نوح المحاريب !؟
مسرحية(من واقع مساجد العراق)
المنظر: مسجد من الداخل، وقد تناثرت حاملات المصاحف، وتهدم قسم من المنبر، وتشوهت جدران المحراب بفعل القصف والحرق، ولا يزال الدخان ينبعث منهما!
إظلام شديد، الصمت مطبق.. ضوء يدور في أنحاء المسجد، ينتقل بين المحراب والمنبر في أثناء الحوار..
المنبر: (بصوت منخفض) هل عادوا؟
المحراب: (بصوت مرتجف) مَنْ .. مَنْ ؟!
المنبر: المجرمون الذين فعلوا فعلتهم الشنعاء يوم أمس!
المحراب: لا أظن أنهم يعودون، فقد سمعت واحداً منهم يقول لأحد رفاقه، أسرعوا فأمامنا مساجد كثيرة..
المنبر: إذاً فلنتحدث، وليكن في الحسبان أنهم يعودون للإجهاز علينا..
المحراب: حسبنا الله ونعم الوكيل، من يكون هؤلاء؟
ولماذا يفعلون بنا هذه الأفاعيل؟!!
المنبر: لا أدري، ولكن سمعتهم يصيحون: يا حسين..
المحراب: أفدي الحسين، ووالله ما حزنت على أحد بعد وفاة رسول الله، كما حزنت عليه!
المنبر: أتحبه؟
المحراب: عدد الرمل والحصى والتراب، ووددت أني معه يوم كربلاء، أموت معه.
(يتوجه الضوء إلى عبارة فيضيئها: عليٌ أمير المؤمنين..
المنبر: (يردد) علي أمير المؤمنين..
المحراب: وحبيب المؤمنين، فلا والله ما سمعت مناجاة مثل مناجاته..
المنبر: وإني لأشهد أنني سمعت في هذا المسجد قائلاً يقول: إنه يوم استشهد كان أفضل الأحياء من بني آدم على وجه الأرض!
المحراب: كرّم الله وجه أبي الحسن..
المنبر: أنا لا أعتقد أن من يدمرون المساجد من محبيه..
المحراب: يريدون أن يُلبسوا الأمر على الناس ويشعلوا نار الفتنة..
المنبر: لعله كذلك، ولكنني أعرف أن التتار فعلوا هذا يوم دخلوا بغداد؟!
المحراب: وهؤلاء كذلك يفعلون؟! إنهم يقتلون الخطباء، والأئمة والمؤذنين والمصلين.
المنبر (بصوت رخيم): ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها..
المحراب (يكمل الآية): أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم في الدنيا خِزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم..
المنبر (بصوت رخيم): في بيوت أذن الله أن تُرفع، ويُذكر فيها اسمه يسبح لها فيها بالغدو والآصال، رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
المحراب (متأوهاً) وأين الرجال؟
المنبر (بمرارة): في السجون والمعتقلات!
(صوت قذيفة.. إظلام شديد.. تأوهات)..
المنبر: (في ألم) آه لقد تمزق صدري، ولم أعد أحتمل الوقوف..
المحراب (في لهفة باكية) اصبر قليلاً! فإنني أسمع صوت أذان يأتي من جهة المسجد الأقصى؟!
المنبر (متحاملاً على نفسه) لا... إن آذان المسجد الأقصى تحول دونه حراب يهود؟!
المحراب: إذاً فهو صوت أذان جامع بني أمية؟
المنبر (في إشفاق) كلنا في الهم شرق، لقد أصابه من قبل ما أصابنا، فهو لا يزال معلولاً منذ ذلك اليوم..
المحراب: أيكون صوت أذان...؟!
المنبر (في لهفة): ليته كان يصل!
المحراب: ما أطول هذا الليل! لم أكن أحس بذلك من قبل؟!
المنبر: لأن الركع السجود كانوا يعمرون المساجد!
المحراب: هل يطول هذا الأمر؟ إنها – والله – لحياة قاسية ..
المنبر: حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
المحراب (بصوت مشفق): لقد جعلك الحزن شاعراً؟!
المنبر: إنه بيت من قصيدة طالما رددها الخطباء، وهم يُذكرون ما حلَ بمساجد الأندلس..
المحراب: وهل تحرك الناس لنجدتهم؟
المنبر: أكثر مما تحركوا اليوم، ومع ذلك فقط سقطت الأندلس بحر من الدموع والدماء، وما يزال المسلمون يبكونها!
المحراب: أحمدُ الله أن أحداً ممن فعلوا بمساجد الأندلس ما فعلوه لم يصل إلى بغداد..
المنبر (في غضب): بل وصلوا؟
المحراب (مستفهماً خائفاً): وصلوا؟ كيف؟
المنبر: لا ترفع صوتك فقد يسمعوننا ويرجعون ..
المحراب (هامساً): يا للغزاة والقساة!
المنبر: الغزاة القساة في الأندلس وجدوا من يتعاون معهم على قتل إخوانهم!
المحراب: ونحن؟
المنبر: ومع خسة المتعاونين وذلهم، لم يكن فيهم من يدمر المساجد؟!
المحراب (بحدة): ونحن؟
المنبر: لا يفعل ما نزل بنا عربي ولا مسلم!
المحراب: مَنْ إذاً؟!
المنبر: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون..
المحراب: إنهم يفسدون في الأرض، ويحسبون أنهم مهتدون..
المنبر: وهم كذلك، فإنهم عندما انتصر الإسلام، وأزال ممالك الشرك اتخذوا من سب العرب وغمزهم طريقاً إلى سب الإسلام وتهوين أمره..
المحراب: وكيف؟
المنبر: بتهوين أمر من يحملونه ويبلغونه..
المحراب: وعلماؤنا؟
المنبر: كانوا لهم بالمرصاد، ومع ذلك لا يخلو وجه تاريخنا من خمش أظفارهم.
المحراب: واليوم؟
المنبر (هازئاً): واليوم قلبوا الأمر، فجعلوا من سب الإسلام طريقاً لسب العرب؟!
المحراب (في لهفة): ما العمل؟
المنبر: كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم..
المحراب: وهل تطول هذه الحال؟
المنبر: إن تنصروا الله ينصركم..
المحراب (متألماً) والأمة؟
المنبر: غثاء.. وليتها كانت كذلك، لأن الغثاء قد يجتمع بعضه إلى بعض..
المحراب: ونحن متى نجتمع؟!
المنبر: إذا اهتزت شواطئنا واصطخبت أمواجنا!
(صوت قذيفة تهز أركان المسجد، ينتقل الضوء في أنحائه، ولا يُرى أثر لضرر جديد)
المحراب: هل عادوا؟
المنبر: إنهم يفجرون مسجداً آخر، وقد اختفى صوت مؤذنه؟ أكاد أقول: إنني أعرفه؟
المحراب: إن ما لقيتهُ أنساني حتى صوت مؤذننا؟!
(يرتفع صوت الأذان واضحاً)
المنبر: إنه صوت الأذان في مسجد أبي حنيفة في الأعظمية..
المحراب (في فرح): إذاً لا يزال في بغداد مساجد؟!
المنبر (بقوة): ولن تزول..
(صوت قذيفة تدمر المسجد، وصوت المؤذن يرتفع أكثر فأكثر)..
المنبر والمحراب (يرددون بصوت مجروح مبحوح)..
أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله
وسوم: العدد 757