخلها، ورقة! أنا متأكدة من ذلك. عندما سألته ورقةً، أعطاني بلطفٍ أكثر من واحدة، و قد كانت أوراقاً يُزيّنها هذا الشعار: (شركة النيزك للتسويق المحدودة).
شاكرةً الرّجُل، بدأتُ الكتابةَ ناظرةً للحبر يجفُّ و أنا أمضي. تنسكبُ الحروفُ منّي كأنّها تكتبُ نفسها بنفسها و تقودُ السطور: (مانيفيستو الفتاة العزباء).
بحَيرةٍ أنظُرُ للورقة: أهذا إذن ما كانَ يدورُ في رأسي؟
اقتربت مني المرأة التي بجانبي، التصقت بي، و مدّت رأسها نحو الورقة التي في حُضني. ستعتادُ، في بواخر اسطنبول، على الناس يقرأون معك جريدتك من فوق كتفك، إلّا أنّ هذه السيّدة تقرأ ورقتي بوقاحةٍ و صراحة. لذا، أَمْلَت عليّ غريزتي أن أقوم بتغطية ما كتبته، إلّا أنني بعد بُرهةٍ استسلمتُ لعدم جدوى البحث عن أيّ نوعٍ من الخصوصية في هذا المساحة الضيقة و المحدودة، و سمحتُ لها بالقراءة.
التسليمُ بأنّ الله سبحانه قد تفرّدَ بالوحدة في أعاليه، و أنّ ليس للبشر، بالتالي، أن يخوضوا الحياة وحيدين، بل عليهم أن يتزاوجوا، هو أكبرُ وهمٍ ابتكره الإنسان على مرّ التاريخ. فقط لأننا صعدنا مركب نوحٍ اثنين اثنين، لا يعني أبداً أنّ علينا إكمال الرّحلة على نفس الحال.
أنا أكتب، و المرأة على حالها تقرأ. في إحدى اللحظات مالَت كثيراً على كتفي الأيمن حتى لامَسَ شعرها وجهي. استنشقتُ شذى غَسول شعرها. فواكهٌ لاذعة. و يبدو أنها تواجه صعوبةً في قراءة ما أكتب، لكنني، بوضع خَطّ يدي الرديء في الحسبان، لا ألومها. اجتهدتُ أكثر في توضيح خطّي.
كيفَ حَدَثَ، في المجتمعات التقليدية، أنّ مَن تَنذُر حياتها لإيمانها و تُقسمُ ألّا تتزوّج، تكونُ مَحَطّ تبجيلٍ من قِبَل الجميع. لكنها، في ثقافة اليوم، تُعتَبَرُ “عانسة”، و هو وضعٌ مذمومٌ و مُخزٍ و مُثيرٌ للشفقة؟.
و كيف أيضاً، بالرغم من أنّ الزواج يحتاج إلى رجُلٍ و امرأة، و بالرغم من أنّ وضعَ العنوسة ينطبق على الجنسين بالتساوي، أقول: كيف يكونُ لصفة العنوسة وقعٌ أشدُّ و دلالاتٌ أكثر سلبيّةً على المرأة من الرّجل؟
أخرَجَت جارتي من أكياس تسوّقها عُلبةمُكسرات، تَنَاصَفَتها مع أبنائها، ثم عادَت بانتباهها لورقتي مرّةً أخرى، تمضغُ و هي تقرأ؛ فول سوداني مملّح، و حبّات حمّص صفراء مُحمّصة، و حُبيبات اللّب. أَكتُبُ و هي تنظُرُ، سعيدة و مُستمتعة.
تجبُ إعادة الكرامة لكُلّ النساء اللواتي تُرِكنَ “على الرّف”، و أن نُصَفّقَ لهُنّ لشجاعتهنّ في العيش بلا رَجُلٍ يعتني بهن.
