أسيد بن حضير
أبطال خالدون: 6
أسيد بن حضير
عبد الله الطنطاوي
الراوي: نحن الآن في مكتبة الشيخ محمود، ننتظر قدوم حفيدي الشيخ، في الموعد المحدّد..
مؤثّر: نقرات على الباب.
أسمع نقرات على الباب.
الجد: تفضّلوا يا أولادي.
مؤثر: صوت فتح باب وإغلاقه.
الحفيدان: السلام عليكم ورحمة الله.
الرجلان: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الجد: تفضّلا بالجلوس يا حفيديّ الغاليين.
مؤثر: صوت كراسي.
أحمد: ترى.. عمّن ستحدّثنا في هذه الليلة يا جدي؟
الجد: سوف أحدثكم عن رجل ورث المكارم كابراً عن كابر.. عن أسيد بن حضير رضي الله عنه.
الجميع: رضي الله عنه.
الجد: كان أبوه حضير الكتائب زعيم قومه، وواحداً من أشراف العرب الكبار في الجاهلية، ومن المقاتلين الأشدّاء.
أحمد: وكذلك كان ابنه أسيد؟
الجد: نعم يا أحمد.. كذلك كان أسيد بن حضير.. كان شريفاً نسباً وواقعاً.. وكان سيّد الأوس، ورجلاً ألمعياً، ذكيّاً، شجاعاً، حتى إنهم كانوا يلقّبونه بالكامل، لكمال صفاته وشمائله.
أحمد: شوّقتنا للحديث عنه يا جدي، فمن هو أسيد بن حضير؟
الجد: اسمه: أسيد بن حضير الأوسيّ.
أحمد: نسبة إلى قبيلة أوس في المدينة المنورة، أليس كذلك يا جدي؟
الجد: بلى يا أحمد، فقد وُلد أسيد في يثرب التي صار اسمها المدينة المنوّرة بعد هجرة النبيّ الكريم إليها.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
فاطمة: متى أسلم يا جدي؟
الجد: لإسلام أسيد قصة جميلة، سوف أرويها لكم.
فاطمة: وأنا أسمع.
أحمد: وأنا أتلهّف لسماع قصة إسلامه.
الجد: ذهب بعض الرجال من الأوس والخزرج إلى الحج، وهناك التقوا رسول الله.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: فعرض النبيُّ الكريم عليهم الإسلام فأسلموا، وبايعوه بيعة العقبة الأولى، ثمّ اصطحبوا معهم مصعب بن عمير الذي اختاره النبيُّ لهم، ليقرئهم القرآن، ويفقّههم في أمور الدين، ويدعو أهل يثرب إلى الإسلام.
الراوي: رحم الله مصعب بن عمير، فقد امتلأ رأسه وصدره علماً، وحكمة، وبصيرة، وإخلاصاً، وصدقاً، وزهداً.. كان قدومه إلى المدينة المنورة مباركاً، نوّر المدينة بأنوار العقيدة السليمة من الخرافات والأساطير، وأنقذ أهلها من الضّلالة والجهالة والظلام، وكانت حياته دعوة مترعة بالآلام والآمال التي كانت أحلاماً، ثم تحققت على يديه المتوضّئتين.
الجد: كان أهل يثرب يتحدثون عن الداعية الحكيم مصعب بن عمير، وكان من هؤلاء المتحدثين، زعيما الأوس: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.. جلسا يتحدثان ويتشاوران في أمر هذا الرجل الغريب مصعب، الذي قدم من مكة، ليستلَّ الناس من دين آبائهم، ويدخلهم في هذا الدين الجديد الذي جاء به محمد بن عبد الله.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: قال سعد بن معاذ لصديقه: أسيد بن حضير:
- ألا ترى ذاك الرجل الغريب القادم من مكة؟
اذهب إليه فازجره، فقد اشتطَّ علينا في ديارنا.
الجد: فأخذ أسيدٌ حربته، وانطلق نحو مصعب.
فاطمة: أعوذ بالله.
مؤثر: وقع أقدام.
أحمد: أين كان مصعب يا جدي؟
الجد: كان مصعب مع أخيه في الإسلام: أسعد بن زُرَارة.. كانا في أحد بساتين المدينة، يدعوان الناس إلى الإسلام، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب:
- هذا سيّد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه. وإن يتَّبعك لا يتخلّف عنك منهم اثنان.
