شيطان من الإنس
كان لدى توما جريجوروفيتش فرادة نادرة الغرابة؛ فحتى مماتِه لم يحب أن يروي الشيء نفسه مرتين . وكان
أحيانا _ إذا ما طلب منه أن يروي شيئا مرة ثانية _ يقحم فيه جديدا أو يبدله حتى يستحيل أن تعرفه . وفي يوم ، استخلص أحد السادة _ الذين يعشقون كل ألوان البهارج ، ويصدرون شهريا أو حتى أسبوعيا كتبا صغيرة حقيرة
لا تزيد في صفحاتها على كتاب الأبجدية _ قصة من توما جريجوروفيتش . ونسي توما تماما كل شيء عن تلك القصة إلا أن ذلك السيد الشاب لابس القفطان الذي يحكي في خضرته خضرة البازلاء ؛ قدم من بولتافا ومعه كتيب فتح وسطه وعرضه علينا . وكان توما جريجوروفيتش يوشك أن يضع نظارته على عينيه إلا انه تذكر أنه
نسي أن يلف حولها خيطا ويلصق طرفيها معا بالشمع ؛ فكان أن ناولني الكتاب . ولأنني أعرف شيئا عن القراءة والكتابة ولا أضع على عيني نظارة فقد توليت القراءة . وما كدت أقرأ صفحتين حتى أمسك توما جريجوروفيتش يدي بغتة وأوقفني عن متابعة القراءة : قف ! قل ماذا تقرأ ؟ !
وأعترف أن ذلك السؤال أذهلني شيئا . قلت : ماذا ؟ ! ماذا أقرأ يا توما جريجوروفيتش ؟ ! أقرأ كلامك !
_ من قال إنه كلامي ؟ !
_ لماذا ؟ ! ماذا تريد أكثر من ذلك ؟ ! إنه مطبوع هنا . رواه أحد حفاظ نفائس الكنيسة .
_ ابصق على من طبعه ! يكذب ! كلب بائعٍ متجول في موسكو ! أقلت أنا هذا ؟ ! يبدو كأنه كلام إنسان فقد سلامة عقله . اسمع ! سأروي لك الحكاية حالا .
انتقلنا إلى الطاولة وشرع يروي : كان جدي _ أناله الله مملكة الجنة ، ولا أكل إلا أرغفة القمح وكعك حبوب الخشخاش بالعسل في الآخرة _ يروي القصة رواية فائقة الإثارة ، فإذا بدأ قصة صعب عليك أن تتحرك من
المكان طول النهار بل تواصل الإصاخة إليه . ما كان يشبه قصاص هذا الزمان _ الذي حين يشرع في الكذب
بلسان كأن صاحبه ما كان لديه ما يأكله طيلة ثلاثة أيام _ يدفعك إلى خطف قبعتك والفرار من المنزل . أذكر أن أمي كانت حية يومذاك . وقد ألفت الجلوس عند عجلتها في ليالي الشتاء الطوال حين كان الصقيع يتكسر خارج المنزل ويغلق أطر نوافذ كوخنا الضيقة إغلاقا محكما ،فتسحب خيطا طويلا في يدها هازة قاعدة السرير بقدمها
وهي تدندن أغنية يبدو لي أنني أسمعها حتى هذه اللحظة . كان السراج ينير كوخنا مرتجفا متوهجا كأنه يخاف شيئا ما . ، وكان المغزل يرسل صوته في يد جدتي ، وكنا معشر الأبناء مكدسين في جماعة نصغي إلى جدنا الذي
لم يفارق الموقد منذ ما يزيد على خمس سنين لشيخوخته العالية إلا أن الأقاصيص العجيبة عن رحلات قوزاق زابوروز والبولنديين وأعمال بولكوف الجريئة وبولتر كوزوخ وساجيداتشني لم تثرنا قدر ما أثارتنا الأقاصيص
التي تتحدث عن الأعمال القديمة التي كانت دائما تبث الرعدة في أجسادنا وتوقف شعر رؤوسنا . ويعلم الله كم كان كل شيء يبدو لنا مثيرا منذ ليلة القص فصاعدا ، وإذا صدف أن خرج أحدنا من الكوخ عقب حلول الظلام
لأي سبب فإنه يتخيل أن زائرا ما هبط من العالم الآخر لينام في فراشه . وغالبا ما كنت أتناول ثوبي الفضفاض
من رأس السرير وأنا على مسافة ما ؛ فالشيطان كامن في كرة ! ولكن كان المهم في أقاصيص جدي أنه لم يكذب
مدى حياته ، وأن ما قال عنه كذا كان كذا حقا . وسأروي الآن واحدة من حكاياته العجاب . أعرف أن ثمة عددا جما من حكماء الناس الذين يكتبون في المحاكم بل يمكنهم أن يقرؤوا المستندات المدنية إلا أنك لو وضعت في
أيديهم كتاب صلاة بسيطا لعجزوا عن تفسير الحرف الأول منه ، ولكشفوا عن سائر أسنانهم استهزاء به . هؤلاء
الناس يسخرون من كل ما تقصه عليهم . ترى الواحد منهم لا يؤمن بالساحرات . نعم . المجد لله لأنني عشت
حياة مديدة في الدنيا . رأيت ملحدين يستسهلون الكذب عند الاعتراف أكثر مما يستسهل إخواننا وأمثالنا من
الناس اشتمام السعوط . هؤلاء الناس ينكرون وجود الساحرات ولكن ذرهم يحلموا بشيء ! إنهم لن يقولوا عندئذ ما ذلك الذي حلموا به ، ومن ثم فلا فائدة من الكلام في شأنهم . ما من أحد عرف قريتنا قبل ما يزيد قليلا على مائة عام . كانت زمانئذ عزبة ، أبأس صنف من العزب ، محض عشرة بيوت زراعية بائسة بلا جص سيئة التسقيف تتبعثر هنا وهناك حول الحقول . لم تكن هناك باحة أو حظيرة تناسب إيواء الحيوانات أو إيداع العربات .