أولئك الذين يُحبّون القولَ بأن (أنثى الطّير هي من تنسُجُ العُش)، لا يفهمون الطيور. صحيحٌ أنّ الطيور تبني أعشاشها، إلّا أنها تهجر منازلها تلك كُلّ فصلٍ لتبني غيرها في أماكن أخرى. لا يوجد طيرٌ يبقى في نفس العش إلى الأبد.
شعرتُ بالارتجافة السريعة التي انتابت المرأة بجانبي. شعرُ ذراعيها انتصب، كأنّ هذا النهار لا ينبضُ بالحرارة.
التغيُّر و التغيير أبجديّة الحياة. ليسَ القَسَمُ بالبقاء معاً (حتى يُفرّقنا الموت) سوى فنتازيا ضدّ جوهر الحياة. و علاوةً على ذلك، نحنُ لا نموتُ مرّةً واحدة. يَجمُلُ بنا أن نتذكّر دوماً أنّ الإنسان يموتُ مرّاتٍ كثيرةٍ قبل موت جسده.
هكذا، لا يستطيع أحدٌ أن يعقد عهداً بالحُبّ إلّا لتلك اللحظة التي يحياهاـ دونَ تجاوزها.
لو أنني أُجبرتُ على تخيُّل أنني سأتزوج، فسأدّعي أنّ الأَدَبَ زَوجي و الكُتُبَ أطفالي. إن الطريقة الوحيدة التي يُمكنني الزواج بها هي ان أُطَلِّقَ الأدب، أو أن أقترن بزوجٍ ثانٍ في نفس الوقت.
و لأنّ الطلاق من الأدب أمرٌ مفروغٌ من استحالته، و لأنّ لا وجودَ لرجُلٍ في العالم يقبلُ بأن يكون (الزوج رقم اثنان)، فالاحتمالاتُ كُلّها تقولُ بأنني سأعيشُ عزباء مدى العُمر.
هنا، على هذه الورقة، بَيَاني، مانيفيستو الفتاة العزباء.
أسندتُ ظهري للخلف و انتظرتُ المرأة لتُنهي قراءة الورقة. إنها تتأخّر، تتلكّأُ و تتهجّى الكلمات صوتًا صوتًا كفتاة مَدرَسَةٍ تعلَّمَت للتو الأبجدية. النّسيمُ الرّقيقُ الذي يلثُمُ مَتنَ الباخرة يحملُ شذى البحر نحونا، فأتذوّقُ مُلوحته بلساني. و بعدَ لحظات، ترتمي المرأة إلى الخلف، و تُطلقُ تنهيدةً عاليةً، عاليةً حقاً.
لم أملك سوى أن أشعر بالفضول. مالذي كانت تقصده بذلك؟ هل توافقني الرأي؟ هل كانت تنهيدةً بمعنى: (أنتِ مُحِقّةٌ يا أُخيّتي، و لكن هكذا سارَ و يسيرُ العالم). أم أنها، على العكس، أرادت القولَ: (تكتبين هذا الهُراء كُلّه يا عزيزتي، بينما العالمُ يمضي في طريقٍ أُخرى تماماً). لديّ شعورٌ بأنها قالت في سِرّها تنبّؤي الأخير.
بغتةً، عَصَرَتني رغبةٌ في وَكزها. هذه المرأةُ هي “آخَري”. إنها من ذاك النوع من النساء اللواتي نذرنَ حياتهن لمنازلهن، لأزواجهن و أبنائهن. لقد ركَّزَت، منذ شبابها، في الحصول على زوجٍ مثاليٍّ، و البدء بتأسيس أُسرتها الخاصّة، أَن تكونَ أُمّاً قبل أن تعطي فترةَ شبابها حقّها من الطّيش، و قد زادَ وزنها في سبيل ذاك، و بَدَت أكبر من عمرهاا، و سَمَحَت لرغباتها بأن تجري داخلها حَسَراتٍ و نَدَم. هذه المرأة، بأحلامها المُعلّبة، و وضعها الاجتماعي المريح و أمانيها المهجورة، هي نقيضي. أو هكذا أحبَبتُ أن أُصَدّق.
