لقاء مع الناقد عباس المناصرة
الناقد الإسلامي عباس المناصرة من أبرز نقاد الأدب الإسلامي متابعة وقدرة على دراسة النقد الأدبي من خلال تأصيل شرعي ومنهجي وفني ، وفي ندوات رابطة الأدب الإسلامي العالمية كثيراً ما يتحدث بإيجاز ، ولكن رؤيته مبصرة ناقدة ومتميزة . أخيراً كان لنا مع ناقدنا المناصرة هذا اللقاء الصريح :
ـ هل لك أن تتحدث عن البدايات ، عن محاولاتك النقدية الأولى باختصار ؟
ـ البدايات يا أخي كانت في البيت ، حيث تربيت في بيت يهتم بالعلم والأدب ، وبالذات فن الشعر ، حيث شقيقي الشاعر الكبير عز الدين المناصرة ، وبقية أشقائي كلهم من المهتمين بالتأليف والترجمة في قضايا الأدب والفكر والسياسة ، مما اتاح لي نمواً فنياً وأدبياً في فترة مبكرة من العمر ، ثم كتبت بعض الكتابات النقدية البسيطة في جريدة القدس التي لاتزال تصدر في القدس الشرقية ، وكانت هذه الكتابات قبل عام 1970 م ، وكنت أكتبها باسم مستعار هو : " نور الدين النعيمي " ، ثم سافرت إلى جامعة دمشق لإكمال تعليمي بعد الثانوية العامة ، حيث بدأ الاهتمام النقدي بي من قبل أستاذي العلامة : شكري فيصل ـ رحمه الله ـ ومن قبل الأصدقاء في الجامعة ، لكن الذي كان يقلقني هو المنهج النقدي الذي يجب أن أسير عليه ، وكل المذاهب المسيطرة على الساحة هي مذاهب غربية ، وأخيراً قررت أن لا أكتب حرفاً واحداً قبل البحث عن مذهب الإسلام الأدبي ، ثم بدأت القراءة ، وأشغلتني الحياة ، ومللت من كثرة القراءة ، وقررت خوض تجربة الكتابة النقدية ، ومنذ عام 1989م بدأت بنشر دراساتي في عدة صحف ، وقد أثارت تلك الكتابة القراء ، وتفاعلوا معها بإيجابية بالغة ، مما شجعني على متابعة الطريق كما ترى ، مع التذكير أنني كنت ناقداً شفوياً طوال فترة ما قبل النشر .
ـ أنت ناقد إسلامي ، ما الدور الذي يلعبه الناقد في تطور الأدب ؟
ـ يقوم الدور الحقيقي للناقد في تطور الأدب على فهم الأدب ودوره ووظيفته وطبيعته ، والظروف التي تؤثر في تقدمه أو تخلفه ، مع ثقافة واسعة تعتمد على الحكمة والخبرة ؛ ليكون المرشد الناصح لأخيه المبدع ، فهو أشبه بمهندس المرور الذي يهدي السائقين إلى طريق السلامة العامة فيضع لهم لافتات التحذير من المزالق ، وكذلك الناقد وظيفته الأساسية تقوم على فهم العمل الفني ، ومزالقه وسبل نجاحه ، ليقوم بهداية الإبداع عند إخوانه الأدباء ، ومجال النقد واسع منه ما يخص تطوير النظرية الأدبية ، ومنه ما يخص الجوانب التطبيقية ، ومنه ما يخص طموحات وهموم الأدب والأدباء ، فهو أشبه بمراقب الجودة ؛ لأنه يمثل حلقة وصل بين الجمهور والأدباء ، يخاطب الجمهور ، ويرقى بذوقه عن طريق الخطاب النقدي ، ويخدم المبدع بخبراته وملاحظاته ، إنه المسوق لبضاعة الجمال الأدبي بين المنتج والمتلقي .
وما دام الأمر يخص قضية الأدب الإسلامي ، فالناقد يقع على عاتقه مهمة إيضاح معالم نظرية الإسلام في الأدب ، ومقاييس الإبداع لهذا الأدب ، والبحث في هموم الأدب الإسلامي ، حتى يستطيع أن يقدم للأدباء المسلمين الطريق الواضحة الجلية للإبداع من جوانبهما الفنية والشرعية ، ليروج هذا الأدب وينتشر .
