الحب
كان على الغداء فطائر شهية ، وسمك من نوع جراد البحر ، وشرائح من لحم الضأن . وحضر الطباخ نيكانور ليسأل الزوار ماذا يحبون أن يقدم لهم على العشاء . كان الطباخ رجلا ربعة ، منتفخ الوجه ، صغير العينين ، وبدا حديث الحلاقة ، وإن لاح أنه لم يحلق شاربه ، بل انتزع شعره من جذوره . وأخبرنا ألين أن الحلوة بيلاجيا تعشق هذا الطباخ إلا أنها لم تشأ الزواج منه لشربه الخمر ، ولعنف شخصيته ، وإن رغبت في العيش معه دون زواج ، لكنه كان كبير التقوى ، ولا تسمح له قناعاته الدينية ب " العيش في الفاحشة " ، فأصر على أن تتزوجه ، وبين لها أنه لن يقبل بسوى الزواج بدلا . وألف إذا شرب الخمر أن يهينها ، بل أن يضربها ، ومن ثم كانت إذا شرب وسكر تختفي في الطابق الفوقي من البيت ، وتروح تنتحب ، وفي مثل هذه الحالة كان ألين والخدم يتلبثون في البيت جاهزين لوقايتها منه عند الضرورة . ورحنا يوما نتحدث عن الحب . قال ألين : " كيف يتولد الحب ؟! لم لا تحب بيلاجيا شخصا أكثر شبها بها في مزاياها النفسية وصفاتها الجسدية ؟! لم أحبت نيكانور ذلك الفِنْطيسة الدميم _ وكنا كلنا نسميه " فنطيسة " _ ؟! وما أكثر الأسئلة التي تبعث حول السعادة الشخصية في الحب او حول تبعاته ! ومع ذلك فكل ما هو معروف عنه أن كل إنسان يحب أن يرى فيه ما يحب أن يراه ، وحتى الآن لم تقل إلا حقيقة واحدة عنه لا جدال فيها ، وهي أنه " سر جليل "، وكل ما سوى ذلك مما كتب عنه أو قيل فيه لم يكن نهاية الأمر في شأنه . وشرح فحواه الذي يناسب حالة من حالاته تجده لا يناسب عشرات حالاته الأخرى . والأحسن في رأيي أن نشرح كل حالة منفردة دون أن نحاول التعميم ، يجب ، مثلما يقول الأطباء ، ان نشخص كل حالة منفردة بذاتها ... " ،
فأمن بوركن على ما قاله ألين : بالضبط .
فتابع : " ونحن _ معاشر الروس _ من الطبقة المتعلمة ننحاز إلى الأسئلة التي لم تجد لها إجابة حتى الآن ، وعادة ما يضفي الناس على الحب سمة شعرية ، ويحلونه بالورود والبلابل ، وإننا _ معاشر الروس _ نحلي حبنا بتلك الأسئلة ذات الزخم ، كما نختار أكثرها إملالا وإسآما للنفس . وكان لي في موسكو ، حين كنت طالبا ، صديقة فاتنة الحسن ، قاسمتني حياتي ، وكانت كلما احتضنتها تسأل عن المبلغ الذي أنوي دفعه لها شهريا أجرا لإدارتها شئون البيت ، وعن ثمن الرطل من لحم البقر . ويحدث معنا نفس الشيء حين نحب ، فترانا لا نمل من سؤال أنفسنا : هل الحب يشرف صاحبه أم يخزيه ؟! هل هو معقول أم أنه ضرب من ضروب الحماقة والطيش ؟! وإلام سيقودنا ؟! وما إلى هذا من الأسئلة . ولا أدري أهذه الأسئلة خير أم شر ، وإن كنت أدري أنها مسخطة للنفس ، وباعثة للضيق والكدر " . ولاح لنا أنه يريد أن يحكي قصة ، والناس الذين يعيشون حياتهم متوحدين دائما في قلوبهم شيء يتوقون للحديث عنه . وفي المدينة تجد العزاب يزورون الحمامات والمطاعم بغرض الحديث للناس فيها ،وأحيانا يحدثون المرافقين والنُدْل بأشياء مدهشة ومثيرة .والقاعدة في الريف أن العزاب يبوحون بمكنوناتهم إلى ضِيفانهم ، وفي وسعنا أن نرى الآن من نافذة المنزل سماء مغيمة ، وشجرا بلله القطر ، وليس في وسعنا الذهاب في هذا الجو الشاتي إلى أي مكان ، والممكن الوحيد لنا أن نحكي القصص ونستمع إليها .