الراوي: اقترب أسيد بن حضير من مصعب، وشاهد جماعة من الناس حوله.. كان مصعب يحدّثهم عن الإسلام، وهم يصغون إليه..
الجد: اقتحم أسيد بن حضير مجلس مصعب، وقد بلغ منه الغضب مبلغاً عظيماً، فاستقبله مصعب بهدوء الواثق من ربّه ومن نفسه، حيّاه ورحّب به، ودعاه إلى الجلوس، وهو يقول له:
"أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيتَ أمراً ورغبتَ فيه، قبلتَه، وإن كرهتَه عزلنا عنك ما تكره".
الراوي: فقال له أسيد: أنصفت.
ثم ركز حربته وجلس، فعرض مصعب عليه الإسلام، وقرأ عليه شيئاً من القرآن.. قرأ عليه قول الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم. حم والكتاب المبين. إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. وإنه في أمِّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم. أفنضرب عنكمُ الذِّكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟ وكم أرسلنا من نبيٍّ في الأوّلين، وما يأتيهم من نبيٍّ إلا كانوا به يستهزئون، فأهلكنا أشدَّ منهم بطشاً، ومضى مَثَلُ الأوّلين) صدق الله العظيم.
الجميع (في تأثر): صدق الله العظيم.
الجد: ولم يكد مصعب ينتهي من تلاوة هذه الآيات البيّنات، حتى هتف أسيد بن حضير:
ما أحسن هذا الكلام وما أجمله!
الراوي: لقد دخل الإسلام قلب أسيد دون استئذان، فسأل مصعباً:
- كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
الجد: فتهلّل وجه مصعب، وتهلّل وجه أخيه أسعد، وتهلّلتْ وجوه الجالسين الذين كانوا ينتظرون ما يكون من شأن أسيد، وقال له مصعب:
- تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق، تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: فقام أسيد فاغتسل، وطهّر ثوبيه، وشهد شهادة الحق.
الجد (في خشوع): أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الراوي: ثم قام أسيد فركع ركعتين، ثم قال لمصعب وصاحبه أسعد ابن زرارة:
- إنّ ورائي رجلاً إن اتّبعكما، لم يتخلّف عنه أحد من قومه، وسوف أرسله إليكما الآن.. إنه سعد بن معاذ.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.
مؤثر: صوت قيام ووقع أقدام.
الراوي: أخذ أسيد حربته، وانصرف إلى سعد بن معاذ وقومه، وهم جلوس في ناديهم.. نظر سعد إلى أسيد، وتفرّس في وجهه ثم قال:
"أحلف بالله.. لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم".
الجد: فلمّا وقف أسيد أمام سعد، سأله سعد: "ما فعلتَ يا أسيد؟".
الراوي: قال أسيد: كلّمتُ الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتُهما فقالا: نفعل ما أحببت.
الجد: ثم قال أسيد لسعد: سمعت أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، لأنهم عرفوا أنه ابن خالتك لِيَحقِروك.
مؤثر: أصوات قيام ووقع أقدام.
الراوي: فانطلق سعد بن معاذ إلى ابن خالته أسعد، وإلى مصعب بن عمير، وسمع منهما مثل ما سمع أسيد بن حضير، وأسلم، وصار من الصحابة الأخيار.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.
أحمد: ما أروعك يا أسيد بن حضير.
فاطمة: وما أروعك يا مصعب بن عمير.
الجد: وعلم الأوس بإسلام سيّدهم سعد بن معاذ، فلم يبق في ذلك اليوم رجل أو امرأة من قومه إلا أسلم..
الحفيدان: الله أكبر..
الجد: كل ذلك بفضل إسلام سعد بن معاذ.
أحمد: هنيئاً لسيّدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه، فالرسول الكريم يقول:
"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس" وقد هدى الله به عشيرته كلّها.
فاطمة: ولكنّ ثواب مصعب أكثر بكثير من ثواب سعد..
