النظام العالمي
ليس من السهل القراءة في كتاب ضخم في علم السياسة (432 صفحة)، فما بالك إن كان الكتاب عن النظام العالمي والمؤلف علمٌ من أعلام السياسة الدولية وقد أمضى سنوات ينفذها ثم عقوداً بعد ذلك يحللها، كما كان رجلاً فاعلاً في نظام عالمي ظلّ مستقراً نسبياً أكثر من ربع قرن إلى ما بعد انتهاء الحرب الباردة. إنه وزير الخارجية الأمريكي السابق والسياسي المخضرم هنري كيسنجر.
النظام العالمي ليس كتلة متراصة متعاضدة ذات قوة واتحاد، ولا هو نتيجة حتمية لإدارة سياسية عبقرية وقيادية. بل هو أداة ثقافية تاريخية صنعها الإنسان وصقلتها تجارب بعض الشعوب. النظام العالمي، برأي كيسنجر، هو نتاج صلح "ويستفاليا" (Westphalia) الذي تم توقيعه في القرن السابع عشر، وجاء جواباً على ثلاثين عاماً من الحروب الدينية المتوحشة بين الكاثوليك والبروتستانت في الإمبراطورية الرومانية المقدسة (التي كانت تغطي معظم الأراضي في ألمانيا اليوم)، وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة.
الجدير بالذكر أن تلك الحروب قد بدأت دينية لكنها انتهت حروب مصالح ولعب سياسي. ففرنسا الكاثوليكية التي كانت تسعى إلى أن تصبح القوة الأولى في أوروبا قد حاولت -من خلال رَجُلها القوي الكاردينال ريشليو- تقويض كل القوى الكاثوليكية الأخرى؛ فكانت تموِّل لذلك الهدف الجيوش الألمانية البروتستانتية ضد تلك القوى؛ وقد عارضت بدايةً عقد الصلح بين الأطراف المتحاربة. ريشليو الذي يرى أن الميزة الأولى لرجل الدولة هي الفاعلية وليس الأخلاق، ولا يتوجب عليه أبداً الاستناد إلى مبادئ نابعة من الفضيلة، فتلك مفاهيم تتعلق بالإنسان العادي. وريشليو بالأخص واحد من أهم منظّري مبدأ "المصلحة الوطنية" (raison d'État) الذي ينص على أن الملك فقط مَن يملك القدرة على تقرير ما هو جيد لرعاياه؛ وهو أيضاً المبدأ الذي جاء ليبرر للدولة التدخل في شؤون دولة أخرى وشنّ الحروب.
إذن، فقد اجتمع حكام أوروبا سنة 1648 وقرروا (بعد صراعات أنهكت أوروبا واستنفذت طاقاتها على الأصعدة كافة) أنهم لن يعملوا على فرض مبادئهم الدينية على بعضهم بعضا، ولن تتدخل دولةٌ في أمور الدول الأخرى الداخلية بعد الآن. لقد كرست معاهدة "ويستفاليا" نظاماً أخلاقياً وكانت نقطة التقاء "مجتمعات متعددة ومتنوعة تبحث عن نظام للعيش المشترك"، بعد أن تناحرت فيما بينها لعقود طويلة.
لكن ذلك النظام الطوباوي ما كان ليستمر طويلاً. فسرعان ما جاءت الثورة الفرنسية وحاولت نشر أفكارها الجمهورية، ومن بعدها جاء نابليون بأفكاره الإمبراطورية. وكذلك فعلت الثورة البلشفية ثم ألمانيا النازية ثم... الولايات المتحدة. فللنظام العالمي مفاهيم أخرى مختلفة جداً نجدها في الصين وفارس وروسيا والإمبراطورية العثمانية. وقد تطرق كيسنجر إلى كل منها على حِدة من منظار تاريخي قبل الدخول في تعقيدات عصرنا المعاصر وتحليلها من وجهة نظره كسياسي أمريكي مؤمن بالخط السياسي لبلاده.
