نقود تنتقم!
من المسرح السياسي (3)
نقود تنتقم!
بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير
- 1 -
في منزل سكرتير هيئة الأمم المتحدة بليك ساكسس.
السكرتير: نقود تتكلم! هذه أوهام يا عزيزتي إن لم تطرديها من رأسك فقد تفضي بك إلى ما لا تحمد عقباه.
الزوجة: تعني الجنون.. تظنني ممسوسة العقل.. فأرجعني إذن إلى أهلي بالنرويج فإني لا أطيق البقاء هنا معك!
هو: هل تطوع لك نفسك يا ماري أن تتركيني هنا وحدي؟
هي: ماذا أصنع إذا كنت تكذبني وتتهمني بالخبل والجنون؟
هو: نقود تتكلم وهي محبوسة في خزانة الحديد! هذا غير معقول يا ماري.
هي: أحلف لك بالسيد المسيح وبالعذراء لقد سمعتها بأذنيَّ هاتين.
هو: تتوعد بالانتقام مني؟
هي: نعم.
هو: هبي أن ما سمعته كان صحيحاً فما ذنبي عندها حتى تنتقم مني؟
هي: قلت لك إنها نقود عربية وهي تنوي الانتقام منك لممالأتك للصهيونيين.
هو: وكيف عرفت أنها نقود عربية؟
هي: سمعتها وهي تتحاور فيما بينها يدعو بعضها بعضاً: يا عراقي، يا مصري، يا سوري، يا سعودي، يا لبناني.. أليست هذه أسماء عربية؟
هو: (يضحك) لكي أبرهن لك أن ما سمعته كان وهماً كله.. يكفي أن أذكّرك بأن الخزانة لا تحوي إلا دولارات أمريكية!
هي: يكفى أنها وردت إليك من أيدي العرب.
هو: العرب في الهيئة ست دول فقط من سبع وخمسين دولة، فليس من الجائز أن تكون النقود التي عندي كلها من الدول العربية فأين نقود الدول الأخرى؟ لماذا لا تتكلم؟
هي: لا أدري. لعلها نائمة أو لعلها عجم لا تنطق... فما سمعت إلا النقود العربية.
هو: هذه آية من الغرابة.
هي: ما وجه الغرابة في ذلك؟ إنها تستنكف أن تكون في يدك، وأنت تتحيز ضد أربابها مع الصهيونيين، وكان على سكرتير هيئة الأمم أن يلتزم العدل والحياد.
هو: أراك تتكلمين بلسانها كما لو كنتِ وكيلة لها أو محاسبة!
هي: لقد سمعتها تقول ذلك ولم أزد شيئاً من عندي.
هو: كيف يمكنها أن تنتقم مني وهو محبوسة في الخزانة؟
هي: لا أدري، ولكني سمعتها تتحدث عن جهازك الهضمي وأنها ستصيبه بخلل وتسبب لك إمساكاً شديداً ورياحاً تزعجك ولا تخرج من بطنك.
هو: وتصدقين أنها تقدر على ذلك؟
هي: لم لا؟ إن نقوداً تستطيع أن تتكلم على هذا النحو العجيب لتستطيع أن تنتقم بطريقة من الطرق نجهل كنهها.
هو: قلت لي يوماً إنك سمعتها تذكر هيئة الأمم المتحدة بسوء.. أتذكرين ما قلته؟
هي: نعم أذكر كل شيء قالته كأنه محفور في قلبي.
هو: فأعيدي ذلك علي.
هي: سمعتها تنعت الهيئة بأنها خدعة صهيونية عملت على إنشائها اليهودية العالمية تحت ستار السلام العالمي لتستغل جهود الدول وأموالها في خدمة مآربها الجهنمية، وأنها لا تختلف في ذلك عن هيئة (الأونروا) التي أنشئت باسم إغاثة منكوبي الحرب من جميع الأمم وجمعت الأموال من جميع الدول لهذا الغرض، ثم اتضح بعد ذلك أنها لم تصرف إلا لليهود بقصد ترحيلهم إلى فلسطين، وتبين أن بعض هؤلاء كانوا أغنياء وليسوا بحاجة إلى المساعدة البتة.
