ألا من يشتري سهراً بنوم
مسرحية قصيرة
ألا من يشتري سهراً بنوم
بقلم : محمد الحسناوي
المشهد الأول
)الوقت ليل. المكان موضع في بادية اليمن.أربعة من أقيال -أمراء- حمير في خيمة يتحدثون(
ذو رُعَيْن: حللتم أهلاً، ونزلتم سهلاً. يا مرحباً بالضيوف النشامى.
الضيوف:عم مساءً، أيها القَيلُ ذو رعين.
ذو رعين: كيف تركتم الأهل؟
الضيوف: تركناهم بأسوأ حال.
ذو رُعين: أعرف منكم القَيل سعيداً. إنه ذو حنكة وجودٍ وشجاعة.
سعيد: وهذان صاحباي. ذو الساعدَين وذو رأس. وهما قيلان في قبائل شقيقة من حمير.
ذو رعين: لا بد أن الذي جاء بكم في مثل هذا الوقت من الليل.. أمرٌ عظيم!
سعيد: صدقت. الليل أخفى للويل.
ذو رعين: لا يأتي منكم إلا الخير.
ذو الساعدين: لا يخفى عليك - يا ذا رعين- ما يعاني منه الحميريون في اليمن أقيالاً وقبائل وأفراداً من شرور الملك حسان الحميري.
ذو رأس: يغصب أموالنا بغير حق، ويسلبنا ما في أيدينا.
سعيد: حملنا على الغزو معه أكثر من مرة، فغنمنا غنائم كثيرة من إبل وأغنام وأبقار وعبيد، فاستولى على الغنائم كلها، ولم يقسم لنا منها شيئاً.
ذو رعين: أعلم من أمر الملك حسان ما تعلمون وزيادة. فماذا تريدون مني؟
سعيد: نريد أن توافقنا على عزله وتولي أخيه الأمير عمرو بدلاً عنه.
ذو رعين: إن عمراً جدير بالملك -أيها الأقيال- لكن المسألة عسيرة المنال.
ذو الساعدين: أنت ذو رأي. بماذا تنصحنا؟
ذو رعين: أمهلوني أياماً ريثما أنضج الرأي.
ذو رأس: لقد أنضجنا الرأي مع أقيال حمير جميعاً، ولم يبق إلا ذو رعين.
سعيد: أجمعنا على تحريض الأمير عمرو كي يقتل أخاه الملك حساناً، وعلى توليه الأمر والملك من بعده، مع تقديمنا لعمرو حسن الطاعة والمؤازرة.
ذو رعين: ألم تحاولوا النصح والإرشاد للملك حسان، وتبصيره مغبة ظلمه وفساده؟
ذو الساعدين: إنه جبار بطاش لا يجرؤ أحد على مصارحته.
ذو رعين: ومع ذلك لا بد من إفراغ الوسع، وتقديم النصح للملك قبل استخدام القوة أو السيف والدخول بالوقيعة والشحناء بين الأخوين.
ذو رأس: نحن يائسون منه. بلغ السيل الزبى.
ذو رعين: لا يأس في الإصلاح، ولا تنسوا أن حساناً وعمراً أخوان شقيقان من أم واحدة ومن أبٍ واحد. هل من السهل أن يقتل أحدكم أخاه؟ وإذا اضطر إلى ذلك، هل سوف يشعر بالراحة بقية عمره؟
سعيد: انتهت المشاورات- يا ذا رعين- ونحن في طريقنا إلى مقابلة الأمير عمرو للاتفاق معه، فهل تصحبنا؟
ذو رعين: سوف أصحبكم، ولو كنت مخالفاً لرأيكم ورأي من وراءكم من القبائل. إن حميراً مقبلة على شر مستطير.
* * *
المشهد الثاني
(غرفة واسعة من قصر الأمير عمرو الحميري. الأمير جالس في صدر المجلس. ضيوف أربعة من أقيال حمير يجلسون حوله. الوقت ليل).
الأمير عمرو: مرحباً، مرحباُ بوفد حمير.
الضيوف: عم مساءً، أيها الأمير العظيم عمرو.
