الدكتور حلمي القاعود مؤكدا أنه يستعد للقاء ربه وراضيا عما قدمه
الدكتور حلمي القاعود مؤكدا أنه يستعد للقاء ربه وراضيا عما قدمه:
المجتمع المصري كُسر ظهره بموت الطبقة الوسطى والواقع الثقافي الآن يفرض عليك أن تدفع الجزية ليرضى عنك..
جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم والعقاد.. والزيات ومحمود محمد شاكر وسيد قطب قالوا كلمة حق في وجه سلطان جائر
القاهرة – ” رأي اليوم” –:
صمت الكاتب الكبير حلمي محمد القاعود عن الكتابة العامة تماما، ثم فاجأنا بإصدار روايتين مهمتين في معرض الكتاب. الأولى “شغفها حبا”. والأخرى “محضر غش”. في الروايتين يقدم بيئة مغايرة لما اعتاد عليه كتّاب الرواية، ويتحرك بعمق في الواقع المصري الراهن، ليكشف الخلل الفادح الذي يتولد عن انهيار التعليم وفساده.
الدكتور القاعود يقدم لنا سردا جميلا نفتقده في الكتابات السردية الراهنة، ويحمل بصمات كبار أصحاب الأساليب الأدبية الراقية، فيذكرنا بملامح محمد عبد الحليم عبدالله، وأمين يوسف غراب، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد سعيد العريان، وعلى أحمد باكثير ، ونجيب الكيلاني، وغيرهم.
في هذا الحوار نتعرف على التحوّل من الكتابة المباشرة، إلى الكتابة الفنية، لدى الدكتور القاعود، وحياته وأدبه ،وعلاقته بالأحوال الثقافية الراهنة التي يراها بائسة حتى النخاع !
كانت مفاجأة أن تقدم لنا الرواية بعد صمت عن الكتابات العامة. لماذا صمت أولا عن مخاطبة القراء مباشرة؟
كتبتُ كثيرا كتابات مباشرة منذ سيئة الذكر كامب ديفيد في النصف الثاني من السبعينيات، ما كتبته في القضايا العامة كثير، تضمه عشرات الكتب المطبوعة، وأخرى لم تظهر إلى النور بعد. لاحظت أن الكتابة العامة الآن لم تعد تلقى اهتماما في مناخ خانق لا يتيح الكتابة بأمان، ولا يتسامح مع الرأي الآخر. لقد انصرف الناس عن القراءة. ما يرونه في الصحف العامة التي تسيطر عليها معظم الحكومات العربية يصرفهم عن القراءة، لأنها تجند كتابا يقولون ما تريد، وليس ما تقوله الشعوب. ولهذا انخفض توزيع الصحف الكبرى انخفاضا غير مسبوق. كانت هناك صحف توزع مليون نسخة قبل سنوات، ولكن توزيعها الآن لا يتجاوز أربعين ألفا، أكثر من النصف اشتراكات إجبارية، ولولا الإعلانات وقد انخفضت هي الأخرى لتوقفت تماما.
ألا يعد ما ينشر على النت أو الشبكة الضوئية عاملا مهما في خفض توزيع الصحف؟
الصحف على الشبكة الضوئية تحمل مادتها الورقية، والأخيرة لا تملك اللغة التي تخاطب القارئ.
ماذا تقصد باللغة التي تخاطب القارئ؟
أقصد الحقيقة التي على الأرض. إنها لا تقدم الحقيقة، بل تقدم ما يريده السلطان فقط، ولو كان كذبا صريحا فجا، ثم تدلس وتضلل، وتسوغ الأخطاء والخطايا. ما بالك بصحيفة تكاد تكون صوتا واحدا. بل هي صوت واحد لا يشذ عنه صوت آخر!
الصحافة ورقية أو إليكترونية لا بد أن تكون ذات عينين لا عينا واحدة، وفي ذلك خير للمجتمع والسلطة.