ـ يظل الأدب تعبيراً صادقاً عن فكر الأمة وثقافتها في ضعفها وقوتها ، هل تتفضل فتجلو لنا هذا المفهوم ؟
ـ الأدب صياغة فنية جمالية فكرية لقيمة حقائق الحياة ، من خلال كشف المواقف الشعورية التي يعايشها الأديب كفرد من أبناء الأمة ، وهو تاريخ لمشاعر الأمم تجاه تجارب وجودها الحضاري ، وله دور عظيم في تكوين الذوق العام للأمم ، بالإضافة إلى دوره الهممي التعبوي حيث يبعث همم الأفراد والشعوب نحو الأهداف ، فيزين لها الخير ، ويحقر الانحراف والشر والتخلف من خلال تقنياته الذكية ، ففي حالات الضعف التي تسيطر على الأمم تغزو الأدب نزعات الأنانية والفردية القاتلة والأهداف التافهة ، أما في حالات قوم الأمم فترى الأدب يبعث الهمم نحو الأعالي ، وتمجد الحق ، ويأخذ بيدها نحو النمو الراقي لذوقها .
وتأكيداً لمضمون سؤالك عد إلى الأدب الفردي في عصور الانحطاط ؛ لترى كيف سيطر أدب الملذات والذوق المنحدر مثل الغزل بالغلمان والحشيشة والخمرة ، وسيطر العقل الصوفي العاجز ؛ ليمجد المرض والضعف والكسل على حساب الإسلام النقي القوي ، فكان شاعرهم يقول :
جرى قلم القضاء بما يكون = فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق = ويرزق في غشاوته الجنين
وقد ينتشر أدب التكسب والنفاق والكذب ، ومن أمثلته الصورة المقرفة التي تصادم العقيدي عند المسلم كقول ابن هانئ :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار = فاحكم فأنت الواحد القهار
وقارنها بأدب الأمة في حالات القوة ؛ لترى الفارق الكبير ، خذ على سبيل المثال حسان بن ثابت رضي الله عنه ، وهو يحدو لهمم المسلمين في غزواتهم ، وانتصاراتهم ؛ لتشكل قصائده حرب دعاية للإسلام ، وحرباً نفسية على قريش ومعسكرها ، وانظر معن بن أوس طبيب القلوب الحاقدة كيف يفرغ القلوب من حقدها ومرضها ، وانظر لأبي تمام ، وهو يمجد فعل الجهاد ، وانظر إلى شهاب الدين محمود ، وهو يستنهض العزائم لحرب الصليبيين .
وقد يسبق الوعي إلى عقل الأديب الصادق فيكون أداة وعي للأمة ، رغم الظروف الصعبة التي تعايشها أمته ؛ لأن الأديب الصادق يكون مرآة لآمال الأمة ، وطموحاتها يدفع معنوياتها نحو النهضة ، وخاصة إذا أدرك الأديب دوره الخطير في حياة الأمة ؛ لأن الأدب يشكل الكاسحة التي تكتسح الأشواك من طريق الأمم نحو مصالحها وأهدافها ، ويكون ذلك مؤثراً حين يجعل الأديب من نفسه قدوة صالحة تسبق أبناء الأمة إلى فعل الخير أو الجهاد ، أو الأعمال الصالحة ، من منا لا يذكر الأديب الذي علم الأمة ان تربط الأفعال بالأقوال يوم سبقها إلى فعل الشهادة ، حيث ربط بين القول والفعل يوم قال :
سأحمل روحي على راحتي = وألقى بها في مهاوي الردى
أو الشاعر الذي قال مستنهضاً الأمة نحو تحقيق الأهداف :
ومن لا يحب صعود الجبال = يعش أبد الدهر بين الحفر
أو الشاعر الذي واجه أخطاء القيادات في المعارك المصيرية بقوله :
لماذا إذا اهتدت نجمة الحرب = تعطي الجوائز للهاربين ؟!
وهكذا ...
ـ تقف أمام الدعوة للأدب الإسلامي عقبات كثيرة ، كيف يمكن تذليلها ؟
ـ أظن أن حصر وتحديد العقبات هو الخطوة الأولى قبل البحث عن تذليلها ، ويمكن حصر هذه العقبات في خلاصة أولية بما يلي :
1 ـ وجود ركام من المفاهيم الغربية المنحرفة التي تسيطر على الساحة الأدبية العربية ، تستنفر الذوق الأدبي ضد طرح قضية الأدب الإسلامي .
2 ـ الخطاب النقدي الضعيف لدعاة الأدب الإسلامي يقلل من الاستقطاب لصالح هذا الأدب .
3 ـ غياب الفقه الأدبي الذي يؤصل لهذا الأدب من مرجعياته (الشرعية والأدبية) ووجود تيار إسلامي تقليدي من النقاد يمجد نقد الرواد ، ويحارب محاكمة نقدهم ، وبذلك يعطلون النقد الإسلامي الجاد الذي يدرك مسؤولية الاستقلال والتطور النقدي .