الجد: أحبَّ أسيد بن حضير مصعباً رضي الله عنهما حباً شديداً، فكان يجالسه كثيراً، يتعلم منه القرآن العظيم، وأمور الإسلام، حتى إذا كان موسم الحج، ذهب حاجّاً إلى بيت الله تعالى، وهناك تواعد ومن أسلم مع رسول الله.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: تواعدوا على اللقاء في العقبة، وكان ممن بايعوا رسول الله من الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية، ثم عاد أسيد والمسلمون إلى المدينة المنورة، ينتظرون مقدم النبيّ إليهم.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: وبعد هجرة النبيّ الكريم إلى المدينة المنورة، لزمه أسيد رضي الله عنه، يتعلّم منه، ويتملاّه بقلبه وعقله، وببصره وبصيرته، وكان يسجد شكراً لله الذي أنعم على العرب وعلى العالمين بهذا النبيّ الكريم، وبهذا الإسلام العظيم، وما فيه من عدل ونور.
أحمد: عفواً يا جدي..
الجد: تفضل يا أحمد واسأل عمّا تريد.
أحمد: هل كان أسيد بن حضير من النقباء الاثني عشر؟
الجد: نعم يا ولدي، فقد كان سيّد قومه، ومن العقلاء والشجعان، ومن الأشراف الكرماء، فكيف لا يكون نقيباً؟
أحمد: وهل قاتل تحت لواء النبيّ.
الجميع: صلى الله عليه وسلم .
مؤثر: أصوات معركة.
الجد: نعم يا ولدي.. قاتل أسيد تحت لواء الرسول القائد.
الجميع: صلى الله عليه وسلم .
الجد: ونال شرف الصُّحبة، وشرف القتال إلى جانب الرسول القائد في غزوة أحد، وغزوة الأحزاب، وسواهما من المعارك والغزوات التي قاتل فيها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.
الجميع: صلى الله عليه وسلم .
أحمد: ألم يقاتل في غزوة بدر؟
الجد: لا.. لم يحضر غزوة بدر.
أحمد: لماذا؟
الجد: حين عاد الرسول القائد من غزوة بدر منتصراً، لقيه أسيد بن حضير فقال له:
"يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقرّ عينك، والله، يا رسول الله، ما كان تخلّفي عن بدر، وأنا أظنّ أنك تلقى عدوّاً، ولكني ظننتُ أنها العير، ولو ظننتُ أنه عدوٌ ما تخلّفت".
الراوي: فقال له رسول الله
الجميع: صلى الله عليه وسلم .
الراوي: صدقت.
الجد: هذا لأن كثيراً من الصحابة الكرام كانوا يظنّون مثل أسيد بن حضير، ولهذا لم يخرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.. كانوا يظنون أنّ النبيّ خارج لملاقاة القافلة التي يقودها أبو سفيان، وهذه لا تستدعي حشداً ولا قتالاً، ومن خرج مع النبيّ قادرون على احتجاز القافلة ومن فيها من الرجال.
فاطمة: وفي غزوة أحد؟
الراوي: كان أسيد بن حضير في طليعة المقاتلين المغاوير في غزوة أحد.. كان يحمل لواء الأوس، ويقاتل قتال الأبطال، حتى أوجعوا المشركين، وهزموهم، وكادوا يولُّون الأدبار.
أحمد: لولا نزول الرُّماة عن الجبل.
الجد: ولمّا اهتبل المشركون الفرصة، وهاجموا المسلمين من خلفهم، وأعملوا السيوف فيهم، انهزم المسلمون، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت معه أربعة عشر بطلاً، كان أسيد بن حضير واحداً منهم.. كان يدافع عن الرسول القائد، ويقول له:
"وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودَّع".
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الراوي: وقف أسيد بن حضير إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل دونه، وجُرح سبع جراحات، ثبت وثبت مع الرسول القائد ثلاثون بطلاً من أمثال أسيد، وعندما رأى المسلمون ذلك، عادوا إلى القتال، وخشي المشركون أن تدور الدائرة عليهم، فانسحبوا عائدين إلى مكة.
أحمد: سامح الله أولئك الرُّماة.
فاطمة: وقاتل الله الطمع.
