جان جاك روسو والتنوير الأخلاقي
جان جاك روسو والتنوير الأخلاقي
بقلم: صبحي درويش
لايمكن الحديث عن التنوير دون الوقوف طويلا عند الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسوالذي عاش في الفترة(1712 - 1778). لانه اسس لتنوير متوازن يراعي العقل والروح، لقد أثر هذا الفيلسوف على شعب بأسره وطبعه بطابعه وكانت افكاره المتوازنة اكبر دليل على ان التنويرالأوربي في بداياته لم يكن ملحداً على عكس ما نتوهم، أو قل كان فيه تيار متطرف ومادي بشكل محض ولكنه صغير. أما التيار الأساسي فكان مؤمناً وأخلاقياً ، وقد تجسّد هذا التيار بشخصيات كبرى ليس أقلها جان جاك روسو أو ايمانويل كانط الذي أكمل روسو ومشى على نهجه في العقلانية والتنوير.وكان روسو يمتعض جداً من غرور الملاحدة وعنجهيتهم ،وفي إحدى المرات كان فلاسفة التنوير مجتمعين في صالون «البارون دولباك» فراح بعضهم يستهزئ بالمعتقدات العليا، وعندئذ هددهم روسو بالخروج من الجلسة إذا ما قالوا كلمة إضافية واحدة ضد الذات الإلهية! ومعلوم عن روسو انه نهض في عزّ عصر التنوير لكي يطلق صرخته المدوية: لا لعلم بدون أخلاق، لا لحضارة بدون ضمير! والتنوير إذا لم يكن مبنياً على قيم العدالة والمساواة واحترام الحقيقة فإنه بلا اسس حقيقية .
ولكن الشيء المؤسف، والذي حصل تاريخياً، هو أن التيار الإلحادي المتطرف في التنوير الأوروبي انتصر بعدئذ في القرن التاسع عشر وهو المسؤول بشكل ما عن ظهور الحركات الوثنية كالنازية والفاشية في القرن العشرين. هكذا انفصل مشروع الحداثة عن مبادئه الأولية التحريرية لكي يصبح مجرد مشروع انتهازي بارد هدفه التوسع والاستغلال دون أن يشبع أبداً، ولو لم ينحرف التنوير عن القيم الأخلاقية والروحية العليا لما حصلت المغامرات الاستعمارية، والحروب العالمية، وانقسام العالم إلى قسمين: قسم شبعان إلى حد البطر، وقسم فقير إلى حد الجوع. فبما أن المادة هي كل شيء في الوجود، بحسب المنظور الإلحادي الصرف، فإنه لم يعد هناك أي معنى للقيم الروحية والأخلاقية. وأزمة الحضارة الغربية تعود في أحد جوانبها الأساسية إلى هذه النقطة بالذات.
فلو أن التنوير الإيماني أو الأخلاقي على طريقة روسو وكانط هو الذي انتصر لما وصلت هذه الحضارة إلى ما وصلت إليه الآن من أنانية، وتفسّخ، وانحلال، بل وإذا كان فيها شيء إيجابي حالياً فإن الفضل فيه يعود إلى مفكرين من هذا النوع وبالتالي فنحن لا نعيب على الغرب تنويره ولا عقلانيته، وإنما خيانته للتنوير والعقلانية والنزعة الإنسانية التي تجلَّت لدى مفكريه الكبار. بهذا المعنى، فإن الغرب خان مبادئ جان جاك روسو وايمانويل كانط وانحرف عنها بدون أدنى شك. وقد شغل روسو الجمهور المثقف في عصره منذ أن أصدر كتابه الأول: خطاب عن العلوم والفنون عام 1751م، مهاجماً التنوير المزيف أو المصطنع. وهوفي العمق كان خطابا سياسياً من الدرجة الأولى، ولكن دون أن يقول كلمة واحدة عن السياسة!انما اشار الى أن الحكومات في عصره تستخدم العلوم والآداب والفنون والصناعات وكل بهرجات التنوير والتقدم لكي تحجب عن الشعب حقيقة واحدة: وهي أنه مستعبد ويرسف في الأغلال.