4 ـ لقد تأخر الإسلاميون في إدراكهم لقيمة الأدب ، وهذا جعل التيارات والأفكار الأخرى تتقدم في أطروحاتها النقدية والإبداعية ، لأنها عرفت خطر الأدب في فترة مبكرة ، ووصلت إلى عقول الناس من خلال الاستفادة من الفنون الأدبية وجمالها وتقنياتها لصالح أفكارها .
أما عن تذليل هذه العقبات فأرى أن ذلك ممكن من خلال :
1 ـ الصبر على مشاق الدعوة للأديب الإسلامي واستمرارها ، دون يأس أو توقف عن العمل .
2 ـ التجديد هو أحد المهمات المنوطة بأبناء الأمة في كل قرن، ولهذا لابد من إيجاد فقه أدبي مؤصل من القرآن الكريم ، والسنة الشريفة ، وأدب الصحابة ، ورفع مستوى الوعي للخطاب النقدي حتى نصل إلى خطاب مقنع يساعد على الاستقطاب لصالح الأدب الإسلامي .
3 ـ القوي هو الذي يفرض نفسه ، ولذلك لابد من إيجاد جيل من الأدباء الإسلاميين الأقوياء الذين يتحملون مسؤولية تقديم النموذج الأدبي الراقي للأدب الإسلامي من خلال النقد والإبداع ، لأن بعض الناس قد يشده النموذج الأدبي الراقي ، وبعض الناس قد يشده التنظير النقدي الراقي ، ومن هنا لابد من التكامل بين الإبداع والنقد .
4 ـ لابد من محاكمة نقدية صريحة للنقد الذي قدمه رواد الأدب الإسلامي ، للتعرف على حالة الفوضى المنهجية ، وضبط هذا التنظير بمنهجية علمية واضحة ، تعرف للريادة فضلها وعذرها وضعفها ، حتى تخرج من حالة الانبهار والتمجيد التي يمارسها التقليديون ، لنصل إلى مرحلة التقييم والتحديد المنهجي .
ـ يقولون : " ما زال مفهوم النقد الإسلامي غائماً في كثير من أذهان نقاده " ما ردك على هذه المقولة ؟
ـ من الشجاعة القول أنها مقولة صحيحة ولا ننكرها ، ولكن هل هذا يدعونا إلى اليأس والتراجع عن الدعوة للأدب الإسلامي ؟ وهذا الاعتراف منا معناه الدعوة إلى مضاعفة الجهد ، وإيضاح مفهوم الأدب الإسلامي ، فما طرح ينقصه التأصيل الشرعي والفني والمنهجي ، ونحن في بداية مشروع تحت التأسيس ، وهو بحاجة إلى عمل جاد لتفصيل دقائقه وإيضاح معالمه .
المشكلة أن بعض الإسلاميين يتهرب من تفصيل المشروع النقدي ؛ لأنهم حصروا أنفسهم في مقولات الرواد ، وهي مقولات ريادية ناقصة وغير مكتملة ، والنقد لا تتضح مفاهيمه إلا بالتفصيل والدراسات والجهود النظرية والتطبيقية .
والدعوة للأدب الإسلامي دعوة طرية العود ، وإن توهم بعض الناس أنها اكتملت ، ولذلك هي بحاجة إلى رجال صابرين على البحث والعمل والتفصيل والاستقلال عن أطروحات الواقع المسيطر أنهم يجددون أدب الأمة ، وأجرهم في ذلك على الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
ـ هناك من يطرح أن الحداثة تعني لدى كثير من مروجيها إلغاء ذاكرة الأمة ، وتراثها وثقافتها وأدبها ، ما مدى صحة ذلك في رأيك ؟
ـ هذا الكلام صحيح إلى حد ما ، وحتى لا نقع في التعميم الذي يساوي بين المحسن والمسيء علينا أن ندرك أن الحداثة تتكون من حداثات متعددة بعضها هدفه التجديد في الأدب ؛ ولهذا التيار لا تختلف معه في فكرة التجديد ؛ لأن حياة الأدب لا تتم إلا بالتجدد المستمر .
وهناك تيار حداثي طائفي يلبس ثياب الحداثة والتجديد بهدف التخريب والتدمير وتهيئة الأمة للانخلاع من جذورها ، يريد أن يبدأ من الصفر ، وينقطع عن التراث كما يزعم .