هو: عجباً ما أقوى ذاكرتك! هذا عين ما رويته لي من قبل. إلا أنك نسيت شيئاً فيما أظن لم تذكريه.
هي: كلا ما نسيت شيئاً... لقد سمعتها تتعجب من انخداع العرب بهذه الهيئة، وتود لو أنهم ينسحبون منها وينفقون بدل اشتراكهم فيها في تحسين أحوال بلادهم ورفع مستوى معيشة الطبقات المحرومة فيها وليكتفوا بجامعتهم العربية أو فليدعوا إن شاؤوا إلى تكوين هيئة أمم شرقية لا يستحوذ عليها نفوذ اليهود كما يستحوذ على الدول الغربية.. أليس هذا الذي ظننتني قد نسيته؟
هو: بلى يا ماري.. الحق أنني في حيرة من أمرك.
هي: أما أنا فخائفة عليك.
هو: من انتقام هذه النقود؟
هي: بالطبع.
هو: (يتضاحك) ما أطيب قلبك يا عزيزتي. اطمئني فلن يصيبني أي مكروه. إنني قوي الأعصاب ولا تؤثر فيّ مثل هذه الأوهام.
-2-
في مستشفى الأمراض العقلية
السكرتير يزور المستشفى فيقابل كبير أطبائه على انفراد
الطبيب: خذ زوجتك يا سيدي فليس بها شيء.
السكرتير: كلا يا دكتور. لا أقدر أن آخذها من المستشفى وهي بهذه الحالة.
الطبيب: عجباً لك أتريد أن تبقيها هنا لغير سبب!
السكرتير: هل روت لكم قصة الأصوات التي سمعتها من خزانة الحديد؟
الطبيب: نعم روت لنا كل شيء.
السكرتير: وتكون بعد هذا كله سليمة العقل؟
الطبيب: نعم.. هي سليمة العقل قطعاً.
السكرتير: كلا يا دكتور.. لا تقل هذا.
الطبيب: عجباً.. أتريد أن تثبت عليها الجنون بالقوة؟ ألا يسرك أن تكون نتيجة الفحص سلبية؟
السكرتير: بلى يا دكتور، ولكني أخشى إن صدق زعمها أن أصاب أنا بالمرض.
الطبيب: حينئذ نفحصك أنت ونعنى بعلاجك.
السكرتير: كلا.. لن أصاب في عقلي بل في جهازي الهضمي.
الطبيب: حينئذ تعرض نفسك على طبيب باطني ليعالجك. وبعد.. فعلام التفكير في مرض متخيل لم تصب به بعد، ولعله لا يصيبك البتة؟
السكرتير: ما دمتم قد قررتم أن زوجتي سليمة العقل فلا بد أنني سأصاب به.
الطبيب: (ينظر إليه ملياً) أرى من الأفضل أن تتبعني إلى حجرة الكشف.
السكرتير: لأرى زوجتي؟
الطبيب: لا.. بل لأكشف عليك.
السكرتير: (مرتاعاً) كلا يا دكتور. ليس بي شيء مما تظن!
الطبيب: لا أستطيع أن أطمئن إلى ذلك إلا بعد الكشف.
السكرتير: حذار يا دكتور أن يسمع هذا منك أحد فإني سكرتير هيئة الأمم المتحدة كما تعلم، وأخشى أن أفقد منصبي هذا إذا شاع في الناس أنك فحصت قواي العقلية حتى ولو كانت النتيجة سلبية!
الطبيب: اطمئن.. سأكتم هذا السر.
-3-
في منزل السكرتير: السكرتير يتقلب على فراشه متألماً من مغص ورياح تقرقر في بطنه وهو يشكو ويتأوه وعنده زوجته تحاول عبثاً أن تخفف عنه.
هو: أواه! أما لهذا الألم من آخر!.
هي: سيعودك الطبيب الآن فلعله يعطيك علاجاً آخر؟
هو: قبح الله هؤلاء الأطباء! ليس عندهم إلا زيت الخروع!
هي: فقل له حين يجيء إن الزيت لم يجدك شيئاً.