هل هذا ما حدا بك للكتابة السردية؟
نعم وأشياء أخرى.
مثل ماذا؟
كانت بداياتي أدبية محضة. كتبت القصة القصيرة والرواية، والنقد الأدبي، وقد كان أول ما نشرته في كتاب بعد المقالات الأدبية التي ظهرت في الرسالة والثقافة(الإصدار الثاني) في الستينيات، والآداب والأديب البيروتيتين، مجموعتي القصصية رائحة الحبيب، وروايتي “الحب يأتي مصادفة” التي صدرت عن دار الهلال، وكلتاهما عن حرب رمضان والتحضير لها، وكنت أيامها مجندا في القوات المسلحة لمدة طويلة بدأت بعد الهزيمة السوداء، وانتهت بعد حرب رمضان. ونشرت أيضا كتابي النقدي الأول عن محمد عبد الحليم عبد الله بعنوان “الغروب المستحيل”، وقد أعدت نشر المجموعة والرواية قبل عامين. كنت مشوقا لأكتب سردا طوال عقود، وشرعت في كتابة بعض أعمال سردية، وأهملتها نتيجة الإلحاح الذي يفرضه الواقع من قضايا. لقد فرضت مشاركتي في تحرير بعض المجلات والصحف، وكتابة عمود يومي في جريدة كبرى أوقف في منتصف عام 2013 أن أبتعد عن الكتابة السردية، ولكن إيقاف العمود اليومي، وانصرافي عن التحرير في بعض الصحف والمجلات؛ شجعني لأكتب سيرتي الذاتية في ثلاثة أجزاء، زمن البراءة ، وزمن الهزيمة، وزمن الغربة، وكان هذا إنجازا مهما، ثم كتبت مجموعة سرديات قصيرة لم تنشر بعد بعنوان “منامات الشيخوخة”، وفي العام الماضي بدأت في كتابة مجموعة من الروايات نشر منها روايتان: شغفها حبا، ومحضر غش.
متى اكتشفت ولعك بالكتابة؟
مذ كنت صغيرا طالعت ما يصل إلى يدي في قريتي المقفرة من صحف ومجلات وكتب، وفي السنة الأولى الإلزامية أوائل الخمسينيات كانت جائزتي لحل مسألة حسابية قصة مصورة جميلة منحها لي ناظر المدرسة، وظللت أطالعها على أسرتي وأقاربي، وتمنيت أن أكتب مثلها، وفي أثناء دراستي في الابتدائي والثانوي أو ما يعادله؛ شاركت في صحف الحائط والمجلات المدرسية المطبوعة، واكتشفتُ سرقات أدبية جعلتني أدخل عالم الكتابة من حيث لا أدري، وبدأت أكتب للرسالة والثقافة في إصدارهما الثاني(63-1965)،وتابعت الطريق.
هل فقد الأدب بريقه في زمن شبكات التواصل ؟
شبكات التواصل صدى للمستوى الثقافي الذي وصل إليه الناس ومنهم الأدباء. وهذا المستوى الآن غير جيد لأسباب عديدة في مقدمتها انهيار التعليم. ميزة الشبكة أنها تكشف الضحالة والسطحية لدى من تروج لهم الدعاية الرسمية بوصفهم أدباء مرموقين أو مميزين، وهم ليسوا كذلك في الأغلب الأعم. وأعتقد أن الأدب لم يفقد بريقه فحسب، ولكنه فقد مضمونه وجماله أيضا بصورة عامة إلا من رحم الله.
عنوان الرواية الأولى يعيدنا إلى التراث، والأخرى يجعلنا نعيش في الحاضر؟
شغفها حبا مأخوذ من الآية الكريمة في سورة يوسف، ويعبر عن حالة إحدى شخصيات الرواية، أما عنوان الثانية، فهو بالفعل عن واقعة حقيقية في الجامعة دارت حولها أحداث الرواية.