وبدأ ألين يقول : " عشت في سوفينو ، واشتغلت طويلا في الزراعة بعد الجامعة ، وأنا الآن سيد عاطل عن العمل بصفتي متعلما ، ومثابر ميلا ومزاجا ، وحين قدمت إلى هذا البيت كان على المزرعة دين كبير ، ولما كان أبي مدينا للناس ؛ لأنه ، وهذه علة جزئية لدينه ، أنفق كثيرا من المال على تعليمي ، لذلك عزمت على ألا أبتعد عن المزرعة ، وأن أعمل فيها حتى أسد الدين ، ولكن ، وهذا ما يجب أن أقر به ، ليس دون بعض المقت والاشمئزاز من ذلك العمل . والأرض هنا لا تغل الكثير ، وإذا لم يشأ الإنسان أن يزرع بخسارة فعليه استخدام أقنان الأرض أو أجراء العمال ، والأمران سيان ، أو يعهد بها إلى فلاحين يفلحونها بأنفسهم أو مع أسرهم ، ولا مكان للوسطية في هذه المسألة إلا أنني في هاتيك الأيام لم ألجأ لتلك السبل ، والواقع أنني لم أترك تربة في الأرض دون أن أقلبها ، فحشدت الفلاحين رجالا ونساء من القرى المصاقبة للمزرعة ، وسار العمل بخطا كبيرة جدا ، فحرثت شخصيا الأرض ، وبذرت البذور ، وحصدت المحصول ، وضاق صدري من كل ذلك ، وتجهم وجهي منه استقزازا ونفورا شبه قط قروي يدفعه سغبه إلى أكل الخيار في حديقة المطبخ . وتوجع جسدي من العمل المرهق ، ونمت ماشيا . وبدا لي في مطلع الأمر أنني ربما أوفق بيسر بين حياة الكدح هذه وبين عاداتي كإنسان مثقف . وظننت أن كل ما يلزمني لبلوغ هذا التوفيق هو الحفاظ ظاهريا في حياتي على نظام معين ، فأقمت هنا في هذا الدور الفوقي في أفخم الحجر ، وأمرتهم بأن يحضروا لي القهوة والخمرة تلو الغداء والعشاء ، وإذا ذهبت إلى فراشي قرأت كل ليلة صحيفة "ييسنك إفروبي" . وفي يوم جاء قسنا الأب إيفان وشرب كل خمرتي في قعدة واحدة ، وذهبت "ييسنك إفروبي إلى بناته" . وفي الصيف ، خاصة وقت التتبين ، أخفقت في الذهاب إلى منامي البتة ، ونمت على النورج في البيدر ، أو في أي موضع في مسكن حارس الغابة ، فأي نهزة للقراءة متاحة في هذا الجو ؟! وحالا بعد حال هبطت إلى الدور الأدنى ، وأخذت أتعشى في مطبخ الخدم ، ولم يبق من حياة رفاهي السالفة سوى الخدم الذين كانوا يخدمون والدي ، وكان صرفهم من الخدمة مؤلما للنفس لو فعلته . وانتخبت هنا في السنوات الأولى عضو عدالة شرفية للسلام ، واعتدت الذهاب إلى المدينة للمشاركة في دورات انعقاد المؤتمر والمحكمة الدورية ، وكان كل ذلك تبدلا مبهجا في حياتي . فحين تعيش هنا شهرا أو شهرين دون انقطاع ، خاصة في الشتاء ، تشعر بالحنين الطاغي إلى سترة سوداء ، وكان في المحكمة إذ تنعقد دورتها بدلات فراك وأزياء وسترات أيضا ، وكل المحامين الذين تلقوا تعليما عاما . صار عندي الآن من يمكنني أن أتحدث إليه . ويا لها من رفاهة كبيرة أن تقعد في كرسي له ذراع ، ونظيف الكسوة ، وتنتعل حذاء ناعما ، وتضع على خصرك سلسلة بعد أن كنت تنام على النورج ، وتتعشى في المطبخ ! لقيت استقبالا حارا في المدينة ، وكونت صداقات متحمسا حماسة بالغة ، وكانت أكثر صداقاتي حميمية ودفئا ، وأشدها استحسانا في نفسي ، وأقول الحق ، هي صداقتي للوجانوفيتش نائب مدير المحكمة الدورية . تعرفونه كلكم . شخصية آسرة خلابة ، وبدأت صداقتنا عقب قضية إثارة فتنة شهيرة تواصل فيه تحقيقنا الأولي يومين كاملين لقينا فيهما اللغوب ، ويومها نظر إلي لوجانوفيتش ، وقال : اسمع ! تعال تعش عندي !
