حوار مع الأستاذ إحسان قاسم الصالحي

حوار مع الأستاذ إحسان قاسم الصالحي

مترجم رسائل النور

حاوره: الأستاذ أحمد الحمدي

تعيشُ الساحة الثقافية التركية منذ سنوات حيوية سياسية.. وفكرية.. ودينية.. عنوانها "الإنسان الحضاري" مَنْ الأقدر على صياغته، وتقديم مشاريع يحقق من خلالها آماله المستقبلية؟ ودعوة الأستاذ بديع الزمان النورسي (1960م) تعتبر من التجارب الرائدة في تقديم طرح إسلامي في تركيا الحديثة، التقينا بالأستاذ إحسان قاسم الصالحي؛ مترجم "رسائل النور" في عدة مجلدات؛ وكانت لنا معه هذه المحطات..

الاسلام اليوم : بدايةً؛ ماذا تعني دعوة بديع الزمان سعيد النورسي لتركيا الحديثة؟

- تعني الكثير، بحيث أتمكن أن أقول إن ما تُشاهد في كثير من شرائح المجتمع التركي من مظاهر الإيمان ما هو إلا من نتاج تلك "الدعوة القرآنية" ذلك لأن النورسي رفع شعار "إنقاذ الإيمان" في الوقت الذي لم يتمكنْ أن ينبس أحد ببنت شفة، بل لم يبقَ في حدود القول، فقد قيَّض الله سبحانه حوله زمرة طيبة من الناس المفطورين على الإسلام وجادوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل "إعلاء كلمة الله" في عصر خيَّم فيه الظلام الدامس حتى انقشعت غيوم الظلام.

الاسلام اليوم : لو ذكرتم أبرز محطاتكم من خلال تجربتكم مع ترجمة رسائل النور إلى اللغة العربية؛ وكيف؟ ولماذا؟

- خصوصًا أن هناك شبه إجماع على براعة هذه الترجمة من حيث المقدرة البيانية والأسلوبية البلاغية..

أخلاق طلاب النور وسلوكهم الإسلامي، وكل من قرأ رسائل النور هو طالب النور، ولا أزكّي على الله أحدًا، أذكر عند لقائي طلاب النور في سنوات السبعينيات لمست الإسلام حيًّا نابضًا ومعيشًا في حلّهم وترحالهم، بل كشفت فيهم صفاء الإيمان ونقاء الوفاء وصدق الإخلاص ودوام العطاء، واستشعرت بالاطمئنان والسكينة تغمران قلوبهم.

لست بدعًا في هذا الإعجاب تجاه هذا الإسلام الحي والإيمان الفتي، فكثيرون جدًّا ممن التقوا طلاب النور لمسوا هذا الإيمان الحي وصرحوا به أو كتبوا عما شاهدوه.

فقد عبّر أخونا الأديب "أديب إبراهيم الدباغ" بقلمه السيال عن هذا السلوك الإيماني بعدما خالطهم لمدة وجيزة فكتب في كتابه: (سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان) يقول:

"عندكم -يا إخوتي- وجدنا عظمة أصولنا الإيمانية وهي تشع بالنضارة والرّي.. وفي رياضكم وقفنا على منابت جذورنا القرآنية وهي تموج بالخصب وتَسُحّ بالعطاء.. ومن بين أيديكم كنا نتناول أبكار المعاني والأفكار في شَدَه وذهول وكأننا لم نكن نعرف الإيمان قبل أن نرتشف معانيَه من كئوسكم، ولم نكن نعرف القرآن قبل أن نسمعه من بين شفاهكم.. فلا والله لا أدري ما أقول : أأنتم بالإيمان تحيَون؟ أم يحيا الإيمان بكم؟ وهل بالقرآن تتحركون أم يتحرك القرآن بكم؟ فمذ عرفناكم عرفنا كيف يتحول الإيمان في نفس المؤمن إلى يقظة وجدان, وصحوة فكر, وهزة ضمير, ولهفة مشتاق".

لا شكّ أن السر يكمن في رسائل النور التي يقرءونها ويتدارسونها، ولا شيء غيرها.. فلقد حيل بينهم وبين مصادر الإسلام كافة بتغيير الحروف إلى اللاتينية، بل حيل بينهم وبين القرآن الكريم.. وغدت لهم هذه الرسائل المصدر والمرجع لاستلهام حقائق الإيمان، فاستطاعت هذه الرسائل بروحها القرآنية أن تأخذ بأيدي طلابها من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي والعروج بهم إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.