كذا كان يحيا الأغنياء فيها . أما إذا بحثت عن إخواننا الفقراء _ ولماذا تبحث ؟ _ فستعد حفرة في الأرض كوخا .
الدخان هو الشيء الوحيد الذي يجعلك تقول إن مخلوقا يعيش هناك . تسأل لماذا عاشوا هكذا ؟ لم يكن العوز السبب الكلي ؛ فتقريبا عاش كل واحد منهم حياة القوزاق المغيرين وجمع كثيرا من النهائب في غريب البلدان
. كان السبب المرجح قلة نفع بناء خشبي حسن بالنسبة إليهم . كان كثير من الناس منصرفين إلى الغارات في
أنحاء البلاد : قرميون وبولنديون وليتوانيون . كان ممكنا جدا أن يأتي مواطنو هؤلاء وينهبوا كل شيء .
كان كل شيء ممكنا ذاك الزمان . إنسان _ أو الأصح شيطان في هيئة إنسان _ يكثر الظهور في تلك القرية
، لم يدرِ أحد لماذا ولا من أين أتى . كان يجوس خلسة خلال العزبة ويسكر ويختفي فجأة كأنما في الهواء دون
أن يخلف لوجوده أثرا . ثم انظر ! يبدو كأنه هبط ثانية من السماء وحلق في شارع القرية التي لم يبقَ منها الآن أثر والتي لم تكن تبعد عن ديكانكا أكثر من مائة خطوة . كان يلم كل من يلقاه من القوزاق فتنطلق الأغاني والمضاحك ويكثر المال وتسيل الفودكا سيلا ن الماء . وكان يخاطب حسان الصبايا ويهبهن من الأشرطة والحلقان والقلائد أكثر مما يعرفن ماذا يصنعن به . وصحيح أن حسان الصبايا ترددن شيئا في قبول هداياه
؛ فالله يعلم بأي أيد قذرة مرت تلك الهدايا . قالت عمة جدي التي كانت تملك يومئذ حانة كثيرا ما سكر فيها
باسا فريوك – مثلما كانوا يسمون ذلك الشيطان _ إنه ما من اعتبار في الدنيا يمكن أن يغريها بقبول هدية
منه ، ولكن ما السبيل إلى تجنب القبول ثانية ؟ كان الخوف يقيد الجميع حين يعقد باسافريوك حاجبيه الخشني الشعر وينظر نظرة جانبية يعلم الله أين ترسل قدميك . أما إذا تقبلت إحدى هداياه فإن عفريتا بقرون على رأسه
يأتي الليلة التالية من المستنقع ويبدأ في عصر جيدك إذا كان حوله قلادة أو يعض إصبعك إذا كان فيها خاتم أو
يجرك من شعرك إذا كان مجدولا بالأشرطة ، فليرحم الله من لديهم تلك الهدايا ! وكانت هناك مصعبة : كان مستحيلا أن تتخلص من تلك الهدايا ! فإذا ألقيتها في الماء انزلق الخاتم أو العقد الشيطاني فوق سطح الماء إلى يدك ! كان في القرية كنيسة . كنيسة بانتيلي إن صدقتني الذاكرة . يعيش فيها الكاهن الأب أثاناسي المبارك الذكرى . ولما لاحظ الكاهن أن باسافريوك لا يأتي إلى الكنيسة حتى في عيد الفصح عزم على تقريعه ومعاقبته
. حسن . بالكاد نجا الكاهن بحياته ؛ إذ زمجر باسافريوك ردا على الكاهن : اسمع يا سيد ! تعلم الاهتمام بشأنك عوض التدخل في شئون الآخرين إذا كنت لا تريد لحنجرتك أن تختلط بالكوتيا الغالية ( طبق مصنوع من دقيق
القمح أو الأرز مع العسل والزبيب يقدم في الكنيسة في كل قداس هام ) . فما الحل مع هذا الرجل الذي لا يتوب ؟
أرضى الأب أثاناسي نفسه بأن أعلن أن كل من يصادق باسا فريوك سيعد كاثوليكيا وعدوا للكنيسة المسيحية
الأورثوذكسية وليس من بني الإنسان . وكان يعيش في القرية قوزاقي اسمه كورزه عنده عامل يسميه الناس بيتر
اليتيم ربما لأن أحدا لا يتذكر له أبا أو أما وإن كان رئيس الكنيسة قال إن والدي بيتر ماتا من الطاعون حين كان في الثانية عشرة إلا أن عمة جدي ما كانت لتستمع إلى ذلك القول ، وسعت جاهدة لتزويده بوالدين مع أن حاجة بيتر البائس لهذين الوالدين كانت قدر حاجتنا لثلج العام الماضي . قالت عمة جدي إن والد بيتر كان في زابورزي
وأن الترك أسروه ، ويعلم الله وحده العذاب الذي لقيه على أيديهم إلى أن تخفى بمعجزة في هيئة خصي وهرب .