كان ذلك مفاجئا لي ، فأنا لم أعرف لوجانوفيتش إلا معرفة قليلة جدا ، معرفة رسمية فحسب ، ولم يسبق أن دعاني إلى بيته . فقصدت حجرتي في الفندق لاستبدال ملابسي ، ثم مضيت إلى العشاء عنده حيث كتب لي حظ لقاء أنا أليكسييفنا زوجة لو جانوفيتش ، وكانت يومئذ في ربيع الشباب ، لا تزيد على اثنين وعشرين عاما ، وقد وضعت طفلها البكر منذ ستة شهور . كل ما ما اقوله الآن أضحى من الماضي ، وإنه ليشق علي أن أحدد الآن ما الذي رأيته استثنائيا متفردا فيها ، وإن كان واضحا لي يومئذ تمام الوضوح : رأيت شابة حلوة ، خيرة ، ذكية ، لم يسلف أن رأيت لها قرينا ، فشعرت في اللحظة أنها قريبة من نفسي ، معروفة لي من قبل . كأن ذلك الوجه ، وتينك العينين الودودين الذكيتين سلف لي أن رأيتها جميعا في الألبوم في أحد أدراج خزانة أمي . وحدث يومئذ أن اتهم أربعة يهود بإهاجة الفتن والقلاقل ، واعتبرتهم السلطة عصابة لصوص ، وهو ما كان اتهاما باطلا في رأيي . وكنت مستهاج النفس على العشاء ، وأشعر بالقلق والانزعاج ، ولا أتذكر الآن ما قلت إلا أن أنا أليكسييفنا لم تقلع عن القول لزوجها : "ديمتري ! أهذا معقول ؟! " . ولوجانوفيتش إنسان كريم الطبع ، واحد من هؤلاء الناس الذين يرون أنه ما أن يتهم إنسان في محكمة حتى يصير جانيا ، وأنه لا مجال لتصحيح حكم بعد صدوره إلا بصيغة قانونية في ورقة ، لا على العشاء وفي حديث خاص .
قال برقة : " أنت وأنا لم نضرم النار في المكان ، وترى أن أحدا لم يُدِنا ، وأننا لسنا في السجن " . " وحاول الزوجان حثي على أن آكل وأشرب أكبر قدر ممكن ، ومن صغار التفاصيل ، ومن طريقة صنعهما القهوة معا ، مثلا ، ومن الطريقة التي كانا يفهمان بها بعضهما بعضا بنصف كلمة ؛ أيقنت أنهما يعيشان في انسجام وارتياح ، وأنهما مسروران بي ضيفا . وبعد العشاء عزفا معا على البيانو ، وغشى الظلام الكون ، فأبت إلى مسكني ، وكان ذلك في مطلع الربيع .