وقال بأسلوبه المشهور: "إنها تغطّي بأكاليل الزهور سلاسل الحديد التي تثقله وتكبّله.." هذا التنوير المزيف لا يريده روسو.. ثم جاء خطابه الثاني عن أصل اللامساواة بين البشر لكي يثير زوبعة جديدة في أوساط المفكرين والمثقفين وبالأخص رجال الدين المسيحيين، واصطدم بالكهنة لسبب آخر أيضاً، هو أنه ضرب عرض الحائط بفكرة الخطيئة الأصلية التي تشكل إحدى العقائد الأساسية للمسيحية.ومنذ ذلك الوقت، احمرَّت عليه الأعين وابتدأوا بملاحقته أو الاهتمام به جدياً. ثم تكرّ السبحة بعدئذ وتجيء الكتب الأخرى، وبخاصة «اميل» و«العقد الاجتماعي»، لكي تقدم فهماً عقلانياً عن الدين والسياسة. بالطبع فهؤلاء، أو معظمهم، كانوا يزورون فولتير أيضا ويتمنون رؤيته بصفته نجماً ثقافياً كبيراً. لكنهم على الرغم من إعجابهم به ما كانوا يخشعون أمامه أو يشعرون بنفس القشعريرة التي يحسون بها أمام روسو. والسبب هو أن روسو كان فقيراً ومخلصاً لحقيقته ولم يستخدم شهرته لنيل المال ولم يقبل عطاءات الملوك كما فعل فولتير وديدرو وآخرون عديدون.
كلهم كانوا يتقاضون رواتب سرية أو علنية من هذا الملك أو ذاك،ماعدا روسو. في الواقع أن روسو كان يمثل ظاهرة جديدة انبثقت لأول مرة في عصر التنوير، أي في القرن الثامن عشر. والمقصود بها حلول المثقف العلماني في محل المثقف التقليدي. لا ريب في أن فولتير كان يتمتع بنفس الامتياز وينافس روسو على الزعامة الفكرية والنجومية الشعبية إذا جاز التعبير، من هنا سر كرهه روسو وملاحقته له. لكن روسو كان يتفوق عليه من حيث النزاهة الشخصية والأخلاقية العالية التي لا تشوبها شائبة. ولهذا السبب تحول إلى نوع من القديس العلماني الذي حل محل القديس المسيحي القديم.لكن السؤال الذي يطرحه نفسه هو التالي: لماذا توصل روسو وحده إلى مرتبة القديس العلماني في ذلك العصر والعصور التي تلته ؟ لماذا لم يحظَ بهذه المرتبة شخص كفولتير على الرغم من أن شهرته كانت تعادل شهرة روسو وتنتشر في كل أنحاء أوروبا ؟ ثم لماذا لم يصبح قبر فولتير محجَّة للزائرين الكبار والصغار كما حصل بالنسبة لضريح روسو والأماكن التي عاش فيها؟ على هذه الأسئلة لا يوجد إلا جواب واحد: هو أن روسو جسد الفضيلة والحقيقة في شخصه إلى درجة أن الكثيرين من معاصريه راحوا يشبهونه بسقراط، فمثلا قال لأحد أصدقائه الخلّص ممن يريدون أن يقدموا له شاباً متحمساً لأفكاره ويريد التعرف عليه: «أرجوك لا تأت به معك.