كَتَبَ مرّةً بيامي صَفَا، أَحَدُ أشهر الروائيين في بلادي: (الطريقة الصحيحة للخلق بالنسبة للمرأة، أيّة امرأة، هي رَحمها، لا عقلها). هكذا إذن يظنّون! إنهم يدّعون أن تأليف الروايات مُلكيّةٌ تخصّهم وحدهم، مُهمّةٌ يرثُها الذّكور و حسب. الروايةُ بناءٌ منطقيٌّ في أغلبها، عَمَلٌ دماغيٌّ يتطلّبُ مهاراتٍ هندسيّةٍ و تخطيطية. و لأن النساء كُنّ، حسب العُرف، كائناتٍ عاطفيّةٍ، فإنّهن لن يصرنَ روائيّاتٍ جيّدات. أولئك الروائيون المُحتفى بهم، رأوا أنفسهم “آباءً روائيين”، و أنّ أبناءهم القُرّاء بحاجةٍ لتوجيهاتهم. إنّ إرثهم يجعلني أقول بأنّي إن أردتُ تحقيق وجودي و تفوّقي في عالم الأدب، فإنّ عليّ أن اختار بين العقل و الرّحم. لو وصلَت الأمور إلى هذا الحَد، فلن أتردّد إطلاقاً أيّهما سأختار.
الباخرة على وشك الوصول. و بلا دراية عن ما يدور في ذهني، تنحني المرأة نحو قدميها. إجمعي الأكياس، أغلقي علبة المكسرات، جهّزي الأطفال، إحزمي ألعاب الكلاشينكوف، دُسّي أقدامك في أحذيتها مُجدّداً. و خلال أقلّ من ثلاثين ثانية، قامت بتهيئة كل شيء. تتحرّك، و إلى جانبها ولداها، نحو المخرج؛ تدفعُ و تُزاحمُ الرُكّاب مُبتعدةً عني.
حينها فقط، عندما نهضَت المرأة، عرفتُ ما كان عليّ أن أشعر به من قبل. لم تكُن بدينةً أبداً، أو منتفخة، إنها و حسب حامل! هذا كل ما في الأمر. بطنها منتفخٌ و ثقيلٌ جداً، و أعتقدُ أنها ستُنجبُ توأمًا أو ثلاثة.
و لسببٍ أجهله، هذا التّفصيلُ الذي خَفِيَ عليّ قد قَلَبَ كياني. لكن لم يكن هناك من وقتٍ لأتأمّل حالي، فقد وقفت الباخرة عند رصيف الميناء، و فَزّ الجميعُ على أقدامهم و راحوا في عُجالةٍ و فوضى بالتزاحم نحو البوابات. في ذاك الهَيَاج، التقَت عَينا الرّجل الذي كان يجلسُ بقربي، بعينيّ.
قلت له: شكراً على الورق. فأجاب: على الرّحب و السعة، كم أنا سعيدٌ لأنني كنتُ عَوناً لك. قلتُ: أوه، لقد كُنتَ كذلك بالفعل، لكنني أتساءل، ماهي شركة النيزك للتسويق المحدودة؟.
فأجاب: نحن شركة متخصصة في تسويق المنتجات الخاصّة بالأمّهات و الأطفال حديثي الولادة. مثلاً، مضخّات الحليب الآليّة، و مدافئ الرّضّاعات، و أشياء أخرى شَبيهة.