هو: سيأمرني بمضاعفة الكمية كما فعل من قبل، وهو جاهل لا يدري أن الزيت نفسه يحتبس في بطني فيزيد في عذابي.
هي: لكنك قد شربت البارحة قارورة كاملة منه، وما أظن هذه الكمية تحتمل الزيادة.
هو: بل سترين هذا الجاهل يأمرني بمضاعفة الكمية أيضاً.. آه.. أشتهي ريحاً ولو صغيرة تخرج مني فترفه قليلاً عني!
هي: لو استمعت لنصيحتي لكنت في غنى عن هذا الطبيب وغيره.
هو: أوه. ما عندك إلا هذا القول تعيدينه عليّ مرة بعد مرة؟ كيف تريدين مني أنا سكرتير أعظم هيئة دولية أن أؤمن بمثل هذه الخرافة؟
هي: لا تقدر اليوم أن تسميها خرافة بعد ما ظهر أثرها فيك!
هو: (غاضباً) والله ما نكبني بهذا غيرك. نقود تتكلم!! نقود تنتقم! ما زلت تحاربين أعصابي بترديد هذه القصة الوهمية حتى أصابني ما أصابني فهل طابت نفسك الآن وقرت عينك؟.
هي: أتلومني الآن على أني أنذرتك فما استمعت للنذير حتى أصابك ما أصابك؟
هو: نعم. لقد كنت السبب، فلولا نذيرك هذا المشؤوم لما أصابني شيء.
هي: ما ذنبي أنا؟ الخزانة خزانتك والنقود نقودك وهي التي انتقمت منك!
هو: أجل. أكدي لي هذه الخرافة. انفثي سمومها في نفسي حتى يشتد المرض الذي بي. أنت التي تنتقم مني لا النقود!.
هي: أنا أنتقم منك! أتدري ماذا تقول؟
هو: نعم. إن كنت مصاباً ببطني فإن عقلي بخير فأنا أدري ما أقول.
هي: (تغالب غضبها) هل لك أن تخبرني عما عسى أن يدفعني إلى الانتقام منك؟
هو: ما يدريني لعل في عروقك دماً عربياً هو الذي يدفعك إلى ذلك!.
هي: يا لها من تصورات عجيبة!
هو: ليست هذه بأعجب من تصوراتك الوهمية إذ تزعمين أن نقوداً من الورق تتكلم وتنتقم وهي محبوسة في خزانة من حديد!
هي: لقد سمعت ذلك بأذني أفأكذب ما سمعت أذناي؟
هو: لا شك عندي أن هذا الدم العربي الذي يجري في عروقك هو الذي أوحى إليك هذه القصة الوهمية لتحطم أعصابي انتقاماً مني!
هي: عجباً. أوقد صارت قصة الدم العربي حقيقة تؤمن بها وما مضى على اختراعك لها غير دقيقة واحدة؟
هو: لم لا؟ إنك تدافعين دائماً عن العرب وتتحاملين على اليهود.
هي: أنت إذن يهودي الدم لأنك تدافع دائماً عن اليهود.
هو: كلا. أنا لا أدافع عنهم مجاناً!
هي: وأنا لا أدافع عن العرب مجاناً.
هو: (مذعوراً) ما تقولين؟ هل اتصل بك أحد منهم؟
هي: تروَّ في كلامك يا رجل. إنك تعلم أن العرب لا يتبعون في نصر قضيتهم مثل هذه الأساليب اليهودية!
هو: لكنك قلت إنك لا تدافعين عنهم مجاناً.
هي: نعم. لأني أفعل ذلك لمصلحتك أنت ولحفظ سمعتك وكرامتك، وأخيراً لتخليصك من هذه النقمة التي حلت بك. إنك لا تؤمن بالله يا رجل وإلا لأيقنت أن في قدرته سبحانه أن يودع في النقود قوة تنتقم من رجل يخون أمانة أصحابها وهو يعيش من خيرهم!
هو: وأنا أعيش من خير اليهود أيضاً أفلا تخافين أن تنتقم نقودهم مني إذا أنا خنتهم؟ أليس الله قادراً على أن ينفخ في نقودهم أيضاً قوته الخفية؟
هي: أنصحك ألا تذكر الله ساخراً. إن النقود التي تأخذها من اليهود إنما هي رشوة، والله أعدل من أن يظهر فيها آيته.
