حوار مع الأديب السوري خيري الذهبي
ماجد رشيد العويد *
نشر في مجلة الكويت ـ العدد 291 ـ 2008
خيري الذهبي الروائي السوري الدمشقي، فعل مع دمشق، ما فعله نجيب محفوظ مع القاهرة، أرّخ لها فإذا بها تجري بين سطوره في حلّة أدبية جميلة، وإذا بياسمينها يشتمّه القارئ مع كل حرف من رواياته. اشتغل على الهمّ العام والتاريخي فرفد المكتبة العربية بروايات كثيرة، وبعض مجاميع القصص إلى جانب عشرات المقالات. مثلت بعض أعماله تلفزيونياً من مثل "ملكوت البسطاء"، "طائر الأيام العجيبة"، وأما روايته "حسيبة" فمثّلت في السينما والتلفزيون. ساهم وشارك في كثير من المؤتمرات الأدبية في أوروبا والعالم الإسلامي. وله في أدب الأطفال كتابات يحاول أن يتنكر لها، وله في الترجمة عن الإنكليزية إسهامات كثيرة. لأجل هذا كله كان لمجلة الكويت معه هذا الحوار.
س1 ـ كأن الترجمة إلى لغات أخرى أصبحت هاجس كثيرين من الكتاب العرب. هل يجب أن نولي الترجمة كل هذا الاهتمام ولو على حساب جودة الإنتاج من الناحية الفنية؟ ثم بمَ تفيد الترجمة، خارج دائرة الاشتهار وهذا من حق الكتّاب، إذا لم يكن الكاتب قد أنجز أدبه بلغته.
ج1 ـ حين وصلت الرواية إلى العالم العربي وصلت معها الدعاية المعروفة في الغرب عن الرواية ورواج الرواية، وتوزيع الكتاب الناجح الذي قد يصل إلى الملايين، وصلت ومعها أسماء عمالقة مثل ديستويفسكي وتولستوي وهيغو وبلزاك. وصلت محمولة أصلاً إما على أيدي المشرفين على التعليم والثقافة الغربيين أمثال "دنلوب" المسؤول الأول عن وضع المناهج التعليمية التلقينية التبصيمية في المشرق العربي، وإما على أيدي مثقفين مبهورين بالإنجاز الغربي في عالم الإبداع والكتابة والشهرة والدور الاجتماعي الكبير. مَن مِن المثقفين العرب لم يحلم بدور كدور غوتيه، أو مالرو الفرنسي، أو حتى همنغواي الذي لا يقارن بالسابقين على الإطلاق، ولكن حظه شاء أن يظهر في زمن صعود الأمريكية والأمركة ودخول أمريكا إلى عالم احتلته أوربة بعمالقتها قبل إطلالة أمريكا فرأت فرضه بعد الحرب العالمية الثانية التي انتصرت فيها أميركا على العالم حين رأت أنها انتصرت اقتصادياً وعسكرياً. ولكنها متخلفة جداً ثقافياً، ففرضت نموذجها عن الفرد المنتصر وحيداً بعد الحرب العالمية الثانية، كما فرضت المسرحي الأميركي تورنتون وايلدر صاحب المسرحية ـ المانيفستو "بلدتنا" وهكذا دخلت أميركا عالم التأثير الثقافي منافسة أمها أوربة.
على أية حال ما يعنينا من هذا كله أن الكاتب العربي حين رأى عدم اهتمام أمته به كاتباً كما اهتمت أميركا بهنمغواي بل حتى بكاتب صغير مثل إيريك سيغال صاحب رواية ضعيفة كان اسمها "قصة حب"، ولدى كل شعوب العالم كتابات في حقلها أهم منها بكثير، ولكن حظهم أن ليس من ورائهم أمة ناهضة تحملهم كأميركا، وبطريقة ما اعتقد الكتاب العرب أن إن ترجموا... ولنلاحظ كلمة "إن" هذه... إن ترجموا فسيحصلون على المجد الذي أحرزته كاتبة متواضعة مثل فرانسواز ساغان، أو إيريك سيغال، وإن كانوا كتاباً جادين فسيحلمون ـ إن ترجموا ـ بمجد كمجد ماركيز وإليوسا وغونتر غراس. لكنهم نسوا، أو تناسوا أن ابن الضرة ليس كابن البطن، ونسوا أن الغرب قد وضع قواعد عن مفهومه للشرق أصبحت مقدسة.