وعقب ذلك قضيت الصيف وافيا في سوفينو دون أن يكون لدي وقت للتفكير في المدينة إلا أن ذكرى المرأة الرشيقة الشقراء الشعر لبثت مهيمنة ماثلة في بالي كل أيام الصيف . لم أفكر فيها فعلا ، إنما بدا كأن ظلها الخفيف كان فوق قلبي . وقدم في آخر خريف ذاك العام عرض مسرحي في المدينة لغرض خيري ، ودخلت جناح محافظ المدينة في المسرح ( دعيت إليه وقت الاستراحة من العرض ) ، ونظرت ! رأيت أنا أليكسييفنا جوار زوجة المحافظ ، فاعتراني ثانية ذلك الانفعال الطاغي بالجمال ، وبتينك العينين الحلوتين الملاطفتين ، وذلك الشعور العهيد بالقرب من أنا . جلسنا متجاورين ، ثم قصدنا بهو المسرح .
قالت : " أراك زدت نحولا ! كنت معلولا ؟! "
_ " نعم . كان عندي روماتزم في كتفي ، وكنت أعجز عن النوم في الجو المطير" .
_ " تبدو منحط الروح . كنت في الربيع ، حين جئت تتعشى عندنا ، أضفى شبابا ، وثقة بالنفس .
كنت مفرط الحماسة ، وأجزلت من الكلام ، وكنت مثيرا للغاية ، ويجب أن أصارحك بأنني ملت إليك بعض الميل ، ولأمر ما كانت ذكراك تعتادني في الصيف ، وقدرت وأنا أتهيأ للقدوم إلى المسرح اليوم أنني سألتقيك " ، وضحكت ، وكررت : " لكنك تبدو اليوم منحط الروح ما يجعلك تبدو أكبر من سنك " .
وتغديت تالي يوم عند آل لوجانوفيتش ، وبعد الغداء ذهبا إلى شقتهما الصيفية لاتخاذ الاحتياطات اللازمة للشتاء ، فذهبت معهم ، ثم رجعت معهم إلى المدينة ، وشربت الشاي معهم في جو عائلي هادىء والنار مضطرمة . وتابعت الأم الشابة التردد على طفلتها للتوثق من نومها . وصرت بعد ذلك أزورهم كلما قصدت المدينة ، فألفوني وألفتهم ، وكانت عادتي أن أذهب إليهم دون مسبق إعلام كأنني واحد من الأسرة . ومن المألوف أن أسمع عندئذ صوتا آتيا من حجرة نائية داخل البيت ، صوتا يبدو لي كثير الحلاوة ، يسأل : " من عندكم ؟! "
فتجيب الخادم أو الحاضن : " هذا بافل قسطانتينوفيتش " ، فتخرج إلي أنا أليكسييفنا قلقة المحيا ، وتسأل في كل مرة أجيء فيها : " لم أطلت بعادك بعد آخر مرة ؟! حدث لك شيء ؟! " ، وكانت عيناها ، ويداها اللطيفتان البضتان اللتان تصافحني بهما ، وتضفيرة شعرها ، وصوتها ، وخطوتها ، كل تلك المؤثرات ، تولد نفس الأثر لشيء جديد وغير مألوف في حياتي ، وبليغ الأهمية . وكنا نتحدث ساعات ، ونصمت ، وينفرد كل واحد منا بخواطره الذاتية ، وتعزف لي ساعات على البيانو . وكنت إذا قدمت ولم أجد أحدا ألبث وأنتظر ، فأتحدث مع الحاضن أو ألاعب الطفلة ، أو أنطرح على الأريكة في المكتب وأقرأ ، فإذا قدمت أنا أليكسييفنا ألاقيها في القاعة ، وآخذ منها كل رزمها ، ولسبب ما ، كنت أحمل تلك الرزم كل مرة بقدر كبير من المحبة والإجلال كأنني صبي . إحدى الحكم تقول إن الفلاحة إذا خلت من الهموم بالاً ابتاعت خنزيرا ، وكان بال آل لوجانوفيتش خليا فصادقوني ، وإذا لم آتِ إلى المدينة فلابد أن داء ألم بي ، أو وقع لي واقع ، فيشتد هم الاثنين علي . وكان يغمهما كوني ، أنا المتعلم المتقن لطائفة من اللغات ، بدل أن أخلص نفسي للعلم أو لنشاط أو أدبي معين ؛ أحيا في الريف ، وأعدو هنا وهناك مثل سنجاب مهتاج ، وأضنى كثيرا دون أن أنال مليما وحيدا . وتخيل الاثنان أنني تعس ، وأنني أتكلم وأضحك ، وآكل لمواراة همومي . وحتى في لحظات مرحي وطربي ، حين كنت أحس بالسعادة ؛ كنت على يقين بأن عيونهما المتسائلة تتركز علي .