يقول كسنجر إن الدولة التي ضربت بنود "ويستفاليا" عرض الحائط فعلاً هي أمريكا. فمنذ الحرب العالمية الأولى وهي تسعى إلى فرض رؤيتها التحررية عن الديمقراطية العالمية لأجل موازنة القوى السياسية العالمية التي سارت بأوروبا نحو هاوية الحروب "مجدداً". ومنذ ذاك الوقت، والرؤساء الأمريكيون يداعبون هذه المشاعر لدى مواطنيهم لدفعهم على الذهاب إلى شواطئ بعيدة عن ديارهم وعوالم ليست لهم يَحْدُوهم وَهْمٌ أن بوسعهم تحسين العالم بالعمل الجماعي.
فقد حاولت الولايات المتحدة على مدى أجيال أن تبني نظاماً عالمياً ليبرالياً "يحفظ السلام في العالم"، برأي كيسنجر. كما استطاعت خلال الحرب الباردة أن تدعم الشعوب المتطلعة للحرية وأن توسع من الأسواق الاقتصادية الحرة وأن تحمي (بالعمل العسكري والدبلوماسي وبالتحالفات) معاهدات التعاون ذات الفائدة للأمة الأمريكية، علاوة على نجاحها في هزيمة الفاشستية والشيوعية. طبعاً حماية ذلك النظام من أولى المهام الأمريكية. حتى أن المؤلف يثني على قرار جورج بوش في غزو العراق عندما أعلن أن أهدافه في العراق ستشرّف بلاده. لقد أقنعت هجمات 11 أيلول الأمريكان أن صلح "ويستفاليا" ليس سوى حبر على ورق. وقتها صرح بوش قائلاً: "إن استمرار الحرية في بلادنا مرتبط ارتباطاً متزايداً بنماء الحرية في بلاد الآخرين". كما صرحت هيلاري كلنتون مؤخراً: "لحسن الحظ أن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على أن تقود العالم في القرن 21". ويعتقد كيسنجر أن أمريكا تمارس، منذ عهد الرئيس ويلسون (1921)، "سياسة خارجية قائمة على مفهوم الصراع المشروع لأجل العدالة أكثر مما تمارسها سعياً وراء الامتيازات وبحثاً عن المكاسب على حساب غيرها من الدول".
ثم جاء أوباما واتخذ موقفاً مغايراً كليةً وأخرج أمريكا من دور الشرطي العالمي وسار ببلاده في الاتجاه المعاكس للمبادئ التي قادها بها جورج بوش بشكل خاص. فهو يعتقد أن المشاكل الجديدة ليست مشاكل بين الدول بل هي مشاكل عالمية؛ ومواجهتها تتطلب درجة عالية من التعاون لم يصل إليها البشر قبل اليوم. ويرى أوباما أن هذه المسائل تستدعي شكلاً جديداً من المصالح الوطنية والقومية: "فالذي أبطل النظام العالمي القديم هو العولمة وليس الإرهاب". "لقد ولى زمان تتعامل فيه الإمبراطوريات القديمة مع الدول كقطع شطرنج. وأي نظام يحاول رفع أمة أو مجموعة من الناس فوق غيرها مصيره الفشل حتماً. لم يعد السعي نحو السلطة لعبة أنا أربح وأنت تخسر. لا بد من نشر التقدم ومشاركته مع الآخرين".
ولكن، فلننظر في حال العالم اليوم... ماذا نرى سوى صراعات سياسية وحروب، وأزمات اقتصادية ومجاعات، وانهيار نظريات وفوضى. الغرب الذي أراد نهاية الأسد منذ سنتين يتساءل اليوم إن كان عليه التحالف مع دمشق ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" أم لا؟ جون كيري يتحدث عن إيران كشريك. وأوباما يعترف "ليست لدينا استراتيجية" حول إيقاف الصراع في المشرق. وروسيا تستغل الفراغ الدولي لتعلن نفسها الشرطي العالمي الجديد.