فقد كتب لي رسالة يصفني فيها بأني فوق يسوع المسيح! انه يخيفني ولا أستطيع أن أراه». كان روسو قد تحول إلى أسطورة في حياته ويقول أحد الارستقراطيين السويسريين : عندما رأيته شخصياً لأول مرة ارتعبت، خفت، وأصابتني قشعريرة من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي ونزلت من عيني الدموع.. يقول بهذا الصدد أحد الأمراء الأوروبيين بعد أن زاره في بيته الفقير والمتواضع في باريس: كانت عيناه ككوكبين يلمعان! كل عبقريته كانت تشع في نظراته فتكهربني!. وعندما تركته شعرت بنفس الفراغ والأسى الذي يشعر به المرء عندما يستيقظ فجأة بعد أن رأى حلماً جميلاً كان يتمنى أن يطول..».وأما كتابه «الاعترافات» صدر عامي 1782 و 1789 في أجزائه المتلاحقة. والكتاب، بمحاسنه ومآخذه، نتاج ما فطر عليه مؤلفه من شدة الحساسية، وقوة الذاتية، ورهافة العاطفة. يقول روسو "إن قلبي الحساس كان أس بلائي كله". ولكن هذا القلب أضفى ألفة حارة على أسلوبه، وحناناً على ذكرياته، وفي كثير من الأحيان سماحة على أحكامه، ففيه يغدو كل تجريد واقعاً شخصياً مجسداً، وكل سطر شعوراً نابضاً بالحياة فهذا الكتاب أشبه بالنبع الذي تتدفق منه نهر الاعترافات المستبطنة، النبع الذي روى أدب القرن التاسع عشر، ولم يسبقه كتاب مثله من كتب الاعترافات. وأياً كان الكتاب، فهو من أعظم ما نعرف من الدراسات النفسية كشفاً عن النفس. وعلى أية حال، فان كتاب الاعترافات، لو لم يكن ترجمة ذاتية، لكان من إحدى الروايات العظيمة في العالم1) (.
ومعلوم أن روسو كان ملاحقاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته وممنوعاً عن النشر بقرار من السلطات العليا في فرنسا وسويسرا. ومنذ البداية ظهر روسو وكأنه شخص غريب الأطوار وخارج عن الأطر والتقاليد الاجتماعية، وقد اختلف تقريباً مع كل الجهات بما فيها جهة الفلاسفة. أما عن المتشددين المسيحيين فحدّث ولا حرج! فقد شنوا عليه حملة شعواء وكفروه وأدانوا أفكاره واعتبروها بمثابة الخطر على الشباب.ومن كثرة ما لاحقوه نغصوا عيشه وقتلوه بشكل بطيء بعد أن عزلوه وحاصروه. بالطبع كل هذا لم يمنعه من أن يصبح ضمير عصره ومنارته الفكرية العالمية. ولهذا السبب فإن علية القوم في ذلك الزمان كانوا يبحثون عنه ويرجونه كي يقبل بأن يخصص لهم ولو عشر دقائق من وقته. والمحظوظ هو ذلك الشخص الذي كان يقبل بأن يستقبله في بيته مطولاً، أو أن يمشي معه في نزهات واسعة في الطبيعة ولعل ولع روسو للطبيعة وحبه الشديد للخلاء والمشي يوضحان سر توزانه والتفاته الى الجانب الروحي وتقديسه للنقاء من هنا استمرار شهرته الى الآن. وهذا الكلام ينطبق على الكبار الآخرين من أمثال كانط، أو هيغل، أو نيتشه..
فجيل الثورة الفرنسية مثلاً رفعه إلى أعلى مقام، هذا في حين أن الجيل الذي عاصره وتعرّف عليه شخصياً، اضطهده لأنه لم يكن يعرف قيمته بالشكل الكافي، ما عدا بعض الاستثناءات بالطبع.وكانت شهرته تتجاوز حدود فرنسا أو سويسرا، بلده الأصلي، لكي تغطّي على كل أنحاء أوروبا. ولم يحظ أي كاتب معاصر له بمثل هذه الشهرة إذا ما استثنينا فولتير بالطبع، عدوّه اللدود ،وبعد صدور روايته «هيلويز الجديدة» سالت الدموع أنهاراً في صالونات باريس وجنيف ورفعوه إلى مرتبة القديس العلماني.. وأما كتابه «اميل»، الذي شرح فيه نظريته عن التربية والدين والأخلاق، فقد أقام الدنيا ولم يقعدها.. والأمر ذاته مع كتابه «العقد الاجتماعي»، الذي شرح نظريته السياسية للعصور المقبلة. كل كتاب يصدر كان حدثاً يثير ردودا ونقاشات مستفيضة، ذلك أن الرجل كان يكتب بأعصابه، بقلبه، وروحه.. وكان حريصاً على ألاّ يخون الحقيقة حتى ولو عرَّضه ذلك للخطر الأعظم، ولذلك فلا ينبغي أن يقرأه المثقفون الحريصون على المهنة والجاه والوصول والمساومات والمناورات والاستقبالات والعلاقات العامة، فهؤلاء لم يكتب لهم روسو ولا يعنيه أمرهم في قليل أو كثير.
