ابنة من ثلج
عاش في سالف الزمان حطاب وزوجته عيشة فقر ، وبلا أبناء . وكان الزوج يقطع الحطب من الغابة ويبيعه في المدينة ليحتال به لعيشته . وزاد حزن الزوجين مع تقدم سنهما لحرمانهما من الأبناء ، واعتادت الزوجة أن تقول لزوجها : كبرنا كثيرا ، من سيعتني بنا ؟!
فيجيبها : لا تقلقي يا شيخة ! الله _ سبحانه _ لن يتخلى عنا . سيعيننا حين يريد .
وقصد يوما الغابة في عز الشتاء لقطع الحطب ، وصاحبته زوجته لتساعده . كان البرد قارسا حتى كاد يجمدهما . قال الحطاب لزوجته : ليس لنا أولاد ، ما رأيك لو صنعنا بنتا صغيرة من الثلج تسلينا وتعزينا ؟!
وراحا يدحرجان كرات الثلج ، وصنعا في وقت قصير " سنيجوروشكا " ؛ فتاة من الثلج بارعة الحسن حتى ليعجز عن وصف حسنها قلم أي كاتب .ونظر إليها الاثنان وتصاعد أساهما !
قالت الزوجة : ألا ليت الله الكريم بعث إلينا صبية تعيننا على أثقال شيخوختنا !
وفكرا في تلك الأمنية تفكيرا عميقا حادا ، وفورا وقعت المعجزة ! نظرا إلى صبيتهما الثلجية ، وحبس ما رأياه أنفاسهما ! رمشت عينا الصبية ، وشع تاج مزين بنفائس الجواهر نارا فوق رأسها ، وكسا منكبيها رداء من قماش مقصب ، والتمع في قدميها حذاء مطرز . لم يصدق المسنان عيونهما ، وانفرجت شفتا سنيجوروشكا الحمراوان عن بخار تنفسها ، وتقدمت خطوة . تسمر المسنان في مكانهما ذاهلين ، وحسبا أنهما في رؤيا منام لا في واقع ملموس ، وتقدمت إليهما سنيجوروشكا وقالت : طاب يومكما أيها الصالحان الباران ! لا تخشياني ! سأكون لكما نعم الابنة ، وبهجة لشيخوختكما . سأشرفكما أبا وأما .
قال الرجل : أتمنى يا ابنتي الحبيبة أن يكون مثلما تشائين . هيا إلى بيتنا يا ابنتنا التي طال شوقنا إليها !
وقاداها من يديها البيضاوين خارجين بها من الغابة . وماس شجر الصنوبر خلال سيرهم يودع سنيجوروشكا ، ويتمنى لها بحفيفه رحلة طيبة وحياة رخية رضية . وبلغا بها كوخهما الخشبي حيث بدأت حياتها فيه بمعاونتهما في أداء الأعمال اليومية المملة . كانت دائمة الاحترام لهما ، ولا تخالفهما في شيء حتى نابهما الشعور بالقصور عن الثناء عليها ، وكانا لا يكفان عن النظر إليها ؛ فلكم كانت فائقة اللطافة تامة الملاحة ، بيد أنها أقلقتهما ! كانت نادرة الكلام لا يفارق الشحوب محياها ، وبدا جسدها خاليا من أي قطرة دم مع أن عينيها كانتا تبرقان شبه نجوم صغار زهر ، أما ابتسامتها ؟! كانت إذا ابتسمت أضاءت الكوخ شبه قطع روبل لامعة . عاش الجميع هذه الحالة شهرا ، وشهرين ، وتوالى الزمن ، وبتواليه أحس المسنان أنهما عاجزان عن السرور بابنتهما _ هبة الله المهداة _ السرور الكافي الذي يودانه . وفي يوم قالت لها المرأة : لم أنت كثيرة الخجل يا ابنتي العزيزة ؟! أنت لا تقابلين أصدقاء ودائمة البقاء معنا نحن الشيخين المسنين ، ولابد أن هذه الحال تسئمك كثيرا . لم لا تخرجين وتلعبين مع لداتك ؟ تريهم نفسك وترينهم . ليس لك أن تنفقي وقتك معنا نحن الشيخين المسنين .
فقالت سنيجوروشكا : ليس لي رغبة في الخروج يا أمي العزيزة . سعيدة في الكوخ .