عمرو: بلغني أنكم جئتم تمثلون أقيال حمير وقبائلها كلها، فماذا وراءكم؟
سعيد: أيها الأمير السعيد. جئنا نشكو إليك جور أخيك الملك حسان.
ذو الساعدين: أنت تعلم ما نحن فيه من الجهد والعناء.
ذو رأس: الملك حسان غصب أموالنا، وسلبنا ما في أيدينا، وحرمنا حقوقنا من غنائم الغزو، لا همَّ له إلا اللهو والشراب، والاحتجاب عن ذوي الحاجات.
سعيد: لقد تداولنا بالرأي والمشورة مع أقيال حمير كلها، وقرروا أن يقدموا لك وحدك السمع والطاعة، على أن تخلصهم من هذا الملك الطاغية. ونحن نكره أن يخرج الملك منكم أهل البيت إلى غيركم.
ذو رعين: إيها الأمير الحكيم. أنا ذو رعين، أخالف كل من يدعوك إلى قتل أخيك حلاً لمشكلاتهم قبل أن نحاول معه الإصلاح بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة.
عمرو: يا ذا رعين. هل تظن أخي الملك ممن يسمعون للشكاوى، أو ممن يُحكمون عقولهم في حل المعضلات؟ إن أحوال الرعية قد ساءت، وإن الموازين قد انقلبت. حبل الأمن مقطوع. الحرمات مستباحة. لم يبق إلا أن يغير علينا أحد الملوك المجاورين ويسلبنا ملكنا وأرضنا وعيشنا الرغيد.
ذو رعين: أفهم منك - أيها الأمير – أنك موافق على خطة أقيال حمير؟
عمرو: وهل هناك بديل آخر يا ذا رعين؟
ذو رعين: البديل عندي مراجعة الملك قبل عزله. وإذا شئتم أن أنوب عنكم في مصارحته، وتعريفه مغبة بطشه واستهتاره..
الضيوف: سبق السيف العذل.
عمرو: لقد فات أوان المراجعة.
ذو رعين: إن الملك أخوك، أيها الأمير عمرو، إنه من لحمك وعظمك. دمك دمه. أنتما من أمٍّ واحدة وأب واحدٍ. هذا لا يستقيم أيها الأمير الحكيم.
عمرو: يدي- إن عابت - قطعتُها.
ذو رعين: العلاج بالحكمة قبل اللجوء إلى السيف. لا يصير الدم ماء.
عمرو: إن سيف حسان سوف يحصدنا جميعاً إذا لم نبادر سريعاً إلى استئصال شأفته. هذه المشاورات -لا بد أن تكون- قد تسربت أخبارها إليه، ولن يقف مكتوف اليدين. فكونوا معي، مع أنفسكم، مع رعاياكم، تفلحوا.
الضيوف الثلاثة: نحن وكل أقيال حمير معك - أيها الأمير - حتى الموت.
ذو رعين: إن حميراً مقبلة على شرٍّ مستطير.
عمرو: اذهبا الساعة إلى قبائلكم وعشائركم، وائتوني جميعاً برجالكم، وسوف ترون ما يسركم.
الضيوف الثلاثة: الوداع. إلى اللقاء.
عمرو: الوداع. إلى اللقاء.
* * *
المشهد الثالث
)القاعة نفسها في قصر الأمير عمرو. الأمير عمرو ما زال في مجلسه، خادمه يستأذن لذي رعين بالدخول(
خادم الأمير: القَيل ذو رعين يستأذن بالدخول، يا مولاي.
الأمير عمرو: ليدخل.
)لنفسه): ألم يكن عندي قبل قليل؟ ما حمله على العودة؟
)يدخل ذو رعين(
الأمير: مرحباً بك. لم نَملَّ من صحبتك، فلتقم عندنا إن شئت.
ذو رعين: لي عندك حاجة، أيها الأمير.
الأمير: سل ما شئت. حاجتك عندي مقضية، يا ذا رعين.
ذو رعين: (يحمل بيده رسالة، يقدمها للأمير) هذه وديعة لي عنك إلى أن أطلبها منك.
الأمير: (يأخذ الوديعة) وصلتْ وديعتُك، يا ذا رعين.
ذو رعين: أرجو - أيها الأمير - أن تختم عليها بخاتمك، وتحفظها في خزانتك.