هو: يا هذه كفى! لقد احتملت منك فوق ما ينبغي أن أحتمل، أما كفاك أن سببت لي هذا المرض حتى توسعيني تعنيفاً وتقريعاً! أنسيت أنني سكرتير أعظم هيئة دولية في العالم وأنك امرأة ساذجة تؤمن بالخرافات والأوهام؟
(يدق جرس الباب الخارجي)
هي: هذا طبيبك قد جاء، ولولاه لأسمعتك ردي (تخرج(
هو: آه. كل شيء يحاربني. حتى زوجتي دسيسة علي! هي السبب في كل ما أصابني. آه! ما هذا الذي يسد بطني سداً كأنه خزانة حديدية ليس لها مفتاح! أما من سبيل إلى ريح صغيرة يرفه خروجها عني؟
)تعود الزوجة ومعها الطبيب)
الطبيب: (يدنو من سرير المريض) لعلك اليوم أحسن حالاً يا مسيو تريجفي لي.
السكرتير: أبقارورة الخروع التي نصحتني بشربها؟ إنها احتبست في بطني فزادته انتفاخاً وقرقرة!
الطبيب: ألم يلن بطنك ولو قليلاً؟
السكرتير: ولا قطرة!
الطبيب: ولا ريح؟
السكرتير: ولا نسمة! ألا تبصر هذا الانتفاخ؟ ألا تسمع هذه القرقرة؟
الطبيب: (يجس بطنه وينقر على مواضع منه) هذه حالة غريبة ما رأيت لها شبهاً ولا سمعت بمثلها قط.. هل شربت يا سيدي قارورة الزيت بأكملها؟
السكرتير: إن كنت تعني القارورة ذاتها فليس في وسعي أن أبلعها!
الطبيب: كلا.. أنا أعني ما في القارورة بالطبع.
السكرتير: فقد أفرغته كله في جوفي!
الزوجة: نعم يا دكتور.. شربه كله.
الطبيب: إذن فلا بد من مضاعفة الكمية.
السكرتير: أما عندك غير زيت الخروع؟ أهذا كل ما تعلمته من الطب؟
الطبيب: هذا الإمساك المستعصي يحتاج إلى مسهل قوي، ولا يوجد مسهل يمكن تعاطيه بكميات كبيرة دون ضرر إلا هذا الزيت.
السكرتير: فكم قارورة تنصحني أن أشرب؟ مئة قارورة؟ ألف قارورة؟
الطبيب: إن شراءه بالقوارير يكلفك ثمناً باهظاً، ولكن توجد منه براميل صغيرة فاشرب منه برميلاً كل ليلة قبل النوم.
الزوجة: برميلاً بأكمله يا دكتور!
الطبيب: نعم لا خوف عليه يا سيدتي من ذلك.. من حسن الحظ أن لزوجك بطناً كبيراً يسع البرميل وزيادة.
السكرتير: حسناً.. سأشرب البرميل والبرميلين.. إني لا أطيق هذا العذاب.. خير لي أن ينفجر بطني فأستريح!
-4-
أربعة من الأطباء يتداولون الرأي بعد فراغهم من فحص السكرتير.
الأول: هذه حالة غريبة.
الثاني: إمساك مستعص لا نظير له.
الثالث: برميل زيت من الخروع لو أعطي لفيل لجرف كل ما في بطنه ولما أبقى فيه شيئاً!
الرابع: لو وُفِّقنا إلى تشخيص هذا المرض وعلاجه لفتحنا فتحاً جديداً في عالم الطب.
الأول: يخيل إلي وأنا أنظر بالأشعة خلال بطنه كأن لفضلات الطعام عقلاً خاصاً تتقي به الدواء المسهل بطرق عجيبة، فهي تلصق بالأمعاء الدقاق وبألياف المعدة لصوقاً شديداً حتى يمر المسهل ويخرج، فتبرز حينئذ من مكانها وتتخمر وتستحيل إلى أهوية وغازات!