لم يأبه الشبان والشابات سود الحواجب كثيرا بأمر والدي بيتر . قالوا فقط إنه لو كان يملك معطفا جديدا وزنارا
أحمر وقبعة سوداء من جلد الخروف وتاجا أزرق جميلا فوق رأسه وحساما تركيا على جنبه وسوطا في يد
وغليونا حسن الوشي في الأخرى لبذ عندئذ سائر الشبان ، ولكن للأسف ما كان بيتر الفقير يملك سوى سترة
رمادية طويلة فيها من الثقوب أكثر مما في جيب أحد اليهود من قطع الذهب ، ولكن هذا لم يكن أسوأ ما في الحال
؛ إذ كان لكورزة ابنة على نصيب من الحسن أحسبك لم ترَ مثيله إلا في الصدفة النادرة . وكان من مألوف عمة جدي أن تقول _ وأنت تعلم أن تقبيل المرأة للشيطان أسهل عندها من أن تصف أحدا بالحسن _ إن خدي تلك الغادة القوزاقية كانا في امتلاء ونضرة الخشخاش الوردي حين يفتح بتلاته إذ يستحم بالطل ( الندى ) ويغازل الشمس الطالعة ، وإن حاجبيها يتقوسان جليين فوق عينيها اللامعتين شبه حبلين أسودين يماثلان الحواجب الصناعية التي تبتاعها فتياتنا هذه الأيام بصلبانهن ودوكياتهن الذهبية من باعة موسكو الجائلين الذين يزورون القرى بسلالهم ، وإن ثغرها الصغير الذي يتلمظ الشبان عند رؤيته يبدو كأنما خلق ليترنم بأغاني العنادل ، وإن شعرها الذي يشبه في سواده سواد جناح الغراب ، ويشبه في نعومته نعومة خيوط الكتان ؛ يسترسل خصلا على منكبيها ؛ ذلك أن فتياتنا في ذلكم الزمان ما كن يضفرن شعرهن على هيئة ذيل خنزير مجدول مع أشرطة بهية
زاهية الألوان . إيه ! ربما ما كنت لأنشد تسبيحة للرب في الفرقة مرة أخرى لو لم أقبل تلك الفتاة رغم الشيب
الذي يشق طريقه خلَلَ الشعر الشائخ الذي يكسو رأسي ورغم العجوز الكائنة جواري شبه شوكة في خصري .
حسن . أنت تعرف ما يحدث حين يعيش الشبان والشواب معا . كان عقبا الحذاء الأحمر مرئيين دائما عند الشفق
في المكان الذي تثرثر فيه بيدوركا مع " حبيبها " بيتر ، بيد أن كورزة لم يرتَبْ يوما في شيء خارج المألوف
إلا أنه حدث في يوم واحد فحسب _ واضح أن لا أحد ألهمه ذلك سوى الشيطان _ أن عزم بكل اللهفة على تقبيل شفتي الفتاة المتوردتين دون أن يتلفت أولا حوله جيدا . إن ذلك الشيطان أيضا _ ربما يحلم ابن كلب بالصليب
المقدس _ جعل العجوز الأشيب اللحية يفتح مثل معتوه باب الكوخ في تلك اللحظة ، فتحجر وسقط فكه وتشبث
بالباب خيفة الوقوع . صدمته تلك القبل المنحوسة أعمق الصدم . ولما أفاق من صدمته أخذ سوط جده الخاص
بالصيد من على الجدار ، وهم بجلد ظهر بيتر إلا أن إيفاس أخا بيدوركا الصغير ابن السادسة اندفع من مكان ما
، وأمسك رجلي والده بيديه الصغيرتين وصرخ : بابا ! بابا ! لا تضرب بيتر !
وقلب الأب ليس مقدودا من حجر ، فعلق كورزة السوط ثانية على الجدار ، وقاد هادئا بيتر خارج المنزل ، وقال
له : إذا رأيتك ثانية في كوخي أو تحت شبابيكه ، انتبه يا بيتر ! أحلف بالله سيختفي شاربك الأسود ، وستفارق
ضفائرك السود رأسك مع أنها ملفوفة مرتين حول أذنيك ، وإلا فاسمي ليس تيرينتي كورزة .
وبعد أن قال ما قال أذاقه طعم قبضته بلكمة في مؤخر عنقه أظلم لها كل شيء في عينيه ، فطار خارج المكان .
وبذلك انتهى تقبيلهما لبعضهما . وحزنت يمامتنا ، وانتشرت إشاعة في القرية تقول إن بولنديا مطرزا تطريزا كاملا بالذهب ، أسود الشارب ، ذا سيف ومهاميز ، وله جيوب تصلصل صلصلة الحقيبة التي يدخل بها تاراس
حافظ غرفة النفائس الكنسية يوميا ؛ بدأ يتردد على منزل كورزة . معروف الآن لِمَ يكثر زوار الأب حين
يكون لديه ابنة سوداء الحاجبين . وهكذا انفجرت بيدروكا في يوم باكية ، وأمسكت يد أخيها إيفاس قائلة :
إيفاس يا عزيزي ! إيفاس يا حبيبي ! طر إلى بيتر طفلي الذهبي مثل سهم ينبعث من قوسه ! قل له كل شيء !
كنت سأحب عينيه البنيتين . كنت سأقبل وجهه الوسيم إلا أن قدري أراد شيئا آخر . بللت أكثر من منديل بدموعي
الحارة . قلبي محزون مكروب ، ووالدي عدوي . لن أتزوج البولندي الذي لا أحبه . أخبر بيتر أنهم يعدون للزفاف ، ولكن لن تكون في زفافنا موسيقا . سيغني الكهان بدل القياثير والعيدان . لن أرقص مع عريسي .
سيخرجونني . الظلام ، الظلام سيكون مسكني بدل خشب القيقب ، وبدل المداخن سيكون فوق السطح صليب .
وقف بيتر متحجرا لا يتحرك من المكان حين نطق له الطفل البريء كلمات بيدوركا . قال : فكرت _ أنا البائس _
في الرحيل إلى القرم وتركيا للفوز بالذهب والعودة إليك يا حسنائي ، ولكن هذا قد لا يحدث . لحظتنا عين الشر .