وهو كاذب في دعواه ؛ إذ ينقطع عن تراث الأمة ليلتحم مع التراث الأوربي ، فأين إبداعه الذي يدعيه .
وهذا التيار يريد أن يلغي بالفعل ذاكرة الأمة عن سبق وإصرار ، يدفعه إلى ذلك حقد طائفي خبيث ، فهو لا يستطيع أن يطرح فكره الطائفي بوضوح ، فاختار طريق لبس زي الحداثة ، ليموه ويخرب ويمهد لمحاربة الإسلام ، والذي ينظر إلى الكتب المقدسة للحداثيين يرى سم حقدهم في مقولاتهم فأحدهم يقول : " الإسلام حداثة ثارت على الجاهلية ، ويعتبر نفسه الحداثة التي تثور على الإسلام " ، وفضيحة مجلة (حوار) في الستينات من القرن العشرين ، دليل على ذلك وعلى ارتباطاتهم الخارجية المشبوهة مع الاستعمار والصهيونية ..
وهناك تيار حداثي مضبوع معجب مبهور بالثقافة الغربية ، ولكنه لا يقوم على الحقد على الأمة ، فإذا وجد من يسيل دمه أمام مغارة الضبع الأوروبي حتى يفيق ، وعندها يسهل عليه أن يعود إلى أمته ؛ لأنه لا يحقد عليها .
ـ يرى بعض الدارسين أن كتابك " مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي " يعد نموذجاً متميزاً ومتقدماً في طريق التنظير الذي يؤسس للنقد الإسلامي ، ما أسباب ذلك في رأيك ؟
ـ السبب فيما أظن أن كتابي وضع الإصبع على الجرح ، وأشار إلى حالة المرض بصراحة وصفها بعضهم بأنها جارحة .
قرأت التنظيرات المطروحة للنقد الإسلامي ، فوجدت التخبط الذي يحكم الطموحات لغياب المنهجية النقدية التي تستقيم مع الشرع والأدب ، ووضعت نظرية علمية تصف مسار التنظير الذي يوصل إلى الأهداف ، حيث حددت المرجعيات التي تستخرج منها نظرية الأدب الإسلامي (الشرعية والأدبية) ، وطرحت نماذج تطبيقية عن أدب الصحابة الكرام ؛ لأنهم النموذج الذي يمثل الأدب الإسلامي الحقيقي .
وأنا أول من كشف طبيعة الريادة ، وتجرأ على البوح بذلك ، حيث تبين أن العقلية النقدية الإسلامية المعاصرة ، تكره النقد وتتهرب منه ويلزمها الصدمة حتى تفيق من حالة تقديس الذات بسبب سيطرة حالة التمجيد والانبهار على دعاة الريادة ؛ لأنهم يخلطون بين الإسلام المقدس ومرجعيته ، وبين أنفسهم التي ليس لها حق التقديس ، وإنما لها حق الحب والأخوة والمودة في الله ، ولذلك يجب أن يجري عليها حق النصح والنقد والمحاكمة لما طرح ، وقد تفاعل كثير من الكتاب الإسلاميين مع ما طرحت ، واعتبروا الكتاب محطة مراجعة للنقد الإسلامي ، لوضع الأمور في نصابها الطبيعي .
ووجدت أن كتابي يحارب من قبل الإسلاميين ؛ لأنه لا يستسيغ المحاكمة والنقد ، ويعيش على وهم الاكتمال ، وتمجيد الريادة ، ولكن الكتاب نجح في إيصال الصدمة لكثير من العقول الإسلامية فأخذت تفيق من حالة التمجيد للنقدالريادي ، وبدأت ترى الرواد بعين مبصرة ناقدة تعرف لهم فضلهم ، ولكنها لا تسقط في التقديس لمنجزاتهم .
ـ ما جديدك النقدي الذي تريد أن تطرحه في معركة خدمة الأدب الإسلامي ، بعد مضي عدة سنوات على كتابك السابق ؟
ـ استكمل الآن بحثاً في صميم قضية التأسيس للنقد الإسلامي بعنوان " مصطلح الأدب الإسلامي في ضوء نظرية العلم والمعرفة " ، لأن جلاء هذا المصطلح من المهمات الملحة ، بل هي اللبنة الأولى في تفصيل المصطلح النقدي للأدب الإسلامي ، والدخول في دقائق النقد من خلال إيجاد المصطلحات النقدية المستقلة عن المقولات المسيطرة على الساحة النقدية العربية ، أسأل الله التوفيق والقبول والسداد في خدمة أدب الأمة وإعلاء شأنه.
وسوم: العدد 765