الاسلام اليوم : وماذا عن ترجمة الرسائل أيضًا؟

- لله الحمد وله المنة، فلولا عنايته الكريمة ورعايته الشاملة لما كنت أجرؤ على القيام بترجمة مؤلَّف بهذا العلو في الأسلوب والعمق في المعاني، فأنَّى لي القدرة على القيام بها وأنا لم أزاول الترجمة من قبلُ ولا باع لي في الأدب ولا في اللغة.

ولكن العجز الذي كنت أشعر به في نفسي والضعف الذي كنت أحسُّه في قابليتي، أصبحا شفيعين لدى الرحمة الإلهية الواسعة التي التجأت إليها، فما أن توجهتُ بفضل الله إلى خدمة القرآن الكريم برسائل النور، حتى هيَّأ المولى الكريم من كل جانب مَن يمدّ إليّ يد العون، مدّها إخوة أفاضل جزاهم الله عنا خير الجزاء، سواء بالتصحيح والتشذيب والإرشاد والتوجيه، فهذا يقوم بتبييض مسوّدات الترجمة وآخر يخرّج أحاديثها الشريفة، وآخر يأخذها إلى من يُشار إليه بالبنان في الأدب أو اللغة لينظر إلى أسلوبها وسلاستها وآخر يصححها لغويًّا.

وهكذا، إذا أراد الله شيئًا هيَّأ له أسبابه، فظهرت الترجمة بفضله وكرمه، ليست ترجمة حرفية يُقصد بها الأمانة وحدها ولا ترجمة حرة يُقصد بها الإبانة فحسب، بل ترجمة أصيلة خالية من اللكنة الأعجمية وافية للمعنى، حتى أثنى عليها الكثيرون ممن يُشهد لهم باللغة والأدب -ومنهم الدكتور حسن الأمراني، في كتابه "النورسي أديب الإنسانية"- قائلين أنها "ترجمة لا يحسّ معها الإنسان بأن شخصًا ثالثًا يقوم فعلا بينك وبين النورسي، وهو المترجم" والفضل لله أولًا وآخرًا.

إن الذي لمسته في أثناء الترجمة، أن المترجِِم مهما كان حاذقًا في فنّه، ورصينًا في أسلوبه وثريًّا في مخزونه اللغوي، لا يقدر على إبلاغ المترجَم له إلا إذا تشربت روحُه وانشرح صدرُه وقلبه بالمعاني والأفكار التي يقوم بترجمتها، إذ يؤثر هذا التشرب الروحي والانشراح القلبي في القارئ أكثر من تأثير الألفاظ الجميلة والجمل الرنانة.

وقد قدّم لي أحد الأخوة نصيحة قائلًا: "إنك يا أخي تقوم بعمل جليل وهو تفسير للقرآن العظيم يُعرَض على الله جل وعلا، فلا تكتب شيئًا من دون وضوء"! والتزمت بفضل الله بنصيحته طوال فترة الترجمة التي استغرقت إحدى عشرة سنة من السنين العجاف التي قضيناها في العراق، تلك هي سني الحروب المتتالية.

الاسلام اليوم : تمحورت الرسائل على عنصر الإيمان في العلم، وعنصر الأخلاق في الدين؛ كيف تُمكن بلورة هذه العناصر الرئيسة في عصر يلحّ عليها يومًا بعد يوم؟

- نعم، إن في رسائل النور كثيرًا من الأمثلة العلمية المادية من الواقع الملموس كدليل على المسائل الإيمانية، إذ كلما أتى العلم -أيًّا كان ذلك العلم- بالجديد فتح آفاقًا جديدة لإدراك تجليات من أنوار اسم من الأسماء الحسنى، فكلما تقدم العلم وأعلن للأوساط حكمًا جديدة بكشفه عن كيفية نشوء الحوادث أصبح وسيلة لفهم أوضح للمسائل الإيمانية، ولهذا يشيد النورسي بالتقدم العلمي والكشوفات الحديثة في مجلد (صيقل الإسلام) محاكمات: "فمرحى لجهود المعرفة الفياضة وانتشارها، وبخٍ بخٍ لعناء العلوم الغيورة، اللتين أمدّتا تحري الحقائق وشحنتا الإنسانية، وغرستا ميل الإنصاف في البشرية".