هذه القواعد منطلقة من قراءاته لألف ليلة وليلة، وقراءاته لرحلات ماركو بولو، وقراءاته لمذكرات العائدين من الحروب الصليبية، وقراءاته عن قصور استانبول وحريمها ومجونها وسراديبها إلى آخر ما شكّل الصورة الراسخة لديه عن الشرق، فإذا ما قرر كاتب أن يكتب عن نضال شعبه لتحقيق هدف سياسي ما نظر المترجمون إليه في استنكار: لدينا من هذه الثرثرة الكثير، وإذا ما قرر الكتابة عن توق شعبه إلى الديمقراطية نظروا إليه في استعلاء: لدينا من هذا العلك الكثير، وليس عن عبث أن كاتباً عظيماً في المنظور العربي مثل نجيب محفوظ حين ترجم قبل وبعد جائزة نوبل لم يجد من القراء العدد لحجمه العربي كاتباً. بينما حازت كاتبة متواضعة القيمة الفنية مثل نوال السعداوي على حصة تساوي حصة نجيب محفوظ بعشرات المرات والسبب ببساطة هو أنها طرقت موضوعات ـ صحيح أنها حقيقية ـ ولكنها تؤكد وجهة نظرهم في الشرق، اضطهاد المرأة، ختانها. ازدراء المرأة لجنسها تقليداً لازدراء الرجل لها الخ... فوجهة نظر السوق الغربية هي السوق، والسوق يبحث عن الغرائبي، فالشرق موطن الغرائب، أو موطن كراهية الذات ورفضه مثله الفاسدة المنحلة. هل نذكر تسليمة نسرين، ورأي "في.اس. نايبول" في الهند والهند المسلمة الخ..
إذا ما مضيت إلى القاهرة ، أو بيروت فستتعثر في كل خمسين متراً بمترجم أو مستشرق يترجم لكتّاب هذين البلدين، والترجمات متواضعة نسبياً. إن الطبعة لا تزيد عن ألف، أو بضعة آلاف، وهذه في معظمها ترجمات لجامعات، أو أكاديميات، أو لمهتمين باللغة، أو المجتمع العربي، ولكنها أبداً لم تدخل السوق الغربي دخول كتاب متواضع من كتب البست سللر المعروفة. وإذا ما قارنا ترجمة "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، ولن أدخل في تفاصيل رأي النقاد في الرواية فإن أعلى مبيع لها لم يتجاوز البضعة عشر ألفاً رغم أن هذه الرواية تندرج تحت عنوان البست سللر، فإذا ما قارناها برواية أخرى ظهرت في الفترة نفسها وهي أيضاً من كتب البست سللر ـ وهي شيفرة دافنشي ـ والتي بيع منها بضعة عشر مليوناً، فسندرك الفرق في التعامل بين ابن الضرة وابن البطن.
حين أفلست أو كادت أوربة العجوز من دفقها الإبداعي التفتت وروجت لبنت خالتها أميركا اللاتينية ولابنتها بالتبني المستعمرات السابقة والتي تكتب بلغة المستعمر، ولكنها ظلّت على حذر من ابن الضرة، ابن العالم العربي الذي يكتب باللغة العربية.