الأمير: يا غلام، هات الخاتم والشمع. (يختم على الوديعة) خذها يا غلام، وضعها ضمن ودائعي في الخزانة الحديدية.
ذو رعين: أشكرك - أيها الأمير، وأستأذن بالانصراف.
الأمير: كن مطمئناً على وديعتك، وأقم عندنا نكرمك.
ذو رعين: أسال الله لك وللحميريين البقاء والسلام. الوداع.
الأمير: الوداع.
* * *
المشهد الرابع
(الوقت ليل. الملك عمرو الحميري في ثياب النوم، يروح ويغدو في غرفة نومه، والتعب والإعياء باديان على ملامحه المتغيرة. عيناه حمراوان. صوته متهدج. حركاته عصبية متشنجة. بعد قليل يظهر له شبح أخيه القتيل. وهو يلبس رداءً أحمر وعمامةً حمراء، يعاتبه على ما جنت يداه..)
الملك عمرو: سبعةُ أيام بلياليها وأنا في ضيقٍ شديد، النوم يهرب مني، وأنا أطلبه حثيثاً. ما العمل يا رباه! ما العمل؟
شبح حسان: (يظهر ثم يقترب من عمرو)عم مساءً أيها الملك عمرو!
الملك هل تسخر مني، يا حسان؟
حسان: هل يسخر الأخ من أخيه؟
الملك: ما كان للأخ أن يسخر من أخيه، ولا أن يُقدم على قتله.
حسان: أما أقدمت على قتلي يا ابن أمي وأبي؟
الملك: أنا نادم - يا أخي العزيز- أشدَّ الندم.
حسان: ما نفع الندم؟ هل يحيي الميت أو القتيل؟
الملك: إن ندمي عظيم - يا أخي. فليلي نهار، ونهاري ليل. لا نوم. لا راحة.
حسان: ليس الأمر بيدي، كما تعلم.
الملك: عدتَ إلى السخرية مني؟
حسان: في حياتي كلها لم أسخر منك. لقد كنتَ قرة عيني، وكنتَ ساعدي الأيمن.
الملك: ومع ذلك لم أرعَ لك حُرمة، بل أقدمتُ على قتلك. وا سوأتاه. وا فضيحتاه.
حسان: أنا سامحتُك، يا أخي، يا ابن أمي وأبي.
الملك: لكني لن أسامح نفسي، ولن أسامح الذين غَّرروا بي، وحرضوني على قتل أخي، وسوف أقتلهم واحداً واحداُ شرَّ قِتلة.
حسان: لا تفعل.
الملك: سوف أفعل.
حسان: لا تقتل.
الملك: سوف أقتل. سوف أقتل. سوف أقتل.
* * *
المشهد الخامس
(الوقت نهار. الملك عمرو في مجلسه. أعوانه من حوله قلقون عليه)
الملك عمرو: (ينادي) يا جلاد.
الجلاد: السمع والطاعة للملك عمرو.
الملك: كم قتلتَ حتى الآن من أقيال حمير الغدّارين؟
الجلاد: قتلت حتى الآن ثمانية وثمانين قَيلاً. بناءً على طلبك.
الملك: هل قتلتَ ذا الساعدين وسعيداً وذا رأس؟
الجلاد: بدأتُ بسعيد. فما أبقيتُ له سعادة، وثنيت بقطع الساعدين من ذي الساعدين، وأطحتُ برأس ذي رأس، فما أبقيت على واحد منهم، كما أوصيتني.
الملك: وما فعلتَ بذي رعين؟
الجلاد: أبقيت على حياته، بناءً على طلبك، وأنا رهن إشارتك.
الملك: أدخلْه عليَّ. إنه كان ذا رأي وحنكة وشجاعة، فلماذا لم ينصحني بالإبقاء على أخي الملك، لماذا، لماذا، لماذا؟ كلهم غادرون كلهم متآمرون. إنني أتعذب. ضميري يؤنبني. مملكتي تتمزق. يجب أن أقتل ذا رعين، كما قتلتُ الآخرين، حينها سوف أرتاح، سوف أشفي غليلي منهم. سوف أثأر لروح أخي القتيل منهم.