أنا أيضا سأتزوج يا عزيزتي ، ولكن لن يحضر زفافي كهان . سينعق الغراب الأسود فوقي بدل البابا ، وسيكون السهل الأجرد لي مسكنا ، وستكون السحابة الداكنة الزرقاء شجرة سقفي ، وسينتزع النسر عيني البنيتين ، وسيغسل المطر عظامي القوزاقية ، وستجففها الزوابع، ولكن من أنا ؟ مم يجب أن أشكو ؟ واضح أن هذا ما أراده الله ، فلأضع إن كان كتب علي الضياع ! قال ذلك ومضى من فوره إلى الحانة . دهشت المرحومة عمة جدي شيئا ما لرؤية بيتر في الحانة في الوقت الذي يذهب فيه البررة من الناس إلى قداس الصباح ، وحملقت فيه كأنها في حلم حين طلب إبريق خمر أي قرابة نصف دلو ،لكن محاولة بيتر البائس إغراق كربه في الخمر مضت أدراج الريح ، ولذَع شراب الفودكا لسانه تلذيع القتاد ، وبدا في حلقه أمر من نبت الأفسنتين ، فرمى الإبريق
أرضا . وأرعد صوت عالٍ وراءه : حزنت بما فيه الكفاية يا قوزاقي !
تلفت بيتر حوله . كان المتكلم باسا فريوك ! آه ! يا له من وجه ! كان شعره مثل الفرشاة ، وكانت عيناه مثل عيني
ثور . تابع يقول : أعرف ما ينقصك . إنه هنا .
وصلصل أثناء كلامه كيسا جلديا مدلى من حزامه ، وابتسم ابتسامة شيطانية . ارتجف بيتر ، وتابع باسا فريوك
ها ها ها ! وزمجر هازا في يديه الدوكيات الذهبية التي أخرجها : ما أقوى بريقها ! ها ها ها ! ما أقوى صليلها !
ولا أطلب إلا شيئا واحدا ثمن كومة من هذه البوارق .
هتف بيتر : إنه الشيطان ! أعطنيها ! مستعد لعمل أي شيء !
تصافقا كفا عليها ، وقال باسا فريوك : جئت في حينك يا بيتر . غدا عيد القديس يوحنا المعمدان . السرخس لا
يزهر إلا هذه الليلة من السنة . سأنتظرك منتصف الليل في وادي الدب .
ولا أحسب الكتاكيت تنتظر الساعة التي تحضر لها فيها ربة البيت القمح بقدر اللهفة التي انتظر بها بيتر حلول المساء . لبث يرقب ما إذا كانت ظلال الشجر لا تستطيل ، وما إذا كانت الشمس لا تحمر جنوحا للغروب . وكلما
طالت مراقبته زاد صبره نفادا . لكم طال عليه النهار ! جلي أن نهار الله أضاع نهايته في مكان ما إلا أن الشمس غربت الآن ، والسماء حمراء في طرف واحد فحسب ، والظلمة بدأت تحل ، والبرودة تزداد في الحقول .
الظلمة تشتد وتشتد حتى عمت كاملة في النهاية ، في النهاية عمت ، فانطلق بيتر بقلب يكاد يندفع من صدره ،
وأخذ سبيله حذرا بين ألفاف الغاب صوب الوهدة الغائرة المسماة وادي الدب . كان باسافريوك ينتظر هناك
من قبل ، وكانت الظلمة داجية حتى إنك لا تستطيع أن ترى بعد ياردة أمامك . دخل الاثنان الوادي يدا في يد
شاقين سبيلهما خلال الشجيرات الشائكة متعثرين تقريبا في كل خطوة . وأخيرا بلغا بقعة خالية من النبات .
تلفت بيتر حوله . ما حدث أن جاء من قبل إلى هذا المكان . هنا توقف باسافريوك . قال : أترى ثلاثة تلال
أمامك ؟ فوقها أنواع لا تحصى من الزهور . عسى أن تمنعك قوة ما من قطف ولو زهرة واحدة منها ، ولكن حالما يزهر السرخس اقطف زهرة واحدة منه ! ولا تلتفت حولك بصرف النظر عما يحدث وراء ظهرك !
أراد بيتر أن يسأل بعض الأسئلة ، ولكن انظر ! اختفى باسافريوك ! بلغ بيتر ثلاثة التلال . أين الزهور ؟ لم يرَ
شيئا . كان عشب السهب الوحشي ناميا حوله ،ويخفي في كثافته كل شيء ، بيد أن البرق التمع ، فرأى بيتر
مسكبا كاملا من الزهور كلها رائعة طريفة ، وكانت بينها أيضا أوراق السرخس البسيطة . ارتاب بيتر في
حواسه ، ووقف أمامها متفكرا واضعا يديه على خاصرتيه . تساءل : ما هذه المعجزة ؟ ! لِمَ يرَ المرء هذه الحشائش عشر مرات يوميا ؟ ! ما وجه العجب في هذه الأعشاب ؟ ! لا ريبة في أن وجه إبليس يهزأ بي .
ولكن انظر ! برعم زهرة السرخس الصغير احمر وتحرك كأنه حي ! كان ذلك في الحق أعجوبة .
وزاد كبرا وزاد ، وتوهج مثل فحمة متقدة ، وبرقت نجوم الضوء الصغيرة ، وانبثق شيء في رقة
، وتفتحت الزهرة أمام ناظريه مثل شعلة مضيئة ما حولها . فكر بيتر : أزف الوقت .