طبعاً أنا أتكلم الآن عن الهمّ العربي العام، فإذا ما انتقلت إلى همّ الكاتب السوري، فهناك همّان، همّ أنه عربي، وهمّ أنه سوري. والكاتب السوري يتيم، يتيم إن لم يكتب حسب "الخطة" في سوريا، ويتيم في العالم العربي لأنه من قطر آخر... سوري ولأنه حسب الشائع يكتب حسب الخطة العرسانية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س2 ـ الرواية العربية هل استطاعت أن تبني حيّزها بين آداب الأمم الأخرى، وإلى أي مدى يمكننا الاعتماد على أن نجيب محفوظ أسس لها في ظل الوفرة من وسائل التجريب والبحث عن أدوات تعبيرية جديدة...؟
ج2 ـ أنا أعتقد أن لدينا في اللغة العربية نصوصاً تستطيع اللغة العربية والأدب العربي أن يفخر بها، وتستطيع أن تضع قدمها بين الأقدام بعزة واقتدار. ولكن الضعف العربي السياسي، وضعف الدور العربي في العالم، وعدم اهتمام أصحاب القرار العرب بالدور المهم للثقافة والأدب في توضيح الصورة وإعطاء العرب الاهتمام الذي يستحقون. وفي إعادة الصورة العربية عبر الأدب إلى موقعها، فلسنا آباء الصحراء كما تصرّ الدعاية الصهيونية على تصويرنا "ميخائيل بارزوهار" ولسنا إرهابيين انتحاريين نريد تدمير العالم لأنه لم يتشكل حسب الصورة التي نريدها له، ولسنا أغناماً راضخة لدكتاتورياتنا كما يصرّ مفكرو الغرب السياسيين على تصويرنا بها، بل نحن شعوب تشبه كل شعوب العالم نحب ونكره، ونعشق، ونخفق، ونسعى وراء لقمتنا بجهد وعناء، ونكافح لاستنبات الديمقراطية في بلادنا. لسنا شعوباً معجِزة، ولكنا لسنا أيضاً شعوباً معاقة.. هذا هو دور الأدب الذي أعاقته الرقابة والحدود الظالمة، ووزارات الإعلام الحمقاء.
نحن كتاب نحاول، ونضحي بشبابنا ولا ننتظر مكافأة. والرعب كل الرعب هو أن ينتهي دور الكتاب الورقي ـ وهذا متوقع ـ قبل أن يستطيع الكتاب العربي أن يلعب الدور الذي لعبه دوستويفسكي وبلزاك وسنكلير لويس وماركيز في الذاكرة الإنسانية.
س3 ـ تختلف القرية عن المدينة في أن الأولى تظل بنتاً للطبيعة بينما الثانية تكون بنتاً لتطور القانون البشري، السؤال إلى أي حد تحتاج الرواية في بنائها إلى وجود مديني؟
ج3 ـ الأمر ليس أمر تسميات، فالقرية حالة اجتماعية، وليست مكاناً والمدينة حالة اجتماعية أيضاً وليست مكاناً، فالقاهرة ودمشق وبغداد المعاصرة هي تجمع قرى أكثر منها مدينة اجتماعياً، ولكن تجمع هذه القرى الاجتماعي هو تجمع متقدم على القرية المألوفة المفضوحة بكل سكانها حاملة العلاقات العشائرية والمذهبية والعائلية التي تشكّل رقيباً مرعباً على خيال مبدعها فتمنعه من الحديث عن الناس والعلاقات التي يريد الكتابة عنها، فإذا تجرّأ وكتب جوبه بحرب تستخدم فيها كل الأسلحة، فالأدب لم يصبح في نظر الناس فناً، بل هو في رأيهم نميمة، فضح للمستور، وهو مستور ساذج غبي، ولكنهم ينظرون إليه في تقديس ويمنعون الكتّاب من الكتابة عنه، فإذا ما ابتعد كاتب القرية عن الكتابة عما يراه ويعرفه، فعمّ يكتب؟ عن نيويورك التي لا يعرفها، أو موسكو التي زارها مرة، لذا تجد أن الكاتب القروي نفسه حين يسكن في المدينة والتي هي تجمع قرى إلا أنها ليست قرية، تجده يتحرر من الرقيب التاريخي، فيكتب عما يعرفه ويذكره، وهكذا قرأنا لكتّاب يسكنون المدينة أدباً جميلاً عن القرية، هاني الراهب جمال الغيطاني، غالب هلسا إلى آخر الأسماء التي يعرفها الجميع، وإذن فليس الأمر أمر نزاع بين قرية ومدينة، بل هو نزاع بين رقيب ورقيب، ونزاع بين حالة اجتماعية وحالة اجتماعية أخرى.