*
وكانا أشد ما يكونان تأثرا حين يعتريني اكتئاب حقيقي كأن أكون مهموما من أحد الدائنين ،
أو ليس لدي مال لدفع الفائدة في اليوم المحدد لها ؛ عندئذ يتهامس الاثنان قرب النافذة ، ثم يأتي الزوج إلي ويقول جاد السمات : " إن كنت محتاجا الآن حقا يا بافل قسطانتينوفيتش إلى المال ، فزوجتي وأنا نرجوك ألا تترد في الاقتراض منا " ، ثم يحمر وجهه حتى أذنيه من قوة انفعاله ، ويحدث بعد الهمس بنفس الطريقة قرب النافذة أن يأتي الزوج إلي محمر الأذنين ، ويقول : " زوجتي وأنا نرجوك بقوة أن تقبل منا هذه الهدية " ، ويمنحني بعض الأزرار لزينة الملابس ، أو علبة سجائر ، أو مصباحا ، فأرسل إليهم لحم مصيدٍ ، وزبدة ، وزهورا من الريف ، وبالمناسبة ، كان للاثنين مواردهما المالية الكبيرة الخاصة بهما ، وكثيرا ما اقترضت المال في بكرة أيامي ، ولم يكن يهمني كثيرا ممن أقترض ؛ إذ اقترضت من أي كان وأي مكان إلا أنه ما من شيء في الدنيا أغواني بالاقتراض من آل لوجانو فيتش ، إنما لم أتحدث عن هذا ؟! كنت تعيسا في البيت ، وفي الحقول ، وعلى البيدر ، وفكرت فيها . حاولت استكناه السر الذي يحض شابة حُسانة وذكية على الزواج من شخص يبعث كثيرا على الملل ، وكبير السن تقريبا ( كان فوق الأربعين ) ، فيستولدها أطفالا ، وأيضا حاولت فهم سر هذا الإنسان الممل ، والطيب ، والبسيط الذي يجادلك وقد سيطر عليه شعور طيب يرهقك ، ويمكث في المراقص وحفلات العشيات قرب أكثر الخلق جمودا وتحجرا ، ويبدو واهن الهمة ، ولا ضرورة له ، وفي وجهه انطباعة تدل على الخنوع ، وتبعث على الملل كأنه جلب إلى هذه الأماكن لبيعه ، ومع كل هذه المثالب والمناقص يؤمن بحقه في أن يكون سعيدا ، وأن يستولد تلك المرأة أطفالا. وتابعت السعي لفهم السبب في أنها التقت به أولا وليس بي ، ولم اعتازت تلك الغلطةُ المروعة لأن تحدث في حياتنا ؟! وكنت ألاحظ في عينيها كلما قصدت المدينة أنها كانت تترقبني ، وكانت بدورها تعترف لي أنه كان لديها شعور خاص طوال النهار ، وأنها حدست مجيئي . وكنا عندئذ نسهب في الحديث معا ، ثم نصمت إلا أننا لم نعترف بحبنا لبعضنا بعضا ، كنا نخفيه جبنا وغيرة . كنا نخاف أي شيء يمكن أن يكشف سرنا حتى لنا . أحببتها حبا رقيقا عميقا إلا أنني كنت أفكر ، وأسأل نفسي إلام عساه يقودنا حبنا إذا لم تكن لدينا القوة الكافية للقتال من أجله . وبدا لي أمرا لا يصدق أن حبي الرقيق الحزين يمكن ان ينهي فجأة وبطريقة فظة ، المضمون البسيط لحياة زوجها أو أطفالها ، وكل أفراد البيت الذين أحبنوني ووثقوا بي . أيكون هذا مشرفا ؟! إنها قد تمضي معي ، لكن إلى أين ؟! إلى أين يمكنني المضي بها ؟! كان الأمر سيكون مغايرا لو كانت لي حياة حسنة مثيرة ، لو كنت مثلا أناضل من أجل تحرير الناس في الريف ، أو كنت عالما ذائع الصوت ، أو فنانا أو