الأوراق وريح الخريف
قالت الورقة الصغيرة : ليت لي ثوبا فأطير في جو السماء ! كم أهوى الرقص طول النهار!
آه ! أيان يأتي الخريف ؟ !
وأتى الخريف أسرع مما تخيلت ؛ فحين صحت صباح يوم ، رأت ثوبها وثياب كثيرات من لداتها
مصبوغة صفرة رقيقة ، فصاحت بهجة : هو الخريف !
فقالت الورقة العجوز رامقة الأوراق الصغيرة : آه ! نعم أتى الخريف أيتها الصغيرات البائسات .
إلا أن الورقة الصغيرة كانت في غاية البهجة ، فقالت : ترى سأبدأ الرقص يا جدتي ؟ !
أقبلت الريح تلك اللحظة . قالت : عجبا ! هي ذي ورقة تريد أن ترقص !
وهبت رخية على الشجر ، فتحركت سائر الأوراق وحيتها والتوت كل ورقة على ساقها . وجدت
الورقة الصغيرة في هبوب الريح متعة بليغة ، وزاد ثوبها صفرة يوما تلو يوم حتى غدا قاني الحمرة
صباح أحد الأيام ، فقالت لنفسها : آه سأرحل حالا .
عصفت الريح عاتية ذاك النهار ، وبغتة أحست الورقة يدا قوية تأخذها وتمضي بها ، وأحست
ساقها تقطع في رفق ، وأنها تحلق في السماء ، فهتفت : إني أرحل ! إني أرحل ! وداعا يا جدتي !
إلا أنه لم يكن على الغصن ورق ؛ لأن الورقة العجوز اختفت منذ زمن دون أن تلحظ الورقة الصغيرة
اختفاءها ، فنابها شيء من أسى قليل . هبت الريح قوية عندئذ ، فلحقت بالورقة الصغيرة ثلاث من لداتها
، ورحن يدرن في سرعة فائقة شبه مجنونات . كانت تلك أمتع لعبة ما عرف لها مثيل من قبل . عدت الأوراق .
تواثبت . تطايرت لحظة ، ثم شرعت تتعقب بعضها بعضا . وأخيرا أدرك الإعياء اثنتين منها ، فهجرتا اللعب
ورقدتا جنب الدرب . لم تحس الورقة الصغيرة الإعياء ، فصاحت بصديقة لبثت معها : هيا نرَ العالم !
فأخذتهما الريح في يدها القوية ورفعتهما سوية وألقت بهما في حديقة ، فوثبتا فوق سياجها لتهويا في حقل
يزخر بالعشب . هتفت الورقة الصغيرة : ما أحلى الطيران ! انظري ! سنقطع نهرا .
بيد أن صاحبتها كانت في أقصى الإنهاك ؛ إذ شوهدت تتهاوى ثم تسقط فوق النهر وتنسرب شبه
زورق بين الأعشاب . حاولت الورقة الصغيرة أن تلاحقها بناظريها إلا أن عصفة ريح مضت بها
هي الأخرى ، فطارت عالية فوق المروج ، فوق الرياض ، فوق المنازل . كانت تحدث نفسها
زهوى : لا ريبة في أن الناس يحسبونني عصفورا .
ورأت أوراقا حمرا وصفرا أُخر تفارق شجرتها وتريد أن تلحق بها ، إلا أنه ما من واحدة من تلك الأوراق
رغبت في أن تحلق على مثل العلو الذي حلقت عليه الورقة الصغيرة . صارت الآن فوق حديقة مجهولة ، وجازت
سورا تكسوه الطحالب ، وبغتة ، لما تركتها الريح ، نزلت رفيقة في راحة يد . قال صوت شابة : يا لها من ورقة بديعة ! نزلت رأسا من السماء . سأحافظ دائما عليها .
وأحست الورقة الصغيرة أن ثمة من يأخذها من ساقها في لطافة ، وأنها توضع مستوية فوق صفحة كتاب ،
وأن الكتاب يغلق ثانية . انتهت الرحلة الجميلة ، لكن ما منبع الظلمة التي في الكتاب ؟ قالت لنفسها : لا بد أنه
الشتاء . كانت الورقة الجدة محقة في ما قالت .
نامت الورقة الصغيرة سنوات بين الصفحتين . ومن حين لأخر كانت سيدة تأخذ الكتاب وتنظر إلى الورقة
الحمراء في حب . ونسي الكتاب مع السنين . ما عاد أحد يفتحه . ومع ذلك ، في يوم من الأيام ، رأت الورقة
النور من جديد ، فقالت في نفسها : هو الربيع !
رأت حجرة مضاءة وموقدا تضطرم فيه نار كبيرة ، وكان صوت شابة يقول : كانت أمي تحب هذا الكتاب
حبا جما ، لكن لم تركت فيه هذه الورقة اليابسة ؟ !
وحملت الورقة الصغيرة وطرحتها في الموقد ، فاحتواها اللهب ، وفي ثانية راحت تتلوى صارخة :
وداعا ! وداعا لهذا العالم !
ثم إنها هي نفسها غدت لهبا بهيا ساطعا ، وفي الحال لم يبقَ منها شيء .
* قصة : بيرنت شابونيير .
وسوم: 640