ولننظر الآن إلى الرقة، إنها عاصمة محافظة وهي في التسمية الإدارية، مدينة بامتياز، انظر من حولك واسأل نفسك عن علاقاتها، أهي علاقات مدينية؟ أهي علاقات ريفية؟ أم هي
علاقات خليط بين العلاقات البدوية والعشائرية، والعلاقات الريفية المستحدثة، والعلاقات المدينية الممكنة؟
انظر إلى العمارة الروائية في كتابات كتّابها، وانظر إلى العمارة السكنية التي يسكنونها.... قبل سبعين سنة كان معظم السكان يسكنون خياماً، والخيمة مؤلفة من شق للرجال وشق للنساء، وبينهما شق مرفوع الجدار الشمالي لاستقبال الضيوف، فإذا ما أراد رب البيت تزويج واحد من أبنائه، لم يكلفه الأمر إلا شقاً للزوج الجديد، وإذا ما أراد البناء بامرأة أخرى لم يكلفه الأمر إلا شقاً للزوجة الجديدة.... رب البيت هذا حين أراد أن يستقر ويسكن بيتاً من اسمنت وباتون وبلوك، بنى بيته خيمة من بلوك وبيتون، فهناك غرفة للنساء وغرفة للرجال وبينهما غرفة مفتوحة إلى الشمال، فإذا ما أراد زواجاً جديداً بنى غرفة أخرى إلى جوار الغرفة السابقة وإذا ما أراد تزويج ابن أضاف غرفة أخرى، ويمكن للأمر أن يستمر إلى الأبد.. غرف إلى جانب غرف لا تنتهي.
هذا الرجل نفسه حين قرر أن يكتب الرواية، ولم يفارق نظره وحياته أصلاً هذا الطراز المعماري البسيط وجدت روايته قصة جميلة بحبكتها ولغتها ولقطتها، ولكنه لا يطوره إلى عمارة معقدة، فحالما ينتهي من القصة الأولى، يبدأ قصة جديدة، فأخرى، فأخرى. صحيح أن هناك رابطاً متخيلاً ما ولكنه رابط الجدران المتجاورة، وليس رابط الخطة الموضوعة مسبقاً لصناعة رواية ذات عمارة، ما المثير في رواية "اسم الوردة" لأمبرتو ايكو؟ إنها العمارة قبل كل شيء، ما المثير في رواية مئة عام من العزلة؟ إنها العمارة.
ونرجع الآن إلى مفهوم أن الرواية فن مديني، وأنا لا أقلل من قيمة القرية ولا أرفع من شأن المدينة، بل أحاول أن أبحث عن تفسير يفسّر الضعف المعماري في بعض الكتابات الروائية، ولا أنس مقولة نجيب محفوظ حين سئل عن سبب الصرامة الهندسية الرائعة في رواياته، فقال: لا تنس أني حفيد المهندسين المصريين القدامى الذين بنوا الأهرام والذين بنوا الخانقاهات والمساجد في القاهرة والذين ترعرعت في كنفهم صغيراً.