وما لبث العيد أن حل ، وماجت الشوارع حياة بالمحتفلين الذين يهزجون مبتهجين من مطلع النهار حتى الهزيع الأخير من الليل . وراقبت سنيجوروشكا مواكب المحتفلين المرحين من وراء نافذة الكوخ الصغيرة التي تجمد فوقها الثلج ، وتابعت المراقبة حتى لم تعد مقتدرة على مقاومة الرغبة في مشاركتهم في أفراحهم وأهازيجهم ، فاستجابت لاقتراح المرأة ، ولبست رداءها الصغير وغاصت في الشارع منضمة للصخب الطروب الموار . وكانت تعيش في نفس القرية فتاة اسمها كوبافا ، وكانت الحسن خالصا : شعر في سواد جناح غراب زاغٍ ، وبشرة في لون مزيج الدم والحليب ، وحاجبان مقوسان أنيقان . وفي يوم جاز بالقرية تاجر ثري اسمه ميزجير ، شاب فارع ، ورأى كوبافا فسرته . ولم تكن كوبافا من ذوات الحياء ، كانت جريئة لعوبا ، لم يسبق أن تأبت على دعوة للتنزة مع شاب . وتلبث التاجر في القرية ، واستدعى كل فتياتها ، ووهبهن جوزا وخبزا بالتوابل ، وراقص كوبافا . ولم يبارح القرية من تلك اللحظة ، ويتوجب القول إنه صار عاشقا مستهاما لكوبافا . وكانت ، هي حسناء القرية ، تجوب أنحاءها في ثيابها المخملية الناعمة والحريرية اللامعة ، وتعاطي الشباب والشواب ما لذ من الشراب ، وتحيا حياتها البهجة المرحة . والتقت سنيجوروشكا بكوبافا في أول يوم تنزهت فيه ، وقدمت إليها كوبافا أصدقاءها من الجنسين ، ومن ذلك اليوم كثر خروجها ، وراق لها راع شاب اسمه لِل ، وراقته هي أيضا ، وباتا لا يفترقان . وكلما خرجت الغيد للنزه والغناء سارع إلى كوخها ودق نافذته قائلا : حبيبتي سنيجوروشكا ! تعالي شاركيني الرقص !
وإذا خرجت لا يفارقها أبدا . وفي يوم حضر ميزجير إلى القرية وقت رقص الفتيات في الشارع ، فاشترك فيه مع كوبافا ، وأضحك جمع الفتيات ، ولمح سنيجوروشكا فاستهوته . كانت شاحبة كثيرا وحلوة رقيقة كثيرا . ومن تلك اللحظة تبدت كوبافا في عينيه سمراء كثيرا ، وبدينة كثيرا ، فنفر منها ، وسرعان ما انفجرت المشاجرات بينهما بعد انصرافه عن الاهتمام بها . وفي النهاية أضحت مهجورة مجفوة ، وما عساها تفعل ؟! ما من أحد بقادر على صنع سعادته بالقوة أو بعث ماضيه السعيد . ولاحظت ان ميزجير يكثر التردد على القرية ، والذهاب إلى والدي سنيجوروشكا ، وطارت شائعة تقول إنه طلب يدها من والديها ، ولما علمت كوبافا هذا ارتجف قلبها ، وهرولت إلى كوخ سنيجوروشكا ، ووبختها وأهانتها ، ونعتتها بالأفعى السامة ، والخائنة الغادرة ، وصنعت مشاجرة اضطرت معها الأسرة إلى إجبارها بالقوة على الانصراف ، فصرخت فيهم : "سأذهب إلى القيصر . لن أسكت على هذا العار .ما من شرع يقبل أن يصادق رجل فتاة ، ثم يرميها خرقة تافهة ".