رساما ، ولكن لما كانت حالي هي حالي فمعنى ذلك أنني سأمضي بها من ملل يومي إلى ملل يومي آخر ، ولعله أسوأ . وكم ستدوم سعادتنا ؟! ماذا سيحدث لها لو سقمت أو مت ؟! أو ببساطة إذا ما شعرنا نحو بعضنا بعضا بالبرود العاطفي ؟! وكان واضحا أنها تفهمت الحال بنفس العقلانية ، ففكرت في زوجها ، وفي طفليها ، وفي أمها التي أحبت زوج ابنتها حب الأم ولدها . فإذا استسلمت لعواطفها تعين عليها أن تكذب ، أو تصدق في قول الحقيقة ، والكذب والصدق في حالتها سيكونان على نفس القدر من السوء والبعد عن جلب الراحة لها . وعذبها التساؤل إن كان حبها لي سيسعدني ، أو أنها ستعقد به حياتي التي كانت ، مثلما هي حالها ، شاقة بما يكفي ، وحافلة بكل ألوان المضنيات المشقيات . وكذلك قدرت أنها لم تكن شابة بما يكفي لتناسبني ، وأنها ليست من المثابرة والطاقة الكافيتين لبدء حياة جديدة معي . وكثيرا ما تحدثت إلى زوجها عن زواجي من فتاة ذكية وذات أهلية وجدارة ، تصلح لأن تكون زوجة مقتدرة ومعينة لي ، وكانت تردف بسرعة قائلة إن من العسير وجدان مثل هذه الفتاة في كل المدينة .
وفي نفس الوقت كانت السنون تمضي ، وصار الآن لأنا أليكسييفنا طفلان ، وكنت إذا ما جئت إلى بيت آل لوجانوفيتش يستقبلني الخدم باسمين في ود ، ويتصايح الطفلان بأن العم بافل قستانتينوفيتش جاء ، ويتعلقان برقبتي . كان كل من في البيت يفيض فرحا لمجيئي ، وكانوا لا يدرون ما الذي يعتمل في روحي ، وحسبوني سعيدا مثلهم ، ونظر كل واحد منهم إلي بوصفي نبيلا ، وحسبوا كبارا وصغارا أن نبيلا يطوف بحجرات منزلهم ، وجعل ذلك الحسبان لأسلوبهم في معاملتي سحرا خاصا كأن وجودي بينهم جعل حياتهم أنقى وأحلى . واعتادت أنا أن تذهب معي إلى المسرح ، وكلما ذهبنا جلسنا جنبا إلى جنب فيه وقد تلامست كتفانا . وكنت آخذ نظارة المسرح من يدها دون كلمة ، فأشعر عندئذ بقربها مني ، وأنها لي ، وأننا لا يمكن أن نعيش دون بعضنا بعضا ، ولكن لسوء فهم ما غريب كنا دائما حين نخرج من المسرح نتبادل كلمات الوداع ، ونتفارق كأننا غريبان لا وديدان مؤتلفان . ويعلم الله وحده ماذا كان الناس في المدينة يقولون عنا ، وإن لم يكن فيه أي كلمة من الحقيقة . ودرجت أنا أليكسييفنا في أخريات سني علاقتنا على زيارة أمها أو أختها بين وقت وآخر ، وبدأت تعاني من انحدار معنوياتها ، وتعترف بأن حياتها فسدت وما عاد فيها ما يرضيها . وأحيانا كانت لا تبالي برؤية زوجها أو طفليها ، وبدأت تعالج من مرض النهك العصبي ، وصرنا نصمت ، وصار صمتنا يدوم . وكشفت عن ضيق مستهجن مني في حضرة الغرباء ، وصارت تخالفني في كل ما أقول ، وإذا ما دخلت مجادلة انتظمت في صف مجادلي ، وإذا ما أوقعت شيئا قالت في برود : " أهنئك ! " ، وإذا نسيت أخذ نظارة المسرح عند الذهاب إليه قالت : " قدرت أنك ستنساها ! " .