لكن أحداث الروايتين تدوران في الجامعة، وأظنها المرة الأولى التي نرى فيها الجامعة مكانا روائيا بصورة مركزة.
هناك كتاب آخرون تناولوا الجامعة مكانا روائيا، ولكن ذلك كان بصورة جزئية أو محدودة، بمعنى أنهم لم يتعمقوا في شرايين الحياة الجامعية، واهتم معظمهم بالانطلاق من جامعة القاهرة. بعضهم أشار إلى جامعة إقليمية، أو جامعة أخرى، ولكن الروايتين كان ميدان الحركة فيهما جامعة إقليمية أو غير رئيسية، بالإضافة إلى جامعة خليجية.
بصفة عامة؛ الجامعة الإقليمية أقرب إلى حياة المجتمع بسلبياتها وإيجابياتها، وفيها تتحقق صورة انهيار التعليم وتخلفه، بصورة أكثر وضوحا من الجامعة الأم التي تحتفظ إلى حد لا بأس به بشيء من صلابة البنية التعليمية، وما زالت تتمتع إلى حد ما بالتقاليد الجامعية الموروثة منذ قرن أو يزيد.
وماذا عن الروايات الأخرى التي لم تنشر؟
هناك رواية بعنوان “شكوى مجهولة”، وأخرى اسمها “اللحية التايواني”. وأخريات لم أنته منها بعد. الأولى ترصد تحولات القرية المصرية في العقود ألأخيرة من القرن العشرين، وتتناول منتجات القرية إن صح التعبير في مجال النخب التي صعدت إلى مجالات مهمة في العمل العام والثقافي والاجتماعي، بالتوازي مع التطورات التي شهدتها الحياة الريفية، ورصد أعماق النفس البشرية في حالات المد والجزر، والخير والشر.
اللحية التايواني اقتحام لفكرة التدين المغشوش في مقابل التدين الحقيقي. دأب بعض خصوم الإسلام على تصوير الإسلاميين في دائرة الإيمان الشكلي وحسب، وكأن المسلمين جميعا هكذا، دون أن يقدموا الصورة الموازية للإسلام الصحيح غير المشوّه. في اللحية التايواني تعتدل المعادلة. واعتدال المعادلة أمر ضروي، وبالمناسبة فقد كنت في السبعينيات من أوائل من أشاروا إلى التدين الشكلي على صفحات مجلة الاعتصام الإسلامية، وقد ألحّ الشيخ الغزالي رحمه الله على انتقاد التدين الشكلي، وحذر منه، ولو كان أصحابه حسني النية.
وتبقى ضرورة مواجهة الأفكار المنحرفة التي يروج لها بعض المتيّمين بثقافة الغرب وأفكاره في صورتها القبيحة المؤذية. ولعلي أتعرض لها في بعض الروايات القادمة.
ما رأي النقاد فيما كتبته من روايات؟
هناك بعض الدراسات الجيدة لكنها لم تنشر على نطاق واسع. ثم إن النقد بصفة عامة غائب في الصحف والإعلام، والمحظوظ هو الذي ترضى عنه الشلة المهيمنة على الحياة الثقافية، أو ما يسمى بالحظيرة، فيتم عرض كتاباته ولو كانت رديئة، مع الترويج لها والإشادة بها في القنوات والإذاعات والصفحات.
معذرة، ألا حظ أنك لا تتواصل مع الحياة الثقافية، كأنك تستعلي عليها؟
أين هي الحياة الثقافية الجادة لأتواصل معها؟ في زمن شبابي كنت أسافر من قريتي البعيدة في قلب الريف، أكثر من مرة في الأسبوع لأحضر ندوات دار الأدباء، ورابطة الأدب الحديث، وأزور الصحف والمجلات، وأشهد النشاطات الأدبية والثقافية في بعض الكليات، ولكن الواقع الثقافي الآن يفرض عليك أن تدفع الجزية ليرضى عنك!