أحمد: من هم الصحابة الأبطال الذين ثبتوا مع النبيّ يا جدي؟
الجد: كانوا أربعة عشر، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار. فأما المهاجرون فهم: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعليّ ابن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، وأبو عبيدة بن الجراح.
أحمد: رضي الله عنهم، ومن الأنصار؟
الجد: السبعة الأبطال الذين ثبتوا مع الرسول القائد من الأنصار هم: الحُباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث ابن الصِّمَّة، وسهل بن حُنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
الحفيدان: رضي الله عنهم.
الجد: وهناك ثمانية أبطال بايعوا الرسول القائد على الموت.
أحمد: من هم يا جدي؟
الجد: ثلاثة من المهاجرين، هم: علي، وطلحة، والزبير. وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحارث بن الصِّمِّة، والحُباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حُنيف.
الحفيدان: رضي الله عنهم.
أحمد: هل استشهد أحد منهم؟
الجد: لا.. لم يُستشهد أحد منهم في معركة أحد، ولكنهم جميعاً أُصيبوا بجروح كثيرة.
أحمد: وماذا عن المعارك الأخرى التي خاضها أسيد يا جدي؟
مؤثر: طبول حرب، وأصوات معركة.
الجد: في غزوة تبوك كان يحمل راية الأوس، وفي غزوة المريسيع أثار زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول فتنة بين المسلمين، فتقدّم أسيد من الرسول القائد، واستأذنه في ضرب عنق ابن سلول، فسأله الرسول القائد:
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: سأل النبيُّ أسيداً: أتقتله إن أمرتك بقتله؟
فاطمة: لماذا سأله هذا السؤال؟
الجد: لأن ابن سلول كان زعيم الخزرج، وأسيد من الأوس، وقد كان بين الأوس والخزرج حروب ومشاحنات ودماء، وكان اليهود هم الذين يثيرون الفتن والبغضاء بينهم، وكانوا يحالفون الأوس مرة ضد الخزرج، ومرة يحالفون الخزرج ضد الأوس، ويقدّمون السلاح والأموال لهم ليقتتلوا.
أحمد: ما أخبث اليهود!
فاطمة: ماذا كان جواب أسيد يا جدي؟
الجد: أجاب أسيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حزم صادق:
نعم والله.. لئن أمرتني بقتله، لأضربنّ بالسيف تحت قُرط أذنيه.
أحمد: عظيم أنت يا جدي يا أسيد.
فاطمة: هل سمح النبيّ بقتله؟
الجد: لا لم يسمح لأسيد بقتل ابن سلول.
أحمد: لماذا؟
الجد: لهذا السبب الوجيه.. قال له الرسول القائد:
دعه.. لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
أحمد: الله أكبر.. ما أعظمك يا سيدي يا رسول الله.
فاطمة: وما أبعد نظرك!
أحمد: وما أحكمك.. يا ليت المسلمين يقرؤون سيرتك، ليستفيدوا من حكمتك وشجاعتك وعقلك.
فاطمة: ثم ماذا يا جدي؟
مؤثر: أصوات قافلة.
الجد: وشهد أسيد بن حضير فتح مكة.. وكان الرسول القائد يسير بين أبي بكر وأسيد.. كان النبيّ على ناقته القصواء، وكان أبو بكر يسير على يمينه، وأسيد يسير على يساره.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: وفي غزوة بني المصطلق، أثار المنافقون فتنة الإفك، فذهب أسيد بن حضير إلى الرسول القائد وقال له:
يا رسول الله. إن كان المرجفون الكذابون المفترون من الأوس، فنحن نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج، فأمرنا بما تشاء، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الجد: قال الصحابي الجليل هذا الكلام للرسول القائد
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد (متابعاً): حتى لا تكون فتنة بين المسلمين من الأوس والخزرج، إذا قتل أسيد منافقاً أو أكثر من الخزرج، ومع ذلك، وبعد أن شرح الأمر للرسول القائد، وقف ينتظر أوامره لينفذها.
أحمد: ما أروعك.. ما أعظمك يا سيّد الأوس يا أسيد!
فاطمة: نعم يا جدي.. نريد المزيد.
الجد: جاء أسيد مرة إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ الكريم يقسم الطعام للناس، فذكر له أهل بيت من الأنصار فقراء، وكان أكثر أهل ذلك البيت نساء، فقال له النبيُّ الكريم
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: تركتنا يا أسيد حتى ذهب ما بأيدينا؟!