الثاني: لقد خطر لي مثل هذا أثناء كشفي عليه بالأشعة.. خيل إلي أن للطعام الذي في بطنه إرادة صارمة، فهو يتشبث بجدران الأمعاء تشبث المستميت.
الأول: حقاً إن الطبيعة لملأى بالعجائب.
الثالث: أجل.. ما أقل ما نعلم وأكثر ما نجهل!
الثاني: والآن ما ترون في علاجه أيها السادة؟
الأول: يستمر في تعاطي براميل الزيت؟
الثالث: نعم.. براميل الزيت لا غير.
الثاني: ألا تخشون أن الخروع يبطل أثره بكثرة الاستعمال؟
الأول: حينئذ يضاعف مقدار ما يتعاطاه منه.
-5-
موسيه شرتوك يعود السكرتير في منزله.
شرتوك: أين نشاطك يا مسيو تريجفي لي؟ وأين تصريحاتك؟ لقد فترت همتك هذه الأيام.
السكرتير: ألا ترى ما أنا فيه؟ ألا تبصر هذا الانتفاخ وتسمع هذه القرقرة؟
شرتوك: لو كنت طريح الفراش لعذرناك، ولكنك تباشر عملك وتغدو وتروح.
السكرتير: أتريد مني أن أنقطع عن عملي فيطير منصب السكرتارية مني؟ ألا تدري أنني أناضل في سبيل الاحتفاظ بمنصبي وأضحي بثمن برميل من زيت الخروع كل ليلة ليخفف بعض ما بي من هذا الإمساك وهذه الغازات؟
شرتوك: ولكن القضية في خطر، ومشروع التقسيم في كفة القدر، ونحن أحوج ما نكون إلى نشاطك وإذا قضي على المشروع – لا سمح الله – فسيلقي الشعب اليهودي التبعة كلها عليك لتقصيرك.
السكرتير: لم يقع مني أي تقصير في خدمتكم، وإنما كان التقصير منكم أنتم.
شرتوك: أي تقصير؟ ألسنا نواليك بالهدايا والهبات وإن لم تعمل لنا شيئاً؟
السكرتير: يجب أن تضاعفوها فإن براميل الخروع تكلفني مبالغ طائلة. لقد ارتفع سعره في هذه الأيام وقلَّ وجوده وأخشى أن يختفي وشيكاً من الصيدليات فتكون القاضية عليّ.
شرتوك: هل تعو إلى نشاطك إن ضمنت لك باسم الوكالة اليهودية أن نمولك بكفايتك منه؟
السكرتير: بالطبع سيفرغ بالي من همّ ثمنه على الأقل.
شرتوك: إذن فثق أننا سنستورد لك باخرة ملأى بالخروع ونضعه كله تحت أمرك تغترف منه كما تشاء.
السكرتير: هذا أقل ما يجب عليكم أن تعملوه من أجلي في هذه المحنة التي حلت بي (يضع يده على بطنه) آه! أما لهذا العذاب من آخر؟
شرتوك: بم تشعر يا مسيو تريجفي لي؟
السكرتير: كيف أصف لك ألمي؟ ذلك صعب يا مستر شرتوك، ولكن لا بأس أن ألتمس لك صورة تقربه إلى ذهنك.. دعني أفكر قليلاً.
شرتوك: شكراً يا سيدي.. إنك تعلم مبلغ عطفي عليك وتأثري لحالك.
السكرتير: هأنذا قد وجدت الصورة.. صورة مناسبة جداً لمقتضى الحال!
شرتوك: كيف؟
السكرتير: إن بطني يا مستر شرتوك قد أصبح كفلسطين، تدور في داخلها معارك رهيبة، وما هذه القراقر إلا صداها المسموع.. والطعام الذي آكله.. أتدري ما مثله حين يدخل في جوفي؟
شرتوك: ما مثله؟
السكرتير: مثل المهاجرين حين يدخلون فلسطين، فإذا هم في معمعان القتال، تتخطفهم القوات العربية من كل مكان وتعركهم عركاً، فيحاولون الخروج منها، فيمنعهم إخوانهم الإرهابيون ويسدون عليهم السبل.. أما براميل الخروع الذي أتعاطاه كل ليلة فيرفه قليلاً عني فمثله كمثل القوات البريطانية التي يأتيها الإذن بالانسحاب فتخرج من البلاد زمرة بعد زمرة!