(يدخل ذو رعين مكبل اليدين، متغير الملامح، مضطرب الثياب)
ذو رعين: أبيتَ اللعن. أنا ذو رعين، أيها الملك عمرو.
الملك: أنت ذو شرَّين. لماذا لم تنصحني بالكف عن قتل أخي الملك حسان، لماذا ابتليتموني بالسهر والأرق و القلق وعذاب الضمير. إن أخي الملك حسان أحسن إلي، وأنا أسأتُ إليه. لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ هل يجوز للأخ أن يقتل أخاه. هذا لا يستقيم. إنه أخي من لحمي وعظمي. دمي دمه. لا يصير الدم ماء. أنا وإياه من أمٍّ واحدة وأبٍ واحد.
ذو رعين: أبيت اللعن- أيها الملك عمرو. أطال بقاءك، وصرف عنك ما أنت فيه من همٍّ وغمٍّ، ما تقوله أنت الآن من كلام هو كلامي بالأمس.
الملك: أيُّ كلام؟!
ذور رعين: حول الإبقاء على أخيك الملك حسان، وفي نصحه دون قتله، وفي رعاية حق الرحم والدم والأخوة. أنا الوحيد بين الأقيال قلتُ لك هذا المقال، ألا تذكر ذلك أيها الملك؟
الملك: أنا لا أذكر ناصحاً منكم نصحني.
ذو رعين: اسمح لي أن أكون صريحاً معك الآن، كما كنت صريحاً معك ومع أخيك في الماضي.
الملك: هذا طبعك، فكن صريحاً، لذلك عتبي عليك أكبر وأشد من عتبي على الآخرين.
ذو رعين: إن السلطة - أيها الأمير تغشي العينين، وتصمُّ الأذنين، والدليل على أني نصحتك حق النصيحة الواجبة على مثلي، وأنك نسيت الآن نصحي وكلامي، هو أنني أودعت عندك وديعةً تشهد على صدقي. استودعتُها يوم الاستشارة الكبرى.
الملك: أية وديعة تزعم يا ذا رعين؟
ذو رعين: أبيتَ اللعن. إنها لُفافة محفوظة في خزانتك الحديدية، عليها خاتمك، وهي تشهد على صدقي قي النصح لك ولأخيك الملك حسان، وتؤكد براءتي.
الملك: هاتِ الوديعة المذكورة - يا غلام. (يذهب الغلام ليحضر الوديعة)
ذو رعين: إنها - أيها الملك- رقعة، كتبت فيها بيتين من الشعر، أصف فيهما حالي وحالك، أقول فيهما:
ألا من يشتري سهراً بنومٍ سعيدٌ من يبيتُ قريرَ عينِ
فإمَّا حِميرٌ غدرتْ وخانت فمعذرةُ الإلـه لذي رعين
أيها الملك عمرو. قد نهيتك حينذاك عن قتل أخيك، وعلمت بأنك إن فعلت ذلك أصابك الذي أصابك من أرقٍ وقلقٍ، فكتبتُ هذين البيتين من الشعر براءةً لي عندك مما علمت أنك تصنع بمن أشار عليك بقتل أخيك.
الملك: (يستلم الوديعة. يفضها. يقرأها بصوتٍ مسموع)
ألا من يشتري سهراً بنومٍ سعيدٌ من يبيتُ قريرَ عينِ
فإما حمير غدرت وخانت فمعذرة الإلـه لذي رعين
لقد صدقت - يا ذا رعين - لقد عفوتُ عنك، وأعتذر إليك.
ذو رعين: سامحتُك، أيها الملك، عمرو.
الملك: يا ذا رعين. لقد ابتُليتُ ببلاءٍ عظيم، بفقد أخي، وبامتناع النوم مني، وسلِّط عليَّ السهر، فلما اشتد عليّ ذلك لم أدع باليمن طبيباً ولا ناصحاً ولا حكيماً إلا جمعتهم، وأخبرتهم بقصتي، وشكوت إليهم ما بي، فقالوا: ما قتل رجل أخاه أو ذا رحم - على ما قتلت أخي الملك- إلا أَصابَهُ السهر، وامتنع منه النوم. أنت منذ اليوم صديقي الحميم وجائزتك عندي عظيمة.
- ستار -