الخيانة والثمن
(وزير حربية يحاكم وزير دفاع)
مسرحية في مشهد واحد
(يظهر فيه ثلاثة قبور على حافة الطريق ، أصوات مختلطة لحيوانات و آليات ، عدد من ذوي
الرتب يمرون بها و هم منهكون من التعب ، يقفون قرب القبور ، يستعيدون نشاطهم).
الأول: (يتكلم بصعوبة) لولا ذلك الحمار القميء ما وصلت إلى هنا.
الثاني: وأين سيارتك؟
الأول: في الهزيمة لا تنفع الآلة، وخير منها البهيمة.
الثاني: (يلتفت إلى الثالث) أين الرتب التي كانت على كتفيك؟
الثالث: تخلصت منها.
الأول: كيف؟! وهي التي تميزك، وتجعل لك قدراً بين جنودك؟
الثالث: أصبحت في وقت الانسحاب عبئاً علي وقد خشيت أن تكون سبباً لهلاكي!!
الأول: أسألكما - وقد أعرف الجواب - لماذا انسحبتما (ثم يهمس) لماذا هربتما؟!!
الثاني: (وهو زائغ النظرات، تتلعثم الكلمات بين شفتيه هامساً): أما سمعت البلاغ 66، بتوقيع وزير الدفاع؟
الثالث: كنت أظنه تكتيكاً، فانتظرت ساعات ولكن لم أر أحداً من جنود العدو!
الأول: إذا ما الذي دفعك للهروب؟!!
الثالث: الذي دفعك للهزيمة!!
الثاني: لا فائدة من التلاوم، أخشى أن يسمعكما أحد!!
(يتجه الضوء إلى شاهدة القبر، وقد كتب عليها: هذا قبر وزير الحربية السوري يوسف العظمة ولد.. واستشهد على أبواب ميسلون..
الأول: (يشير إلى القبر) لو كان حياً لصفعنا، بل لحاكمنا، و أنزل بنا القصاص!
الثاني: بل هو حي (يهمس) وقد يسمعنا (صوته يتقطع) أليس الشهداء أحياء عند ربهم؟!
الثالث: (بصوت منخفض وهو ينظر إلى القبر)
أقسم إني أحس أنه يتأهب للخروج إلينا ومساءلتنا ...
(يقومم الثلاثة، ويمضون وهم ينظرون خلفهم بحذر)
(فترة صمت...)
(صوت جهوري يهزالمسرح)
يا راقداً في روابي ميسلون أفـِق ْ جَلـَتْ فرنسا وما في الدار هضـّامُ
صوت آخر:
(صمت ... إخفات للنور .. أصوات جلبة ... يسلط الضوء على خمسة جنود يمرون بالقبر، يظهر عليهم التعب والجوع يقعون من شدة الإعياء)
صوت يردد أبياتاً:
هُزم الحاكمون لم يحزن الشعبُ عليهم ولا انتخى الجمهورُ
الأول: كان القصف شديداً في البداية، ومع ذلك تقدمنا مسافة كبيرة في الأرض المحتلة.
الثاني: ليتني كنت قضيت مع بقية زملائي! فبأي وجه أقابل أبي؟
الثالث: ليس في يدنا حيلة، إذا كان القادة قد هربوا! فما نفعل نحن الجنود؟
الرابع: كان علينا أن نموت كما مات إخواننا!!
الخامس: ولكن بلاغ وزير الدفاع كان واضحاً بسقوط القنيطرة!!
الثاني: كيف سقطت؟! فلقد مررنا عليها قادمين من الجبهة، ووجدنا علمنا يرفرف فوق مبانيها؟
الثالث: إذا لم انسحبتم؟
الثاني: لأن الأوامر جاءتنا بالانسحاب الكيفي..
الأول: (يقف خطيباً وقد اشتد عليه الأمر قائلاً) يا رجال! كيف كان الأمر، وكيفما كانت الأوامر فعلينا أن نعود.
الجميع: موافقون.
الثالث: لعلي أعود بالسيارة التي كنت أقودها فهي صالحة للاستعمال، فإن قريتنا بعيدة عن مستشفى المدينة، وأهلها يموتون، ولا يجدون وسيلة للنقل؟
الثاني : بندقيتي لم تزل صالحة للاستعمال، فكيف تركتها؟ كيف؟ كيف؟!
الأول: وأنا أستطيع أن أفجر مستودع الأسلحة إذا لم أستطع نقله إلى مكان آخر، ولن أتركه للعدو.
الرابع: كانت فوضى كبيرة، وأوامر الانسحاب الكيفي هزيمة مرة!! سأعود لإنقاذ بعض رفاقي الجرحى.