شرتوك: (مشمئزاً) هذه صورة بشعة رسمتها لحال اليهود في فلسطين لا تدل على عطف صادق عليهم.
السكرتير: لا تسئ فهم حديثي يا مستر شرتوك، فلولا أنني شديد العطف والرثاء لمحنة اليهود في فلسطين لما ضربتها مثلاً للمحنة التي في بطني. فكلتاهما تؤلمني ألماً بالغاً. آه يا مستر شرتوك إنك لا تدري أي بلاء أعاني!... ماذا؟ أتنوي الانصراف! شكراً لك على زيارتك.. إياك أن تنسى باخرة الخروع!
-6-
في مكتب صراف هيئة الأمم المتحدة – السكرتير يقابل الصراف على انفراد.
الصراف: نقود تنتقم! هذا مستحيل يا سيدي.. لا شك أن هذا وهم.
السكرتير: لقد كذبت زوجتي حين حدثتني بذلك من قبل، وظللت أرميها باللوثة والوهم حتى اضطررت إلى تصديقها آخر الأمر حين أخذت النقود اللعينة تنتقم مني في الدورة الدموية بدلاً من الجهاز الهضمي.
الصراف: في الدورة الدموية!
السكرتير: نعم... هكذا شخَّصها الطبيب وقال إنها حالة غريبة أيضاً كالحالة الأولى.
الصراف: ألم يعطك علاجها؟
السكرتير: بلى ولكني على يقين أن الطب سيعجز عن شفائي منها كما عجز في الحالة الأولى. وإنما في يدك أنت وحدك أن تنقذني..
الصراف: في يدي أنا؟
السكرتير: نعم هل لك أن تفعل؟
الصراف: إن كان ذلك في مستطاعي فإني تحت أمرك.
السكرتير: أكد لي أنك ستكتم هذا السر.
الصراف: قد وعدتك بذلك فاطمئن يا سيدي من هذه الناحية.
السكرتير: قد يتعبك قليلاً ما سأطلبه منك وقد يضايقك.. ولكن ثق بأنك ستنقذ بذلك حياتي وحياة زوجتي التي كادت تجن.
الصراف: إني مستعد لخدمتك بكل ما في طاقتي، فقل لي ماذا تريد مني أن أصنع لك؟
السكرتير: أن تعزل ما يرد إليك من نقود الدول العربية المشتركة في هيئة الأمم حتى لا يتسرب إلى يدي من تلك النقود اللعينة شيء ويكون راتبي الشهري خالياً منها خلواً تاماً.
الصراف: هذا غير عسير عليّ غير أني ما زلت أشك في صحة هذا الزعم الغريب.
السكرتير: يا سيدي هبني مجنوناً مخبول العقل، وهبْ زوجتي كذلك، فماذا عليك لو حققت لي هذا الطلب اليسير؟
الصراف: لكن ماذا أقول للمفتشين إذا رأوني أعزل تلك النقود وحدها؟
السكرتير: انتحل لهم أي عذر.. قل لهم مثلاً إنك تعزلها لأنها جاءت من بلاد انتشر فيها وباء الكوليرا.
الصراف: ولكن هذا الوباء قد ارتفع.
السكرتير: أوه! قل لهم إنك تفعل ذلك من باب الاحتياط!
الصراف: حسناً يا سيدي.. سأقول لهم ذلك.
السكرتير: إن كان لي أن أنصحك فلا تأخذ شيئاً من هذه النقود العربية في راتبك، فإني لا آمن أن يصيبك من شرها ما أصابني!
الصراف: (يضحك) أشكرك على نصيحتك وإن كنت لا أومن بهذه الخرافة.
السكرتير: لا تضحك.. فليس ما أصابني خرافة.. هأنذا قد أنذرتك!
الصراف: أشكرك على كل حال.
السكرتير: لا تنس أن تكتم السر عن كل أحد.
الصراف: اطمئن يا سيدي فلو حدثت به أحداً لرماني بالجنون!
(ستار)