س4 ـ عملك الرائع "فخ الأسماء" يحملني على السؤال الذي يؤرقني، هل تربتنا العربية الإسلامية تربة منتجة للطغيان أم أن الجذر ليس في المكوّن وإنما في بعض الورثة "المماليك" على سبيل المثال كما يذهب جمال الغيطاني في تأسيسه روايته "الزيني بركات" على نحو مماثل؟
ج4 ـ أنا أعتقد وهذا رأي شخصي أن الحضارة العربية الإسلامية كانت في طريقها إلى صنع بورجوازيتها المدينية منفصلة عن "المقاطعجية" العسكرية والسيطرة المطلقة لمؤسسة الخلافة على المجتمع. كانت الثروات قد تراكمت في المدن، وكان التجار الكبار والصناع الكبار على طريقتهم طبعاً، قد بدأوا في التشكل، وكان المتمردون على النظام الاستغلالي للمدن المركزية قد بدأ. ولنذكر ثورات الزط والقرامطة والزنج والخرميين "جماعة بابك الخرمي" والثوريين المحترفين سعياً وراء العدل ـ الخوارج.
كان هذا كله على طريق بناء المجتمع البورجوازي، متصالح الرأسمالية ـ وهي كلمة لنعتبرها اصطلاحية ـ وبين الثوريين الساعين إلى توزيع جديد للثروة، ولو تم هذا الصلح ونشأت البورجوازية فلربما ما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من هزيمة كاملة للبورجوازية وصحوة كاملة للقبلية والطائفية والمذهبية، بل العائلية على حساب المجتمع الحديث البورجوازي بالمعنى الدقيق لكلمة بورجوازي التي تعني مديني، سكان المدن، وليس بالمعنى المبتذل الذي حمّله صغار السياسيين معنى السباب والشتيمة.
لكن ما حصل هو أن المجتمع وهو في قمة تحضره للانتقال الاجتماعي في مصر وبغداد وحلب وطرابلس إلى البرجوازية، قدم إلى الساحة الإسلامية وافدون جدد هم العنصر الطوراني بدءاً من السلاجقة وحتى المماليك، قدموا ومعهم المفهوم الجنكيزخاني عن بناء الدولة ذات الرأسين، رأس ديني يملك ولا يحكم، ورأس زمني يحكم ولا يملك فطبقوا هذا المفهوم على الخليفة العباسي الرمز وعلى السلطان السلجوقي سيد كل شيء. جاؤوا وجاء معهم مصطلح "السه يا سة" التترية التي أوجدها جنكيز خان والتي استحالت على يد المترجمين العرب إلى كلمة السياسة ناسين أن الكلمة التترية تعني كيفية إدارة الدولة، وكيفية اختيار الحاكم الجديد وكيفية انعقاد مجلس الشورى الكبير لبحث القضايا الكبرى الخ.. جاؤوا ومعهم "السه ياسة" والتي تصر على الدين الواحد والمذهب الواحد والرأي الواحد والحاكم الواحد وتكفير وتخطيء وقتل كل من يخرج على هذه الواحدية. وبهذا فقد الإسلام تعدديته الموجودة في نص الإيمان بكتب الله جميعاً، ورسل الله جميعاً، فوصل الأمر في العهد المملوكي والعثماني إلى الشقاق ما بين الحنفي والشافعي ورفض التزاوج فيما بين أتباع هذين المذهبين.
المهم ما يعنينا من هذا كله هو حفري العميق الباحث عن جذر الديكتاتور العربي المعاصر والعزيز جداً على قلوب الناس، هذه الظاهرة التي لم يعد لها مثيل في العالم كله، فلقد تخلت عنه أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا، وظل العالم العربي فاقد البورجوازية ومنكرها، مصرّاً على التمسك به.
حفرت حتى وصلت إلى الحاكم المملوكي العجيب والمسمى بالملك الظاهر بيبرس، وهذا الرجل ضئيل الفاعلية في التاريخ الإسلامي، فهو ليس بأهمية خالد بن الوليد وليس بأهمية ألب أرسلان بطل معركة ملاذ كرد، وليس بأهمية يوسف بن تاشفين وليس بأهمية محمد بن القاسم الثقفي.. إلى آخر الأسماء الكبرى في التاريخ الإسلامي.