وذهبت فعلا إلى القيصر لطلب مساعدته في مواجهة سنيجوروشكا التي كانت تصر على اتهامها بسرقة حبيبها منها . وكان القيصر بيرندي هو حاكم المملكة ، وكان حاكما صالحا ومن أهل الفضل ، يؤثر الحق ويرعى شئون سائر رعيته أحسن رعاية ، فأصغى إلى شكاة كوبافا ، ثم أمر بمثول سنيجوروشكا بين يديه . وجاء رسله إلى القرية حاملين أمره بحضورها إليه . يقول الأمر : " يا معشر رعية القيصر الكرام ! اسمعوا وعوا وأخبروني أين تقيم سنيجوروشكا . إن القيصر يستقدمها إليه ، فلتبادر بإعداد نفسها للسفر ! وإن لم تأتِ طوعا أخذناها إليه كرها ! " . وفاض قلب الحطابين العجوزين رعبا ، لكن أمر القيصر قانون مطاع ، فساعدا سنيجوروشكا على تجهيز نفسها ، واعتزما مصاحبتها لتقديمها إليه . وكان القيصر يعيش في قصر فخم حيطانه من سميك خشب السنديان ، وأبوابه من مجدول الحديد ، وله سلم كبير يؤدي إلى قاعات كبرى فرشت أرضياتها بالسجاد المصنوع في بخارى ، ويقف في مداخل القصر حراس في قفاطين قرمزية رافعين فئوسا بارقة ، وتغص ساحة القصر الوسيعة بالناس . وما أن دخل المسنان القصر الفخم مع سنيجوروشكا حتى توقف ثلاثتهم منبهرين : كانت الرسوم تزين السقوف والأقواس ، والأطباق النفيسة مصفوفة فوق الأرفف ، وصفت جنب الحيطان مقاعد مستطيلة كسيت سجادا وقماشا مطرزا ، ويجلس فوق تلك المقاعد غلمان للخدمة يعتمرون قبعات طويلة من فراء الدببة ، موشاة الأهداب بالذهب ، والموسيقيون يعزفون ألحانهم المعقدة على آلاتهم وطبولهم . وكان القيصر يجلس في آخر القاعة فوق عرشه المذهب الذي نحتت زخارفه نحتا ، ويقف حوله الحراس في قفاطين كأنها الثلج بياضا شاهرين فئوسا من فضة . وكانت لحية القيصر البيضاء تصل حتى حزامه ، وقبعته الفرائية أطول القبعات ، وقفطانه المصنوع من نفيس القماش مطرز تطريزا كاملا بالجواهر والذهب . وارتاعت سنيجوروشكا ولم تجرؤ على أن تتقدم نحوه أو ترفع إليه عينيها ، فقال لها : تعالي أيتها الشابة ! اقتربي يا سنيجوروشكا اللطيفة ! لا تخافي ! أجيبي عن أسئلتي : هل اقترفت خطيئة التفرقة بين حبيبين بسرقة قلب حبيب كوبافا ؟! هل غازلته ؟! وهل في نيتك الزواج منه ؟! احرصي على قول الحقيقة لي !
فاقتربت منه ، وانحنت إجلالا له ، ثم ركعت أمامه ، وقالت الحقيقة التي أرادها . قالت إنها لم تأثم جسدا ولا روحا ‘ وإنه من الحق أن التاجر ميزجير طلب يدها للزواج ، لكنها لم ترتح لفكرة الزواج منه ، فرفضته .
فأذن لها القيصر بالانصراف مع والديها . وعلمت كوبان قراره ، فهاجت حزنا ، وقدت ثيابها ، وقطعت عقد اللؤلؤ الذي يحلي جيدها ، وهربت من بيتها ، وقذفت نفسها في بئر . ومنذئذ تضاعف حزن سنيجوروشكا ، وانقطعت عن الذهاب إلى الشارع للتجول فيه حتى حين يرتجي منها لل ذلك . وآب الربيع حينئذ ، وزاد ظهور الشمس الرائعة ، وذاب الثلج ، ونجم العشب غضا ناعما ، واخضرت الشجيرات ، وصدحت الطير بألحانها ، وابتنت أعشاشها . وكلما ازدادت الشمس إشراقا ازدادت سنيجوروشكا شحوب وجه وحزن قلب ، وذات ربيع سني بهي ، جاء لل إلى نافذتها لصغيرة ، وتوسل إليها لتخرج معه ولو مرة واحدة للحظة واحدة ، فتمنعت طويلا على الاستجابة ، وفي النهاية لم يستطع قلبها مقاومة توسلاته ، فقصدت معه طرف القرية . وهناك قالت له : حبيبي لل ! اعزف لي وحدي على نايك !
ووقفت أمامه بين الحياة والموت تحس رسيس وخز خفيف في ساقيها وقد خلا وجهها الشاحب من أيما قطرة دم .
وأخرج هو نايه ، وطفق يعزف لحنها الأثير ، فأصغت والدموع تسيل على خديها ، ثم ذابت ساقاها ، وهوت في التربة المبتلة واختفت ، ولم ير لل إلا غماما رقيقا ينبعث من مهواها ، وتابع الغمام تعاليه حتى اختفى بطيئا في السماء الصافية .
*من القصص الشعبي الروسي .
وسوم: العدد 652