كذلك، ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة قوى جديدة ليست دولاً ولا أنظمة، بل هي جماعات ولاعبون مستقلون ذوو خطورة كبيرة. وهو ما أعلنه الرئيس بوش حين قال: "لم تعد تهدد أمريكا دولٌ قوية، بل هي شبكات سرية يقف وراءها أفراد ومنظمات". ويتساءل كيسنجر: "هل نحن اليوم على مشارف عهد تُقرر المستقبل فيه قوى خارجة عن أي حدودِ نظامٍ كان؟ (...) وهل ستأتي الأزمات الاقتصادية بأشكال جديدة من التعاون أم أنها ستعود بنا إلى عهد الحمايات والخلافات؟ هل ستساعد التقنيات الجديدة الشعوب في محاسبة حكامها ومساءلتهم أم ستساعد الطغاة في قمع من يعارضهم أكثر؟ هل ستصبح القوى الصاعدة مثل الصين والبرازيل والهند عناصر مساهمة في إيجاد الحلول أم أنها ستُفسد في الأرض؟ ومَن مِن اللاعبين غير الحكوميين سيكون له التأثير الأكبر: شبكات الإرهابيين ومنظمات الجريمة، أم المنظمات غير الحكومية غير الربحية التي تُظهر شجاعة عالية في العمل الإنساني؟".
في المحصلة، يؤكد الكتاب على أمر واحد مهم: إننا مقدمون على عالم ستزداد فيه الصراعات بين الدول. صحيح أن قوى غير-دولية وعلى رأسها تنظيم "الدولة الإسلامية" مسؤولة عن العديد من الصراعات في العالم اليوم، لكن الحقيقة المرّة هي أن دولاً كبرى بما فيها روسيا والصين وإيران والولايات المتحدة تستخدم القوة والغصب في الصراعات نفسها بطريقة لم نعهدها من قبل.
يُفرد كيسنجر فصلاً كاملاً للحديث عن الرؤية الإسلامية للنظام العالمي. عن مفهوم دار الإسلام ودار الحرب. ويتحدث عن حسن البنا وتصريحه بأن: "مدنية الغرب تفلس الآن وتنهدم قواعدها. أصولها السياسية تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات. مؤتمراتهم تفشل ومواثيقهم تمزق وعصبة أممهم شبح لا روح فيه ولا نفوذ له"، [بتصرف]. وعن أن "الإسلام هو الحل" ثم عن فلسفة ذلك الحل بين الإخوان المسلمين والوهابيين.
كما يتطرق بإسهاب إلى الدول العربية منذ سايكس بيكو حتى الثورة السورية ضد نظام الأسد. وفي نظر كيسنجر (ووفقاً لمصطلح صلح "ويستفاليا") فإن العالم الإسلامي اليوم قد دخل المراحل الأولى لحرب الثلاثين عاماً؛ فنحن بعيدون عن صلح "ويستفاليا" ولا تزال أمامنا طريق طويلة قبل أن نفهم أن التعايش السلمي هو الحل.
ناهيك عن إيران، إذ يقول كيسنجر إن الخميني كان يمارس السياسة مدفوعاً بإرثٍه الفارسي والثقافي العالي، وبنظرة إسلامية ترى "الدول الأخرى عوائق أمام تحويل الناس إلى الإسلام (الشيعي)". وإيران اليوم تهدد النظام العالمي على صعيدين فكريين اثنين: كوريثة لإمبراطورية قديمة، وكمشروع توسعي تحت غطاء ثورتها "الإسلامية".
النظام العالمي... أمر سعى ويسعى وسيسعى اللاعبون على الساحة الدولية إلى فرض وجهات نظرهم على بعضهم بعضاً أو على شعوبهم، وستحاول الشعوب من وقت لآخر المناداة بوجهة نظرها و﴿تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
وسوم: 641