رجل بدأ حياته باغتيال بطل معركة عين جالوت المظفر قطز، وأنهاها بمحاولة قتل آخر الأمراء الأيوبيين المعزولين لتنفيذ نبوءة عن قتل ملك في هذا العالم فرأى افتداءه به، فمات بيبرس ونجا الأيوبي. رجل كل إنجازاته تحرير بعض القلاع من الاحتلال الصليبي، وهذا كل منجزه. ولكن لماذا احتفظت الذاكرة العربية لثمان مئة سنة به تتلمظه، وكأنه منجز كل رائع في التاريخ الإسلامي.
هذا الرجل كان الأذكى بين كل من ذكرت فلقد طلب من مثقفي عصره أن يكتبوا له سيرة حياة تشبه الشاهنامة، فكتب له ابن شداد سيرة حياة رفضها لسذاجتها، وكتب له ابن عبد الظاهر سيرة حياة، فرفضها، وأخيراً تقدم مثقفان من مثقفي عصره هما الديناري والدوادار لكتابة سيرته على أن يراجعها فصلاً فصلاً، فإن وافق عليها أبرمت وإن رفضها ألغيت......... وهكذا كتبت سيرة هذا الرجل ليصبح السلطان الحلم الذي تنتظره الأمة الإسلامية منذ محمد "ص" والذي نذر له أثرياء الأجيال السابقة ثرواتهم، ونذر له العلماء والحكماء علمهم وسحرهم والذي يعلّم المصريين ممثلين بعثمان بن الحبله ـ الإسلام منذ الشهادتين حتى الوضوء والصلاة ولنتخيل هذا، إنه كل شيء، والذي سينتصر على الإنس والجان والفرنجة والروم والمغول.
هذا المانيفستوـ السيرة ـ سيكون كتاب الطاولة لمعظم الأُسر وكتاب السهرات للمقاهي والندوات، وسيصبح مانيفستو الحاكم الذي يحلم بتكرار الظاهر بيبرس والمحكوم الذي يحلم بالحاكم القوي العادل.
بيبرس وسيرته هذه أعتقد أنها كانت رسالة الديكتاتورية العربية التي سيحفظها ويؤمن بها المجتمع العربي الإسلامي خلال الثمان مئة عام الماضية التي أنجبت جيلنا.
هذا الحاكم كان ثمرة قراءاتي، وكان من نتيجتها روايتي "فخ الأسماء" التي صدرت عن دار الآداب عام 2003 وروايتي "صبوات ياسين" التي صدرت عن دار الخيال اللبنانية عام 2006 والتي تتحدث عن الجدل بين المثقف المعاصر والمثقف الذي كتب سيرة الملك الظاهر وتمزق الكاتب المعاصر بين إخلاصه للفن كابن مخلص للثقافة العالمية والرواية العالمية وبين تبعيته للديناري والدوادار في كتابة سيرة السلطان المعاصر.
س 5 ـ هل نبالغ إذا ما وصفنا رواية "ليال عربية" بأنها استشراف لما وقع وما قد يقع من حروب أهلية عربية، عربية؟
في رواية "ليال عربية" والتي صدرت في العام 1980 في بيروت في طبعتها الأولى والمؤلفة من ليلة الحب وليلة الحرب و.. ليلة الخيبة، حاولت في قراءة مبكرة أن أقرأ المأزق الشامي ـ بلاد الشام مابين التوق إلى الهوية الكبرىـ العربية وبين فخ الهوية الصغرى، المدينية، العشائرية، الطائفية، الإقليمية، وربما كان مشهد المثقفين المعزولين في الطابق الأخير من البناية، يتفرجون على حرب كانوا جزءاً منها بالأيديولوجيات التي تمطقوا بها كثيراً دون إيمان حقيقي، أو إيمان عضوي، أو ربما كان التعبير الإيمان المنطلق من التجربة، لا من الورق. الحرب الأهلية قائمة وليس من ملتفت إليهم بين المتحاربين، ينزلون علماً أبيض إلى المتحاربين فيطلقون النار عليهم، فيدلون علماً أحمر فيطلقون النار عليهم، فأخضر فيطلقون النار عليهم، فعلماً مختلط الألوان السابقة فيطلقون النار عليهم.. الحرب الأهلية وقعت وليس من مكترث بالبحث عن سبب أو هوية لها، فالحرب الأهلية حين تقع لا يعود من المهم لها السبب، إنها التفتيش عن حيوانية خاصة، عن حقد على نظام سياسي لم يختاروه، ولا يعرفون في الوقت نفسه بديلا له، إنها أقذر الحروب على الإطلاق، ولنتأمل الآن من حولنا العراق وفلسطين، ولبنان في ما مضى، ولا نعرف القادم وما المهيأ لنا. كانت رواية "ليال عربية" نبوءة، كنت أتمنى لو لم أتنبأ بها ولكنه الفن والذي ربما هو شعبة من النبوة.