جزية؟
نعم! جزية!
كيف؟
أبسط أنواع الجزية أن تردد ما تقوله الحظيرة ولو لم تؤمن به! حينئذ تفتح لك الأبواب: الترويج، النشر ، المؤتمرات، الجوائز، اللجان، التفرغ،…
بالنسبة لي، فأنا لا أملك الجزية، لأني في سني المتقدم أستعد للقاء ربي، وسأقول له: إني زهدت في عرض الدنيا، ولعل ذلك كان من وراء حياتي منذ مولدي في أعماق الريف حتى اليوم، راضيا بما أعمل وأكتب، فقيرا إلى كل خير من عند الله.
هل سيبقى الوضع الثقافي كما هو؟
دوام الحال من المحال، وحينما يتحسن الوضع التعليمي، فسوف تتحسن الحياة الثقافية، وبقية جوانب الحياة الأخرى، ولن تكون هناك حظيرة أو وزارة ثقافة!
هل ترون للأدب دورا سياسيا ومجتمعيا ؟
أجل بالتأكيد. هناك دور للأدب في الحياة وجوانبها المختلفة. والأدب العربي له دور رسالي منذ البعثة المحمدية. هناك بالضرورة من يرى غير ذلك، عقب الحربين العالميتين ظهرت اتجاهات أدبية في أغلبها تجعل الفن مجرد لعبة فنية، فيما عرف بالفن للفن، أو تعبيرا عن ذات نرجسية لا يعنيها العالم. ولكن الأدب العظيم هو الذي يحمل العالم على كتفيه، ويسعى لتحويله إلى عالم أفضل، وهو الذي يبقى، وتأمل التراث الأدبي منذ عهد الإغريق حتى اليوم، تجد أن ما يبقى هو الأعمال التي تهتم بالإنسان وتتناول مشكلاته ورؤاه وأحلامه.
ومن من الأدباء قال كلمة الحق في وجه السلطان؟
الأدباء الذين قالوا كلمة الحق للسلطان المحلي أو السلطان الغازي كثيرون، في التاريخ القديم والتاريخ الحديث. تاريخنا في القرنين الماضيين، يشير إلى أسماء كثيرة منها جمال الدين الأفغاني، عبد الله نديم، العقاد، الزيات، محمود محمد شاكر، سيد قطب، ويمكن أن تضع في هذا السياق القصائد والروايات والمسرحيات التي عالجت أوضاع الناس المأساوية، ثم كتّاب المعارضة من الأدباء الذين رفضوا الظلم والاستبداد، والفساد والتخلف، فهؤلاء جميعا يقولون للسلطان كلمة حق، وإن لم تكن مباشرة أحيانا.
في عهد اللورد كرومر أوائل القرن العشرين صدر قانون يسمى قانون المطبوعات يمنع المصريين من الإشارة بأية كلمة رافضة للاحتلال الإنجليزي أو السلطة المصرية المدعومة منه في الصحف أو المجلات أو الكتب. ماذا فعل الشعراء؟ لجأوا إلى التاريخ، واستعادوا سيرة النبي- صلي الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعلى رضي الله عنهم أجمعين، ونظموا حولهم مطولات تعبر عما في نفوسهم تجاه الاحتلال والاستبداد، وألقوها في كل مكان متاح.
كيف ترى الطبقة الوسطى الآن؟
هل توجد طبقة متوسطة الآن؟ توجد أطلال لها بعد أن تم تدميرها، وتجفيف منابع دخلها وقيمها، لصالح فئات هامشية جاهلة تغرف ما لا تستحقه، أو تتعايش مع الحرام!
وما خطورة اندحارها لو صح الوصف؟
كَسر ظهر المجتمع، ودفَن قيمه الجميلة ، وأخلاقه الرفيعة، واحتلت مهارج التوك توك وأخلاقه الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله.
وسوم: العدد 813