فاطمة: هل كان النبيّ يوزّع كل ما يأتيه يا جدي؟
الجد: ولا يبقي لنفسه وأهله شيئاً.. كان النبيُّ الكريم يؤثر أصحابه وسائر المسلمين على نفسه.. يوزّع كلّ ما يأتيه من طعام ومال، ويبيت جائعاً هو وأهله، وأحياناً يبقي لهم خبز الشعير.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.
أحمد: هكذا يجب أن يكون القادة والزعماء.
فاطمة: ليت الزعماء يتعلمون من النبيِّ
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: ثم قال لهم النبيّ الكريم عليه السلام: إذا سمعتَ بشيء قد جاءنا، فاذكر لي أهل ذلك البيت.
الجميع: عليه الصلاة والسلام.
الجد: ثم جاء النبيّ الكريم طعام، فقسم منه للناس، ثم قسم للأنصار وأجزل لهم.. أعطاهم كثيراً منه.. وقسم لأهل ذلك البيت وأجزل، فقال أسيد رضي الله عنه شاكراً:
جزاك الله أطيب الجزاء يا رسول الله.
فقال له النبي الكريم الرحيم الحكيم:
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: قال النبي الكريم لأسيد رضي الله عنه: وأنتم يا معشر الأنصار، جزاكم الله أطيب الجزاء، فإنكم أعفّة صُبُرٌ، وسترون بعدي أثرة في الأمر والقَسْم، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.
الراوي: جمعني الله وإياكم على الحوض.
الجميع: آمين..
الراوي: وحجَّ أسيد بن حضير مرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد رجوعهم من الحج، أخبره الناس بوفاة زوجته.
الجميع: رحمها الله تعالى.
الراوي (متابعاً): وكان ذلك قبل دخوله المدينة، فحزن أسيد لوفاتها وبكى، فقالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: غفر الله لك، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولك من السابقة والقدم مالك، وأنت تبكي على امرأة؟
الجد: فقال أسيد: صدقتِ.. ما كان لي أن أبكي على أحد بعد وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه.. ذاك الذي اهتزّ العرش لوفاته.
فاطمة: ما أشدَّ وفاءك يا سيدي أسيد!
الجد: ومن الذكريات الأليمة أنّ أسيد بن حضير ذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير، فتآمر اليهود على النبيّ الكريم، وأرادوا أن يغدروا به، بأن يرموا الحجارة الكبيرة عليه من فوق البيت الجالس تحته ليقتلوه، وقال قائلهم:
- اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك.
ثم خلا بعضهم إلى بعض، وقال لهم زعيمهم الخبيث: حيي بن أخطب:
الراوي: يا معشر يهود.. قد جاءكم محمد في عدد قليل من أصحابه لا يبلغون عشرة، فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته، فلن تجدوا أخلى منه الساعة! فإنه إن قُتل، تفرّق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي مَنْ هاهنا من الأوس والخزرج حلفاؤكم، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوماً من الدهر فمن الآن.
الجد: فقال اليهوديّ الخبيث عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة.
الراوي: فقال سلاّم بن مشكم: يا قوم، أطيعوني هذه المرة، وخالفوني طوال حياتي. والله إن فعلتم ليخبرنّه الله بأنّا قد غدرنا به، وإنّ هذا يعني نقض العهد الذي بيننا وبين محمد، فلا تغدروا، فوالله لو فعلتم الذي تريدون، ليقومنّ بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة، يستأصل اليهود، ويظهر دينه.
الحفيدان: الله أكبر..
أحمد: ما أغدر اليهود! يريدون الغدر بضيوفهم.
فاطمة: وما أخبثهم!
مؤثر: أصوات هسهسة لصّ يصعد السطح.
الجد: فلما هيّأ عمرو بن جحاش الصخرة ليطرحها على النبيّ، وأشرف بها، جاء الخبر من السماء إلى النبيّ الكريم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً كأنه يريد حاجة، وتوجّه إلى المدينة المنورة، وبقي أصحابه جالسين يتحدّثون، وهم يظنون أنه قام يقضي حاجة، فلما طالت غيبته، قال أبو بكر رضي الله عنه:
ما مقامنا هنا بشيء.. لقد وُجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر.