الخامس: سأعود لأرفع العلم رمز الكرامة، أو سأرجع به لتسليمه إلى مـَنْ يستطيع رفعه إذا كنا نحن عجزنا عن ذلك.
(يعودون بهمة ونشاط ... صمت ... الإضاءة تتركز على القبر)..
كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)) صوت يردد الآية القرآنية: ((إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون
* * *
صوت جلبة من الجهة المقابلة، و لم يظهر أحد
صوت شخص: قف هنا .. أعرف الطريق إلى بيروت هل أحضرتم كل الأموال؟
آخر: نعم سيدي ... ولم نحمل إلا الذهب والدولار.. صوت
(يطل من طرف المسرح الأيمن وزير الدفاع المهزوم بحذر، والإضاءة تلاحقه وهو يحمل كيساً، يلتفت يميناً ويساراً، فجأة ينطلق صوت قوي
- قف من أنت ؟؟
(يقف الشخص القادم): أ أ أ أ نا (بتلعثم) وزير الدفاع
صوت من خلف القبر: وما هذا الذي معك؟
وزير الدفاع: إنه بعض المال أضعه في مصارف بيروت فهي أكثر أمناً من دمشق..
الصوت من خلف القبر (يرتفع صاحبه إلى منتصف جسمه): إن الذي لا يؤتمن على وطن، لن يجد الأمان في كل الأرض.
وزير الدفاع: ولـَـ و لكن .. لكن من أنت؟ ولماذا توقفني وتعترض طريقي؟؟
الصوت (بقوة واستنكار): من أنا ؟؟!! تسألني!!
أنا يوسف العظمة وزير الحربية السوري
وزير الدفاع: (يتراجع خائفاً، قائلاً بتلعثم) ولكنك قـُـتلت وأنت في عداد الأموات؟!!
وزير الحربية (العظمة) بل أنت من الأموات [بصوت أشد] قل لي: كيف أضعتم الجولان؟
وزير الدفاع: لم تضع نهائياً، ونحن سنحررها في جولة قادمة، وربما سيكون لي قبر إلى جوارك.
العظمة: كلا (بشدة وغضب) بل أمثالك يموتون على فراشهم، وفي مدنهم يدفنون.
وزير الدفاع: ولكن - يا سيدي - لم يستطع العدو احتلال العاصمة، ولا إسقاط النظام!!
العظمة (بقوة): عــبــث
وزير الدفاع: وسنعيد الكرة عليهم.
العظمة: (بقوة أشد): كــذب
وزير الدفاع: وغداً سترى ماذا نفعل؟
العظمة: ستحصدون نتائج ما زرعتم، فتصبحون رؤساء وقادة، لأن العدو يرضى بأمثالكم!
وزير الدفاع: هذا اتهام خطير، لا نقبل به، لقد ضحينا بالجولان على أن تبقى دمشق!
ألا تحب أن تبقى دمشق محررة ليس فيها محتل؟
العظمة: بلى .... ولكن العدو حتى لو دخل العاصمة ووصل إلى تخومها فإن إرادة الرجال سترده كما فعلنا...
وزير الدفاع: ونحن كذلك سنفعل!!
العظمة: ليس صحيحاً! فأنتم حريصون على الحياة، ومثلكم يبحث عن المكاسب والمناصب.
وزير الدفاع (ينظر بشغف إلى الكيس ويتحسسه، ويجيب مستنكراً) هل أنت تعلم الغيب؟؟
العظمة: لا ... فالغيب في علم الله، ولكن أعمالكم تدل عليكم
وزير الدفاع: (مستعطفاً) ألا تعود لنستفيد من خبرتك؟
العظمة: (بقوة) المبادئ تبقى والرجال يموتون
وزير الدفاع: إذا كنت ترفض أن تفيدنا بخبرتك فلماذا تقف في طريقي.
العظمة: لن أقف .. بل سأتركك تعبر إلى بيروت... إلى طهران .... إلى باريس ... إلى
حيث تريد ولكن احذرك أن تعبر من هنا مرة أخرى، (بقوة) اعبر ولا ترني وجهك بعد اليوم.
وزير الدفاع (يمضي) وهو يقول: سأعبر ثم أعود من طريق آخر غير هذا الطريق.
العظمة: صدقت في هذه (بسخرية) لأن طريقنا غير طريقكم، فلن تستطيعوا أن تفعلوا
ما فعلنا.
كـُن وزيراً للدفاع، رئيساً للبلاد، حاكماً يورث أبناءه ولكن لعنة التاريخ والشعب ستلاحقك إلى الأبد..
وزير الدفاع (يتسلل ويمضي): الإنارة تضعف، يختفي العظمة خلف القبر.
وصوته يردد:
كـُـتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرالذيولِ
ستار