افترّ ثغرُ الرّجُل عن ابتسامةٍ تتفتّح كبذار القمح، أو أنها بَدَت لي وحدي كذلك. أشعُرُ فجأةً أنّ في مكانٍ ما هناك، في هذه السّماء الزّرقاء الرّائقة، حيث بدأت الشمس بالغروب الآن، تُشيرُ إليّ ملائكةٌ بأصابعَ بَضّةٍ كاللبن و تتندّرُ عليّ. إنني أجدُ مُفارقة حين أُفكّرُ بما حدث؛ لقد كتبتُ مانيفيستو الفتاة العزباء على ورقةٍ تخُصُّ شركةً لتسويق مُنتجاتٍ خاصّةٍ بحديثات الولادة. هكذا وقفتُ مذهولةً لهذه المفارقة و حِرتُ كيف أتصرّفُ حيالها. إلّا أنّ صَوتا داخليا راح يُحدّثني: ليس في الكون صُدَف، بل علامات، هل تستطيعين فهمَ العلامات؟.
طَرَدتُ الصّوتَ بعيدًا و دَسَسْتُ المانيفيستو في جيبي، و شعرتُ أنني لم أعُد واثقةً من إيماني بما كتبته فيها مثلما كنتُ لحظةَ كتابتها. و على هذه الحال، ترجّلتُ من الباخرة الغجريّة. هل هي حقًّا علامةٌ لم أُعِرها اهتمامًا؟ كتبتُ مانيفيستو الفتاة العزباء دونَ واعزٍ أو سببٍ أبدًا، و في نفس اللحظة، نفس النَّفَس، رأيتُ بجانبي امرأة تقفُ الضِّدّ منّي، إنها “آخَري”؛ ربّةُ المنزل و الأم و الزّوجة التي لم أسمح لنفسي أن أصيرها. و ظنّاً منّي بأنني لستُ مختلفةً عنها و حسب، بل أفضل منها بمراحل، أقسمتُ أن أبقى على حالي، الآنسة العزباء الكاتبة. و في تلك الأثناء، لم أكن أرى أنّ ما يلمعُ أعلى صفحة المانيفيستو كان اسم شركةٍ متخصّصةٍ في خدمة الأمهات. هكذا راح الكونُ يسخرُ من عنجهيّتي. لابُدّ و أن كانت هناك علاماتٌ أُخرى، لا واحدة و حسب، بل الكثير منها، لأنني بعد كتابتي المانيفيستو ببضعة أشهر، سقطتُ رأسًا على عَقِبٍ في الحُب، و حتى أنني تزوّجت. خلافًا لما ظننته طوال الوقت بأنني سأنزلُ من مركب نوحٍ وحيدةً، أَفَقتُ على جمال أن تكونَ شريكاً و زَوجاً. و بعد ذلك بعامين، أنجبتُ طفلتي الأولى. و لطالما تذكّرتُ، أثناء حملي، كيف استصغرتُ المرأة في الباخرة، فأندمُ على ذلك، أندمُ بحدّة. لابُدّ و أن كانت هناك علاماتٌ أُخرى، لا واحدة و حسب، بل الكثير منها، لأنني بعد ولادتي بأسابيع قليلة، وقتَ أن باتَ واضحاً بأنّ حليب صدري لن يكون كافياً لإرضاع طفلي، و أنّ عليّ زيادته، اتصلتُ برقمٍ حصلنا عليه من بعض أصحابنا، و استأجرنا آلةً لضخّ الحليب، و بعد أن تمّ شحنُ الآلة و وَصَلَت إلى البيت، لاحظتُ شعار شركةٍ مألوفٍ لي على صندوق الشّحن: شركة النيزك للتسويق المحدودة!. مَن يدري، لعلّ الرجل نفسه الذي قابلته في الباخرة هو من أَوصَلَ الشُّحنةَ إلى البيت. مَن يدري، لعلّ المرأة التي اتّضحَ أنّها ليست ببدينةٍ، بفستانها الأزرق و أولادها و ألعابهم البلاستيكية و حبّات الحمّص و التوأم أو الثلاثة توائم، هي أيضاً، تختبئ خلف شجرةٍ ما، و تضحك عليّ ناظرةً إلى حياتي كيف تغيّرَت، إلى الانعطاف المباغت للقَدَر.