قطرة من محبرة الشعر
قراءة في قصيدة "أفول أوثان الجهل"
للشاعر العربي منير مزيد
منير مزيد
نجاة الزباير
وحيدا أصارع الظلام
والعدم
وهذا الفراغِ اللانهائيِ الباردِ
الممتد من حبل رؤوسهم
إلى السماء .....
في مُدنِ الصحراء
الملوثة بالفسادِ
والاستبداد
بالملح والدخان والدموع
أُراقبُ هذا البؤسِ
أتجرع عرقِ الموتِ
فأسمع صيحا ت المُضطهدينِ
في قيثارات الريح
في أوراق الشجر
في بكاء العصافير
في دوامات الماء
في الصحون والأواني
تشنق أنفاسي
وتغتال أحلامي....
في مُدنِنا
الخبز كافيارُ الفقراء
معجون بالدمِّ والعرقِ
الحب خطيئة
الحلم جريمة
خيانة
والشعر كفر....
أنا لست ابناً لأحد منكم
أنا إبنُ السماءِ والأرضِ
الحب ديني
والشعر لغتي
وما بيني وبين الله
يخصني
فإلهي يتفهم عذاباتي....
فبئس ما تدعونني إليه....!
العصافير التي تستحم بالغناء
والزنابق التي تنمو على وجنات الإله
الجداول الحالمة التي تراقص أوجاعي
والليالي الثملة بالحب
أصدقائي
أفيقي يا ربة الشعر
من سهاد دمي
وانثريني
انثريني حبات ضوء
في غياهب رؤوسهم
فعفن الظلمة
قد غلفت عقولهم
مهوسون بالجهل
بالحقد والغضب
ودعيني
دعيني أحطم أصنامهم
صنما
صنما....
وأحرق صوامع شرورهم
صومعا
صومعا....
وأزرع في مدن الصحراء
رياحين الشعر
وأزهار السماء
وأغني ...!
ذكرني الشاعر في قصيدته بالفرسان الذين ينازلون الظلام بكل أشكاله الإيحائية، حيث تتساقط أعضاؤه بالنجوى والشكوى، فلم يكن دونكيخوت سرفنتس، بل أشهر سلاح الشعر ليقول ذاته المتشظية في كهف الحرف المُحْرِقِ.
إن الشاعر الحقيقي هو الذي لا يجلس بعيدا منعزلا عن الأحداث التي تحيط به، فهو يكرع من كأس التماهي مع الآخر، قطرات تواجده فوق محفة التواصل الرؤيوي مع الأشياء. والشاعر منير مزيد في هذا النص الغني بالعتبات، يسمعنا تأوهاته ودمعه الخفي/الظاهر الذي يسري في أوصال لغة شفافة صنع منها صيحة اهتزت لها جنبات النص.
فحين تُلْغَى الإشارات ويصمت الكون في جوف الشاعر، نراه لا يسمع غير إيقاعات ذابحة تحت قدمي ريح عاتية، يعلو صفيرها الروحَ النحيلةَ من كثرة الصراخ الذي ينشر قصاصاته في هذا المدى.
لقد تنقل الشاعر في تفاصيل جد دقيقة لرصد ذبذبات الراهن المعجون بالمآسي ، هكذا نجد مفردات لا تحتاج للتأويلات ولا لقراءات مختلفة عن ما أوردها الشاعر
ـ الخبز : مملح بدم الفقراء.
الحب : خطيئة
ـ الحلم : جريمة..خيانة
ـ الشعر : كفر
إن هذه تيمات تنزف جراحاتها في زمن يراه الشاعر بعيدا عن قبضة الحلم، الذي يراود كل نفس عطشى لتجاوز المسخ الذي أضحى لبوسا للكثير من الأماني، ولكن لم الشعر في عرف الشاعر أضحى كفرا؟
أية ديانة هذه التي أسقطت حكمها الجائر عليه؟
وأية أعراف هاته التي نصبته في ساحة العار تمثالا؟
وأي قلم هذا الذي رسمه ريحا هوجاء تقتلع السلام الروحي من بين جوانب الكلم؟.
كل هذا ما هو إلا تعبير مجازي عن ثورة الشاعر التي تنتعل حذاء المساءات المكسورة نورها، فهو يرفع شعار نبذ كل شيء لا تستوطنه قناعاته التي يصنع منها خمرته الأزلية، في مساحات تطوف بها أَنَاهُ التي لا تعترف بغير إيقاعاته الروحية؛ المنثورة مسكا في علاقاته بالدين والشعر والحب، كأسمى معان للوجود.
لهذه القصيدة إذن، وقع خاص في المسار الشعري الذي دأب عليه الشاعر، حيث تحبل الحروف بالموت والحياة، وتصنع من البياض كفنا وضوءا،فالشاعر المتميز منير مزيد يتجاوز المعنى الاستعاري الإيحائي الذي اختزل في صور شفافة؛ أوضاع الإنسان المنكسرة بالخيبة والظلم والانكماش المعتم المظلم.
فهل يسمح الشاعر أن أقول: بأن ما قرأته هذيان للحكمة التي أينعت سنابلها في هذا النص الجميل، الذي مزج فيه بين كيمياء إحساسه المرهق بالواقع الهمجي الذي عبر عنه بكلمات تغوص في أحداق الليل، وبين ربة الشعر التي استنجد بها لتخلصه بِشَعْرِهَا الغجري الذي يقطر نبوة وخلاصا من احتراقات الأسئلة فوق شفتي التصورات ، التي حلقت خارج الأسوار، حيث أُخْضِعَتِ الذات الشاعرة لوعي ذكي بالأشياء المحيطة بها.كي يبقى صوته صادحا بالغناء السرمدي محلقا في سماء الحرية
...
إنه وعي بالكتابة ومساءلة لزحزحة الكثير من الأوتاد، لأن الشعر سؤال كوني بوجود الإنسان، وبحث عن المغامرة في متاهات اللغة، لتفجير المسكوت عنه، مخترقا الحدود لصنع اللامحدود، حيث تنشر أنفاس الشاعر دلالاتها في تدفقات تردم المنفى الداخلي وتفككه لتصنع من البياض سريرا للانعتاق، محطما كل المرايا من أجل ولادة جديدة بعيدة عن التزييف.
و يبقى الشاعر منير مزيد اسما شعريا عربيا لامعا ، حيث يغني الساحة الشعرية بتجربته الغنية بأقانيم عدة.جاثما فوق جسد الحاضر لاستشراف الآتي الذي نتمناه نخلا كونيا يتساقط علينا بثمار السلام الروحي.