هؤلاء هم الأعداء الألدّاء لشخص من نوعية جان جاك روسو.. وقد لاحقوه في عصره ونصبوا له الكمائن والشباك، ودبّروا له أكثر من مكيدة في جنح الظلام، من عام 1751 تاريخ صدور أول نص لروسو إلى عام 1789 تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية، لم يمض عام إلا وكان روسو في مركز المناقشات الحامية. وفي تاريخ الآداب والفكر قلّة هم الذين استقطبوا الأنظار كما فعل جان جاك روسو.. وقلّة هم الذين أثاروا كل هذا الإعجاب الحماسي المدهش، أو الحقد العنيد الذي يتجاوز كل الحدود.. فلو لم يكن فكره يعبّر عن تململ كامن في أحشاء العصر والمجتمع، لما لقي كل هذا الاهتمام ولما أثار كل هذه الزوبعة والإعصار. في الوقت الذي كان يريد فيه روسو الانسحاب من العالم والاعتكاف على الذات، راح العالم كله يسلّط أضواءه عليه ولا ينشغل إلا به!. فالرجل بعد أن ضرب ضربته الكبرى عام 1751، وبعد أن أصاب العصر في عصبه الحساس، ما عاد بإمكانه أن يخلد إلى الراحة أو أن يختفي في لجّة النسيان.. ولذلك كلما ابتعد عن العاصمة باريس، وكلما تحاشى الناس وغاص في أعماق الريف والطبيعة والعزلة، لاحقوه أكثر واهتموا به أكثر فأكثر.
كان عليه أن يختار: إما أن يسكت على الحقيقة فلا يكتب حرفاً واحداً، وإما أن يقول الحقيقة ويتحمل مسؤوليته. فرجال الدين كانوا يقولون للشعب ما معناه: إن ما يحلّ بك من ظلم وقهر وعبودية هو شيء طبيعي ومشروع وينبغي أن تقبله لأنك تكفّر بذلك عن خطيئتك الأصلية. وبالتالي فكن طيّعاً لحكامك، وإياك ثم إياك أن تعصاهم أو تفكر بالثورة عليهم. فهذا النظام هو قضاء وقدر من الله تعالى ولا مردّ له. ثم يجيء جان جاك روسو لكي يقول لهم شيئاً آخر، لكي يفهّمهم ضمنياً بأن وضعهم غير طبيعي، بأنه قابل للتغيير، بل وينبغي أن يتغير يوماً ما.. خطاب سياسي من الدرجة الأولى، لم تخف مضامينه على أولي الأمر. يضاف إلى ذلك انه دفع ثمن أفكاره من خلال الملاحقات والتهديدات التي ما انفك يتعرض لها حتى مات. تضاف إلى ذلك أيضا نزعته الإنسانية العميقة التي قلّ نظيرها في التاريخ. لقد تنبأ روسو بالثورة الفرنسية قبل أن تندفع بثلاثين سنة وذلك بعبارات دقيقة، مدهشة، لا تكاد تصدق. ومعلوم أنها اندلعت بعد موته بعشر سنوات أو أكثر قليلاً.وأصبح كتابه «العقد الاجتماعي» إنجيل الثورة الفرنسية كما هو معروف. وبالتالي فهو الأب الروحي والفكري للعصور الحديثة. ولهذا السبب حقد عليه عصره، أو بالأحرى الطبقات المتنفذة فيه، وأراد قتله. والواقع ان أفكاره زرعت بذور الانقلاب الذي حصل لاحقاً. ولهذا السبب تحول قبره بعد موته إلى محجة للزائرين كباراً وصغاراً. نذكر من بينهم ملك السويد الذي جاء متخفياً، وماري انطوانيت، وحتى نابليون بونابرت، ويقال بأن هذا الأخير بعد أن طاف بقبره عدة مرات وقف أمامه وقال: كان من الأفضل ألا يوجد شخصان على وجه الأرض:
جان جاك روسو وأنا! فاندهش مرافقوه جداً وسأله أحدهم: ولماذا يا جلالة الإمبراطور؟ فأجاب: لأنه هو الذي مهد للثورة الفرنسية وأنا الذي نشرها في شتى أنحاء العالم على أسنة الحراب.. فرد عليه مرافقه مستوضحاً: ولكن كنا نعتقد يا جلالة الإمبراطور أن آخر من يحق له أن يشتكي من الثورة الفرنسية هو أنت! ألست قائدها؟ في الواقع ان نابليون كان يريد أن يقول ما معناه: لولا أفكار روسو لما اندلعت الثورة الكبرى ولظلَّت فرنسا مرتاحة البال ولما تعرضت لكل هذه الخضات والهزات التي قلبتها رأسا على عقب، لكن كان يقول ذلك على سبيل التواضع الكاذب. فنابليون آخر من يحن إلى العهد القديم السابق على الثورة كان يريد أن يُفهم الآخرين حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وعاتق روسو وكل رجال التغيير في التاريخ. وفي القرن التاسع عشر تكاثرت الزيارات إلى قبر روسو والأماكن التي عاش فيها. ومن بين الزائرين الكبار نذكر فيكتور هوغو، وبلزاك، وستندال، وميشليه، ولامارتين، وجورج صاند، وآلاف البشر العاديين. وهكذا استطاع رجل الطبيعة والحقيقة، رجل النزاهة والصدق، أن يجمع حوله خيرة العقول التي أنتجتها فرنسا على مدار العصور. والواقع ان أول شخص أعلن النظام الجمهوري، أي الديمقراطي الحديث، في فرنسا هو جان جاك روسو.
ولهذا السبب لم يغفر له اليمين المتطرف فعلته تلك. وظل يلعنه على مدار الأجيال. فشارل موراس زعيم اليمين الفرنسي في القرن العشرين كان يعتبره السبب في كل مآسي فرنسا ويحذر الناس من قراءة كتبه. وبعد موته، انتصر روسو على فولتير، وأحيا الدين، وقلب التعليم رأساً على عقب، ورفع أخلاقيات فرنسا، وألهم الحركة الرومانية، والثورة الفرنسية، وأثر في فلسفة كانت وشوبنهاور، وتمثيليات شيلر، وروايات جوته، وشعر وردزورث وبيرون وشيلي، واشتراكية ماركس، وأخلاق تولستوي وأتيح له-على الجملة- من التأثير على الأجيال التالية ما فاق تأثير أي كاتب أو مفكر آخر في القرن الثامن عشر. صحيح أنها سعادة أن تصل إلى المجد بعد أن كنت مغمورا أو في الحضيض. ولكن ثمن هذا المجد كان غاليا، بل وأغلى مما كان يتصوره روسو. وفي السنوات الأخيرة من حياته، أنهكته الملاحقات الشرسة لعدة قوى تريد تحطيمه بأي شكل. فقد ظل صامدا أو ثابتا على حقيقته حتى آخر لحظة قبل أن يسقط صريعا ويرتاح. من هنا جاذبيته التي أدهشت جميع الكتاب اللاحقين من غوته إلى تولستوي إلى دستويفسكي إلى هولدرلين.. فقد دفع ثمن كل حرف كتبه. رفعت الثورة الفرنسية كتاب العقد الاجتماعي إلى أعلى مرتبة فأصبح إنجيل الثورة. وانتشرت صوره في كل شوارع باريس على أيدي الثوار والطبقات الشعبية بعد أن كان ممنوعا في حياته أن يقيم في العاصمة الفرنسية أو أن يظهر بشكل علني أمام الناس. نقل جثمانه إلى مقبرة العظماء البانتيون (Panthéon) ليظل حيا مع ذلك كفكر وذاكرة تنويرية متوازنة وعميقة
(1) كتاب قصة الحضارة ديورانت /روسو والثورة