ومد يده ، فرأى مئات الأيدي الشعراء تصل أيضا إلى الزهرة من ورائه ، وسمع خلفه صوت جري .
أغمض عينيه نصف إغماضة ، وأمسك الساق بقوة ، فبقيت الزهرة في يده ، وسكن كل شيء . جلس
باسافريوك فوق أصل شجرة مقطوعة فائق الزرقة يشبه جثة . لم يتحرك كثيرا مثل إصبع . كانت
عيناه ساكنتين ثابتتين على شيء لا يراه سواه . كان فمه نصف مفتوح وصامتا . لم يتحرك شيء حولهما .
آه ! كان الأمر مروعا إلا أن صفرة سمعت عقب ذلك جعلت فؤاد بيتر يبرد في صدره ، وتخيل أن العشب
همس ، وأن الأزهار راحت تتكلم مع بعضها في أصوات رقاق تشبه أصات أجراس الفضة الصغيرة ، وأن
الأشجار بثت حفيفها في غمغمة تنازع . وفجأة أفعمت الحياة وجه باسا فريوك ، وتألقت عيناه ، فتمتم من بين
أسنانه : رجعت الساحرة توا ! اسمع يا بيتر ! ستقف أمامك ساحرة بعد لحظة . افعل ما تأمرك وإلا ضعت
للأبد !
ثم إنه فصل ما بين شجيرات الشوك بعصا عقداء ، فبرز قدامه بيت زراعي صغير ضربه بجمع يده ، فاهتز
جداره ، وخرج منه كلب أسود ضخم للقائهما ، وعوى فانقلب قطا انقض مباشرة على عيني باسا فريوك الذي
قال : لا تغضب! لا تغضب أيها الشيطان العجوز !
وكان استعمال تلك الكلمات بمثابة جعل إنسان طيب يسد أذنيه . انظر ! حلت محل القط عجوز محنية الجسد
لها وجه أغضن يشبه تفاحة مخبوزة ، وأنف وذقن مثل كسارة البندق . فكر بيتر : ساحرة رائعة .
وسرت في ظهره قشعريرة . نزعت الساحرة الزهرة من يده ، وانحنت ، وطوَلت فوقها الغمغمة ، ورشتها
بنوع من الماء ، واستطار الشرر من فمها ، واستبان الزبد في شفتيها . قالت وهي تعيدها إلى بيتر : ارمها !
فرماها ، ويا للمعجزة التي حدثت عندئذ ! لم تسقط الزهرة مباشرة على الأرض ! وإنما تألقت مدة مديدة في دجنة
الليل شبه كرة نارية ، وسبحت في الأثير شبه زورق ، وأخيرا راحت تهبط رويدا رويدا ، وسقطت بعيدا حتى كان من الصعب رؤية هيئتها التي تشبه نجمة صغيرة لا تكاد تزيد على حجم بذرة الخشخاش . ونقت العجوز في
صوت كئيب : هناك !
وأعطى باسافريوك بيتر مجرفة وقال : احفر هنا يا بيتر ! ستجد من الذهب أكثر مما حلمت به أنت أو كورزه .
بصق بيتر على راحتيه وأمسك المجرفة وضغطها بقدمه ، وقلب التربة مرتين واثنتين وثلاثا وأربعا . رنت المجرفة على شيء صلب ، وتوقفت عن التعمق ، ثم أخذت عيناه تلمحان صندوقا حديديا حاول الإمساك به إلا
أن الصندوق غار في الأرض أكثر ، وواصل التغور ، فسمع بيتر وراءه ضحكة تشبه فحة الأفعى ! قالت الساحرة : لا . لن تنال الذهب حتى تريق دم إنسان !
وقدمت إليه طفلا في السادسة مغطى بقماشة بيضاء ، وأشارت إليه بعلامة تعني وجوب قطع رأسه . صدم بيتر
فمن العبث حقا أن تقطع رأس إنسان أو حتى طفل بريء لأي سبب كان ، فنزع غاضبا القماشة التي تغطي رأس
الضحية . وانظر ما حدث عقب ذلك ! وقف أمامه إيفاس ! ثم إن الطفل المسكين شكل هيئة صليب بيديه الصغيرتين وأحنى رأسه فانقض بيتر على الساحرة بالسكين مثل مجنون ، وكاد يمسك بها فزمجر باسافريوك
: بم وعدت الفتاة ؟ ! وانقض على ظهر بيتر في سرعة الرصاصة ، ودقت الساحرة الأرض بقدمها ، فلمعت من الأرض شعلة أنارت باطنها ، فغدت شفافة كأنها صيغت من البلور ، وغدا كل ما بداخلها مرئيا كأنه في راحة اليد . كانت دوكيات ذهبية وحجارة كريمة في صناديق وأوعية تتكدس أكواما تحت ذات الرقعة التي يقفون فوقها .
برقت عينا بيتر واختل عقله ، فأمسك السكين مثل مجنون ، وانبثق الدم البريء صوب عينيه ودوت ضحكة من كل الجوانب حوله ، ومرت به سريعة قطعان من وحوش شائهة الأشكال ، وغرزت الساحرة يديها في الجسد المقطوع الرأس مثل ذئب وشربت دمه . دار رأس بيتر فجمع كل قواه واندفع يعدو . احمر كل شيء أمامه .