الراوي: فقال زعيم بني النضير حيي بن أخطب بخبث:
- عجّل أبو القاسم.. كنا نريد أن نقضي حاجته ونغدّيه.
أحمد: الخبيث.. يتآمر ويغدر، ثم يظهر البراءة.. يزعم أنه يريد قضاء حاجة النبيّ ويريد أن يطعمه، وهو يخطط لقتله، بإلقاء الصخرة عليه,
الجد: هكذا اليهود.. في الماضي والحاضر.. خبثاء غدّارون.
الراوي: وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صُويْراء:
- قد أُخبر محمد بما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم. والله إنه لرسول الله، وإنه لآخر الأنبياء، فأسلموا مع محمد، تأمنوا على أموالكم وأولادكم، ولا تخرجوا من دياركم.
الجد: فقال له اليهود: لا نفارق التوراة وعهد موسى.
قال كنانة: فإن محمداً سوف يأمركم بالخروج من مدينته، فاسمعوا وأطيعوا واخرجوا، فإنه لا يستحلّ لكم دماً ولا مالاً.
فاطمة: وهل حصل هذا؟
الجد: نعم.. وقرّروا الخروج من المدينة، لولا زعيم المنافقين ابن سلول الذي طلب منهم أن يبقوا في ديارهم، ولا يخافوا، وسيكون معهم إذا حوربوا، ولكنّ الله أخزاه فلم يقاتل معهم عندما غزاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: حاصر الرسول القائد يهود بني النضير خمسة عشر يوماً، ثم أجلاهم عن المدينة المنورة، وخلّصها من شرورهم.
الجد: وقبل أن يخرج اليهود من المدينة، خرّبوا بيوتهم بأيديهم، حتى لا يستفيد منها المسلمون.
مؤثر: ضحك ومزاح.
الراوي: اسمعوا هذه الطّرفة.. كان أسيد بن حضير رضي الله عنه جالساً عند رسول الله
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: كان يحدّث النبيّ وأصحابه، ويضحكهم، فوكزه النبيُّ الكريم في خاصرته، فقال أسيد: أوجعتني يا رسول الله.
فقال له النبي الكريم: اقتصّ مني يا أسيد.
فقال أسيد: إن عليك قميصاً يا رسول الله، ولم يكن عليّ قميص.
فرفع الرسول قميصه، فاحتضنه أسيد، وصار يقبّل كشحه.
الجد: الكشح: هو ما بين الإبط والخاصرة.
الراوي (متابعاً): وقال له: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أردتُ هذا.
أحمد: هنيئاً لك يا سيدي يا أسيد، ما أظرفك!
مؤثر: هرج وأصوات.
الجد: وكان لأسيد بن حضير موقف عظيم في سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمع المهاجرون والأنصار فيها لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد طال الحوار، واحتدم النقاش بين المهاجرين والأنصار، فوقف أسيد وخاطب الأنصار.
الراوي: قال أسيد: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.
الجد: فاستجاب له الأنصار، واختاروا أبا بكر خليفة.
الراوي: وعندما حضرت الوفاة أبا بكر، استشاره أبو بكر في استخلاف عمر بن الخطاب، فوافقه على استخلافه، وقال له: اللهمّ أعلمُه الخَيْرَةَ من بعدك، يرضى للرضى، ويسخط للسَّخَط.. الذي يُسرُّ خيرٌ من الذي يُعلن، ولم يل هذا الأمر أحدٌ أقوى عليه منه.
الجد: وفي شهر شعبان من السنة العشرين للهجرة، مات أسيد بن حضير.. مات صاحب الصوت الخاشع الباهر المنير، الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة، لتستمع إليه وهو يتلو كتاب الله؟.
الراوي: وحمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. حمل نعش أسيد على كتفه، إلى أن واروه الثّرى في البقيع، ثم عادوا إلى المدينة المنورة، وهم يستذكرون مناقب أسيد، ويردّدون قول رسول الله فيه:
"نِعْمَ الرجلُ: أسيدُ بن حضير".
- الختام -