س6 ـ العلاقة بين "فياض" في الرواية التي تحمل اسمه، وبين والده بالتبني الفرنسي "روجيه" هل نذهب في فهمنا لها إلى حدود أسطورة قتل الأب، أم نراها على الوجه الآخر وهو أن فياض الذي تعلم على يدي الأجنبي يريد الاستفادة مما تعلمه في بناء بلده على قواعد ثقافية جديدة؟.
6 ـ في رواية فياض وهي الكتاب الثاني أو الرواية الثانية، وليس الجزء الثالث من رواية التحولات ـ حسيبة، فياض، وهشام). وفي هذه الرواية كنت أجادل مفهوم البندوق، والبندوق كما في الرواية هو العصفور المغرد ناتج التزاوج غير الشرعي ما بين الطير الحسون والكنار طير الأقفاص، والبندوق طائر شديد جمال الصوت ـالتعبير الحلقي، ولكنه شديد الجمال فقط وإن لم يسمع صوت أمه أو خاله الكناري بل حفظ إجبارياً صوت أبيه الحسون عبر عزله وتسميعه صوت الحسون فقط، لكن مصيبة البندوق هي في أنه كالبغل عقيم لأنه ببساطة جاء نتيجة زواج فاسد
هذا العصفور، وهذا الموتيف الأساسي في الرواية، هو المعادل الموضوعي للأيديولوجيات السائدة في العالم العربي والتي استوردها أنصاف متعلمي النصف الأول من القرن العشرين استوردوها كالأطفال فرحين بألعاب زاهية حفظوها معاً بصماً وكرروها وأعادوها، وها نحن في بدايات القرن الحادي والعشرين نرى إلى أين وصلت بنا هذه الأيديولوجيات التي لم تنتج عن تجربة، ولم تنتج عن نضال ولم تنتج عن خيار شعبي، ولم تنتج عن معاناة مفكرين محللين، فكانت السبب في كل هذه الاضطهادات والحروب الأهلية القائمة والتي ستقوم لا سمح الله، ولكنه البندوق العقيم ذو الصوت الجميل المحفظ تحفيظاً فقط والذي لا خلف له ولا ابن ولن ينتج إلا الخواء والعقم والرعب والدم..
في هذه الرواية ـ فياض ـ حاولت أن أجري تجربة لاستعارة ولد من شيزر، قلعة إلى جانب حماة إلى حضن فرنسي، وأن أرى ما الذي سيصل إليه.
كان فياض الفتى بطل الرواية طفلاً شديد الجمال، ولكنه شديد القذارة يعمل في قلعة كانت شديدة الجمال، وعاش فيها الأمير أسامة بن منقذ، قلعة وقفت ضد الصليبيين والبيزنطيين، ولكنها الآن خرابة الطفل الجميل والقلعة الجميلة وحضارة كانت جميلة والآن كل ما ذكرت خراب في خراب، هل يمكن استعارة هذا الولد وهذه القلعة لتحفيظها غناء ولغة جديدين.. كانت هذه محاولة الرواية.
*أديب سوري