بدت له الأشجار غميسة في الدم ، بدت متقدة تتوجع ، وتوهجت السماء وتوعدت ، وتلامعت أمامه نقط متقدة
كأنها البرق ، واندفع في كوخه البائس وقد أطبق عليه الإنهاك ووقع فوق الأرض شبيه خشبة ، وغلبه نوم مثيل الموت . نام يومين وليلتين دون صحوة واحدة . وعندما صحا ثالث يوم أطال النظر في زوايا كوخه وحاول دون جدوى تذكر ما حدث . كانت ذاكرته مثل جيب البخيل لايمكنك أن تسحب منه ولو ربع كوبك . وتمدد فسمع شيئا
يلطم قدميه ، ونظر فرأى كيس ذهب ، وتذكر عندها فحسب كأنما في حلم أنه كان ينقب عن كنز ، وأن شيئا ذعره
في الغابة ، ولكنه لم يستطع البتة أن يعرف بأي ثمن حصل على الكنز ولا كيف كان ذلك . رأى كورزة كيس الذهب فقرت نفسه وقال : بيتر إنسان رائع . إنسان لا نظير له . نعم . ثم ألم أحبه ؟ ! ألم يكن لي بمثابة ابني ؟ !
وردد العجوز ذلك الكلام حتى بكى ، وأخذت بيدوركا تخبر بيتر كيف أن غجرا عابري سبيل سرقوا إيفاس ، فلم
يستطع حتى تذكره . لقد أصاب تأثير الشيطان عقله بهذه الدرجة الكبيرة من الإظلام ، ولم يكن ثمة موجب لتأخير زواجهما فطرد البولندي وهيئت وليمة الزفاف فخبزت الأرغفة وطرزت المناشف والمناديل وأجلس
الشبان عند الخوان وقطع رغيف الزفاف ورنت القياثير والصنجات والمزامير والكمانات وعمت البهجة .
الزفاف في الأزمنة الغابرة لا يشبه الزفاف في أيامنا . واعتادت عمة جدي أن تصف كيف كانت الفتيات يرقصن
رقصة الغورليتز منسابات مثل الطواويس وعنيفات مثل الزوبعة وهن يلبسن أغطية الرأس الخاصة بحفل
الزفاف بأشرطتها الصفر والزرق والوردية لافات حول كل غطاء ضفيرة ذهبية ، ومتزينات بأكسية رقيقة
تملأ صدور القمصان المفتوحة ، مطرزة الحواشي بالحرير بالأحمر ، نثرت عليها حياكةً أزاهير فضية
صغيرة ، ومنتعلات أحذية مغربية ذات عقب حديدي عال ، وكيف كان الشبان يتقدمون واحدا واحدا واضعين
أيديهم على خصورهم في هيئة فخيمة ويؤدون رقصة الجوباك ، وفوق رؤوسهم قبعاتهم التي تشبه السفينة ،
وتيجان من القصب المذهب ، ويبرز من كل تاج قرنان واحد في المقدمة وواحد في المؤخرة ، وكل القرون
مصنوعة من أجود جلود الخرفان السوداء . ويلبس الشبان في تلك الرقصة سترات من أفخر أصناف الحرير
الأزرق ذات أهداب حمر ، وكيف كان الصبيان يمرحون أمام الشبان ، ويقولون كلاما لا معنى له وهم يلبسون
قبعات قوزاقية طويلة وسترات طويلة من القماش الخفيف ، ويتحزمون بأحزمة مطرزة بالفضة ومزاميرهم
القصيرة بين أسنانهم ، حتى كورزة لم يمنع نفسه من المرح في شيخوخته وهو يرى الشبان في مرحهم ،
فأدى ذو اللحية الشيباء الرقصة القومية وسط صيحات المرحين والقيثارة في يده نافخا في مزماره حينا
ومغنيا حينا آخر وكأس الخمر فوق رأسه . ما الذي لا يبتدعه الناس عندما يكون مزاجهم مرحا ؟ بل إنهم راحوا يخفون وجوههم حتى إنهم لم يظهروا مثل مخلوقات آدمية . وفي تلك المناسبات قد يلبس أحد الأشخاص لبس يهودي والآخر لبس شيطان ، ويبدأ الاثنان بتقبيل بعضهما ويختمان بالإمساك بشعر بعضهما . كان الله في عونهما ! إنك تضحك حتى تمسك جنبك . ولبسوا ملابس تركية وتترية توهجت كلها عليهم شبيه حريق ضخم ،
ثم طفقوا ينكتون ويرسلون المزحات . وحدث شيء مسل لعمة جدي التي حضرت حفل الزفاف : كانت تلبس فستانا تتريا فضفاضا وتحمل في يدها كأس خمر وتمتع الجميع . وحرض الشيطان أحد الرجال لسكب الفودكا عليها من وراء . وقام آخر في نفس اللحظة قاصدا عامدا بإشعال نار وإلصاقها بها ، فاشتعل اللهب ، فخلعت عمتي المسكينة فستانها مرتاعة على مشهدة منهم جميعا ، فانطلقت الصيحات والمضاحك والممازح مثلما في سوق . وبإيجاز : ليس في طوق قدامى الناس استذكار زفاف في مرح ذياك الزفاف . شرعت بيدوركا وبيتر يعيشان عيشة سيد وسيدة . كانت وفرة من كل شيء ، وكان كل شيء رائعا ، ولكن شرفاء الناس هزوا برؤوسهم
حين لاحظوا أسلوب معاشهما ، وأجمعوا على أنه " لا خير يأتي من الشيطان " ، ومن أين جاءت هذه الثروة إلا
من طريق مغوي الناس الأورثو ذكسيين ؟ ! ومن أي مكان حصل على كل هذا الذهب الجميم ؟ ! ولماذا اختفى باسافريوك كأنما في أثير شفيف في نفس اليوم الذي أثرى فيه بيتر ؟ ! قل إن قدرت إن الناس إنما يتخيلون الأشياء ! ولكن ما كاد ينقضي شهر حتى ما عاد أحد يتعرف بيتر . جلس في مكان واحد لا يقول كلمة لأي إنسان
، وكان لا يكف عن التفكير ، ويبدو عليه أنه يحاول تذكر أمر ما . وبدا ناسيا نفسه حين نجحت بيدوركا في دفعه
للكلام ، وبدا ميالا لمتابعته بل بدا أنه يزداد بهجة إلا أنه كان يصيح : " كفى ! كفى ! نسيت " إذا نظر عفوا إلى
كيس الذهب ، ويستغرق ثانية في التأمل ، ويعود يجاهد لتذكر أمر ما . وكان يبدو له أحيانا إذا ما جلس ساكنا
في مكان واحد أن ذلك الشيء يعود _ يعود فحسب _ إلى ذهنه إلا أنه كان يتلاشى ثانية . وبدا له كأنه كان يجلس في الحانة وأنهم قدموا له فودكا وأنها لذعت لسانه وأنه عافها . وبدا له أن شخصا أسرع إليه وضربه على كتفه إلا أن كل شيء سوى ذلك كان يلفه الظلام أمام ناظريه. وكان العرق يسيل على وجهه ويجلس في نفس المكان منهك القوة . ترى ما الذي لم تفعله بيدوركا من أجله ؟ استشارت السواحر فأثرن الخوف وأحدثن وجع المعدة
، ولكن دون نفع . وهكذا تقضى الصيف وحصد الكثير من القوزاق وجنوا وانطلق القوزاق الأجرأ من سواهم في
حملة ما . وكانت عصائب البط أخذت تحتشد حول المناقع ، ولكن دون أن يتحسن بيتر إبان ذلك أضأل تحسن .