ولحسن الحظ أو لسوئه ما من شيء في حياتنا كبشر لا ينتهي عاجلا أو آجلا ، وهكذا حان وقت الفراق عندما عينوا لوجانوفيتش رئيسا لإحدى المقاطعات الغربية ، فكان عليهم أن يبيعوا رياشهم وخيلهم وشقة الصيف . وحين ذهبوا إليها ، وبعد ذلك حين التفتوا إليها ، وهم يبتعدون عنها ، ليلقوا نظرة الوداع على البستان ، وعلى سقفها الأخضر ، شعر كل واحد بالأسى ، وتأكدت أن علي أن لا أودع الشقة مثلهم فحسب . واتخذت الترتيبات لنودع أنا أليكسييفنا في آخر أغسطس عندما تسافر إلى القرم حيث أرسلها الأطباء . وبعد سفرها بقليل كان على لوجانوفيتش أن يسافر مع الطفلين إلى المقاطعة في الغرب . كان جمعنا الذي سيودع أنا جمعا كبيرا ، وبعد أن ودعت زوجها وطفليها ، ولم يبق سوى دقيقة ليدق الجرس إيذانا ببدء السفر ؛ أسرعت إلى مقصورتها في القطار لوضع سلة _نسيتها تقريبا _فوق رف المقصورة ، وهكذا تعين أن أودعها شخصيا ، ففارقنا ثباتنا الروحي حين تلاقت عينانا في المقصورة ، فاحتضنتها ، وضغطت هي وجهها على صدري ، وفاضت دموع عينيها صبابة ووجدا ، وقبلت وجهها وكتفيها ، ويديها اللتين خضبتهما الدموع . آه ! كم كنا تعيسين ! واعترفت بحبها لي ، وتأكدت أنا والألم يكوي قلبي بناره من مدى عبثية وتفاهة وخديعة كل ما منعنا حب بعضنا بعضا ، وأدركت أنك حين تحب يتعين عليك في تفكيرك نحو ذلك الحب أن تبدأ بالأسمى ، بما هو أهم من السعادة أو التعاسة ، ومن الفاحشة أو العفاف في معناهما المقبول ، أو لا يجب أن تفكر البتة . وقبلتها للمرة الأخيرة ، وضغطت يدها ، وتفارقنا للأبد . كان القطار قد ارتحل ، فدخلت المقصورة الثانية . كانت خالية ، فجلست فيها أبكي حتى المحطة التالية ، فنزلت ، ومضيت إلى بيتي في سوفينو " . وأثناء حكاية ألين قصته كف المطر عن الهطول ، وبزغت الشمس ، ومضى بوركين وإيفان إيفانوفيتش إلى الشرفة التي تطل على الحديقة وعلى بركة الطاحونة التي كانت تلمع في الشمس لمعان المرآة . وقد أعجبا بالقصة ، وأسفا أن ذلك الرجل صاحب العينين الدالتين على الطيبة والبراعة الذي حكى لهما هذه القصة بهذا الشعور الصادق الأصيل ؛ تعين عليه أن يطوف بتلك المزرعة الكبيرة مثل سنجاب فوق عجلة بدلا من أن يخلص نفسه للعلم أو لشيء آخر كان من الممكن أن يجعل حياته أحلى وأبهج .
*للكاتب الروسي أنطون تشيخوف (1860 _ 1904) .
وسوم: العدد 751