واحمرت الألوان في السهوب ، وتناثرت أكوام الحب مثل قبعات القوزاق هنا وهناك في الحقول . وكان الناس
يلاقون على الطريق الرئيسة العربات موقرات ( مثقلات ) بالأغصان المقطوعة والأخشاب ، وزادت الأرض
تصلبا ونزل عليها الصقيع في بعض البقاع . وكان الثلج طفق ينهمر وغطت أغصان الشجر طبقة جليدية مثل فرو الأرنب . وكان طائر أبي الحناء في أيام الصقيع قد حجل فوق أكداس الثلج شبه نبيل بولندي يغلو في تأنقه
، والتقط حب القمح . ولعب الأولاد بعصي ضخام لعبة الهوكي فوق الجليد بينما انطرح آباؤهم هادئين عند الموقد
ينفثون الدخان بين حين وآخر من غلايينهم المشعلة بين شفاههم ، ويزمجرون بأسلوب عهيد على الصقيع الشديد
أو يتنسمون الهواء ويدرسون الحب في البيدر . وأخيرا أخذ الثلج يذوب وزال الجليد إلا أن بيتر دام على حاله .
وكلما تقضى الوقت زاد مع تقضيه اكتئابا . جلس في الكوخ كأنه مسمر في المكان وكيسا الذهب عند قدميه . وصار ينفر من النظر إلى بيدوركا ، وكان مافتئ يفكر في شيء واحد فحسب ، ما فتئ يحاول تذكر شيء ما
، ويحنق ويسوء خلقه لعجزه عن ذلك . وغالبا ما كان ينهض مهتاجا من مقعده ويومئ عنيفا إلى شيء
ويثبت ناظريه عليه كأنه يرغب في إمساكه . وتحركت شفتاه كأنه يرغب في نبس كلمة تطاول نسيانها ،
لكنه لبث صموتا . وكان الحنق يتملكه فيقضم يديه ويعضهما شبيه امرئ نصف مجنون ، ويكاد في
حنقه ينتزع شعره خصلا إلى أن يثوب إلى نسيانه حين يهدأ مثلما كان من قبل ، ثم يجاهد ثانية لتذكر
الماضي ، فيتملكه الحنق ويتعذب من جديد . أي عقوبة إلهية كانت تلك ؟ ! وكانت بيدوركا لا ميتة ولا حية .
كان مرعبا لها في البدء أن تبقى وحدها معه في الكوخ ، ولكن المسكينة ألفت أساها بمضي الوقت إلا أنه
كان من المستحيل تعرف بيدوركا الأيام الخالية ؛ فلا حمرة خدين ولا ابتسامات . أنحلها الحزن وأبلاها ،
وأفنى البكاء بريق عينيها . ومرة نصحها من أشفق عليها بالذهاب إلى الساحرة المقيمة في وادي الدب
التي تتمتع بشهرة القدرة على إشفاء أي داء في الدنيا ، فعزمت على تجريب هذا العلاج الأخير . وفي النهاية
أغرت هي المرأة العجوز بالقدوم إليها ، وصدف أن كان قدومها في عيد القديس يوحنا المعمدان . كان بيتر
مستلقيا على مقعد طويل فلم يلحظ القادمة الجديدة . نهض بطيئا وتلفت حوله ، وفجأة ارتجف كل طرف في
جسده كأنه في مشنقة ، ووقف شعر رأسه ، وضحك ضحكة أرجفت قلب بيدوركا خوفا . صاح في فرحة
مرعبة : تذكرت ! تذكرت ! ولوح بفأس صغيرة حول رأسه وضرب العجوز بجماع قوته . اخترقت الفأس
الباب المصنوع من خشب البلوط قرابة أربع بوصات فاختفت العجوز ، ووقف وسط الكوخ طفل في السابعة
مغطى بقماشة بيضاء . صرخت بيدوركا : إيفاس ! وجرت نحوه إلا أن الشبح صار مخضبا بالدم من رأسه
حتى قدميه وأضاء سائر الحجرة بنور أحمر . خرجت بيدوركا إلى الطريق مرتاعة إلا أنها رغبت في إعانة
بيتر حين أفاقت قليلا ، ولكن دون فائدة ؛ إذ انوصد الباب وراءها حتى عجزت عن فتحه . جرى الناس إليه وراحوا يدقونه ، ثم اقتحموه كأنهم يتصرفون بعزم رجل واحد . كان الكوخ كله مملوءا دخانا ، وفي وسطه
حيث جلس بيتر كانت كومة رماد ما فتئ الدخان ينبعث منها . ارتمى الناس على الكيسين . كان موجودا عوض
الدوكيات الذهبية قطع خشب فحسب . وقف القوزاق محدقي العيون فاغري الأفواه كأنهم مشدودون إلى الأرض
لا يجرؤون على تحريك شعرة . إلى ذلك الحد أثارت تلك المعجزة الرعب في قلوبهم . لا أذكر ما حدث تاليَ ذلك . حلفت بيدوركا أن تحج فجمعت المال الذي خلفه لها أبوها ، وخلال أيام بدا كأنها ما كانت في القرية . أما أين ذهبت فلا أحد يدري . كانت فضوليات عجائز النسوة يرغبن في إرسالها إلى حيث ذهب بيتر ، بيد أن قوزاقيا من
كييف ذكر أنه رأى في أحد الأديرة راهبة ضوت (نحلت ) حتى غدت محض هيكل عظمي لا تنقطع عن الصلاة ؛ تعرفها زملاؤها القرويون وقالوا إنها بيدوركا ، وذلك من طريق أمارات وهي أن أحدا لم يسمعها تفوه بكلمة ،
وأنها جاءت إلى الدير على قدميها ،وأحضرت معها إطارا لصورة مريم العذراء مرصعا بحجارة فائقة التألق
كلها تبهر عند النظر إليها، ولكن من فضلك ، ليس هذا ختام القصة ؛ ففي اليوم الذي مضى فيه الشيطان ببيتر
ظهر باسافريوك ثانية فهرب منه الجميع . عرفوا أي مخلوق هو . إنه لا يقل عن شيطان اتخذ هيئة إنسان لكشف
الكنوز ، ولأن الكنوز لا تستجيب للأيدي القذرة فقد أغوى الشاب بيتر . وفي ذلك العام نفسه هجر كل الناس أكواخهم الطينية وتجمعوا في قرية ، ولكن حتى تلك القرية خلت من السلام بسبب باسافريوك اللعين . وقالت المرحومة عمة جدي إن باسافريوك كان مغيظا منها بنحو خاص ؛لأنها هجرت حانتها السابقة ، وإنه حاول جاهدا
أن يثأر منها لنفسه . ومرة كان كبراء القرية مجتمعين في الحانة ، وكما يقول المثل كانوا يرتبون أولويتهم حول الخوان الذي يتوسطه خروف صغير مشوي ، الأمر الذي أخجل من ذكره . وثرثروا حول هذا وذاك وسواهما من الموضوعات ، ومنها ما يدور حول مختلف العجائب والغرائب . حسن . رأوا شيئا ! وهو ما كان ليعني ما عناه
لو أن الذي رآه شخص واحد إلا أنهم رأوه كلهم ، وكان ما رأوه هو هذا : رفع الخروف رأسه وغدت عيناه المحدقتان حيتين وبارقتين ، وأشار الشارب الأسود الخشن الذي ظهر برهة إشارة ذات دلالة للحضور . وعرف الجميع حالا ملامح باسافريوك في رأس الخروف ، وحسبت عمة جدي أنه يقارب أن يسألها فودكا . وخطف الوجهاء الأشراف قبعاتهم وهرعوا إلى بيوتهم . ومرة أخرى ، وقبل أن يفرغ رئيس الكنيسة _ الذي كان مولعا
بمحادثة جدي بين حين وآخر أثناء معاقرة الخمر _ من الكأس الثانية ، رأى الكأس تنحني له انحناءة شديدة ، وتقول : ليأخذك الشيطان ! هلم نرسم فوقك إشارة الصليب !
ووقعت نفس المعجزة لنصفه الجميل : كانت بدأت لتوها خلط العجين في صحن ضخم حين هب الصحن فجأة
قائلا : كفى ! كفى ! أين تمضين ؟ ! ووضع ذراعيه على خاصرتيه وراح يتواثب معتزا حول الكوخ ! قد تضحك مما أقول ، ولكن الأمر ما كان مضحكا لأجدادنا . مشى الأب أثاناسي بالماء المقدس في القرية وتعقب الشيطان
في سائر الشوارع بعصاه في غير نفع . وتشكت المرحومة عمة جدي طويلا من أنه ما أن يوافي الظلام حتى
يقدم مخلوق ما ويدق بابها ويخربش على الجدار . حسن . كل شيء يبدو هادئا الآن حيث تقع قريتنا ، ولكنني أذكر منذ زمن ليس قصيا _ كان أبي حيا يومذاك _ كيف أن الإنسان الطيب ما كان يقدر أن يمر بطلول الحانة
التي أدارها جنس خسيس لصالحه حينا مديدا . تدفق الدخان عمودا من المداخن المسودة ، وصعد عاليا في الجو
، ثم انساب في هيئة قبعة مبعثرا فحما متقدا فوق السهب ، وانتحب الشيطان _ لا يجب ذكر ابن كلب _ في أسف
بالغ داخل حجرة ؛ لأن الغربان الفزعة طارت أسرابا من غابة البلوط الدانية ، وحلقت في السماء وحشية النعقات .
* للكاتب الروسي : نيكولاي جوجول
*عن النص الإنجليزي
وسوم: العدد 643