ولا شكّ أن هذا الأسلوب أجدى بكثير من أسلوب سوق المسائل التي استعصت على العلم الحديث، والتي لم يتمكن من كشف نتائجها وتوضيحها بعدُ، كشواهد لإثبات عظمة الخالق ودلائل قدرتِه سبحانه، وما عجزَ عنه إلى الله سبحانه! إذ حينما تتوضح المسألة -بعد الكشف العلمي -وتصبح من الأمور البديهية، فإن تلك الأدلة الاعتقادية التي سيقت سوف تتضعضع، وبدورها يضعف الإيمان.

يقول الدكتور د. طه عبد الرحمن، في العرض الذي ألقاه في منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين في الرباط في 26/10/2002م: "إن تطور العلوم، على خلاف ما يَظُن غيرُنا، لا يضيّق من رقعة الدين، بل يزيدها توسعًا، ولا ينقص من تأثيره، بل يزيده قوةً، ذلك أن العلوم لما كانت جزءًا داخلا في بنية الدين نفسها، كانت الأطوار التي تتقلَّب فيها والتي يفضُل لاحقُها سابقَها، تفتح في الدين آفاقًا معرفية غير مسبوقة وترقى بفهمنا له درجات على قدر هذه الأطوار، بل إنها تتعدى ذلك إلى كونها تجدِّد قدرتنا على التدين وتنوِّع سبُل تحقُّقه لدينا".

بل يذهب الأستاذ النورسي إلى أبعد من هذا فيستلهم من ذكر القرآن الكريم لمعجزات الأنبياء عليهم السلام كما في "الكلمة العشرين" أنهم خطوا بها قمة العلوم ونهاية حدودها: "يبيّن القرآن الكريم أَنَّ الأنبياء عليهم السلام قد بُعثوا إلى مجتمعات إنسانية ليكونوا لهم أئمة الهُدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي، ويبين في الوقت نفسِه أنَّ الله قد وضع بيد كلٍّ منهم معجزةً مادية، ونَصَبهم روَّادًا للبشرية وأساتذة لها في تقدمها المادي أيضًا.

نعم، إن القرآن الكريم بإيراده معجزات الأنبياء إنما يخطُّ الحدودَ النهائية لأقصى ما يمكن أنْ يصل إليه الإنسانُ في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها إلى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن أنْ تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعدَ الأهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحثّ البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها إليها، إذ كما أنَّ الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شئونه، فالمستقبل أيضًا حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله".

ويخلص النورسي إلى القول بأنَّ البشرية في أواخر أيامها على الأرض ستنساب إلى العلوم، وتنصبُّ إلى الفنون، وستستمدُّ كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلمُ زمام الحكم والقوة".

الاسلام اليوم : أفهم أن المنطلق القرآني لدعوة النورسي كان مركزيًّا في دعوته؟

- أعلن النورسي إعجاز القرآن بلغة جديدة ومنهج جديد، منهج مستوحى من القرآن نفسه، فتوجه بكليته وبقية حياته العامرة إلى القضية الأساس، وهي "إنقاذ الإيمان" في عصر الغزو الفكري والصراع الرهيب، فأنتج في هذا المجال أيما إنتاج من خلال "رسائل النور" التي وجهها إلى النشء الجديد، بأسلوب في غاية الوضوح، وبهدوء علمي باهر، وببيان ذوقي رفيع، وبحجج عقلية دامغة فغدت البديل العصري الذكي لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي، لأن ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوره وآياته وكلماته، وإنما كان يركِّز على شنّ هجوم عام شامل على أصول الإيمان، فاستطاعت رسائل النور -بفضل الله- بأسلوبها الجميل الذي يفهمه الخواص والعوام إنشاء جيل مؤمن بالقران إيمانًا لا يتزعزع، فتمكن من الصمود أمام تلك الرياح الهوج، ذلك لأن رسائل النور كما يقول في (المكتوبات): "ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضًا مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة".

ولدى استقرائنا لرسائل النور نجد أن المؤلف يصرح مرارًا وبإصرار أن منهج رسائل النور منهج قراني مستوحى من القرآن وليس نابعًا من نفسه وفكره، إذ يقول في (المثنوي العربي النوري): "لا تحسبن أن ما أكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول، كلا! بل فيضٌ أُفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضًا شيئًا سيالًا تذوقه القلوب وهو يزول، كلا! بل أنوارٌ من حقائق ثابتة انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ".

ويقول في (المثنوي العربي النوري): "وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هي إلا من فيض القرآن.. ولله الحمد كان القرآن هو مرشدي وأستاذي في هذا الطريق. نعم! مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".

الاسلام اليوم : أصدرتم كتابًا بعنوان: (الرجل والإعصار) كسيرة موجزة للنورسي؛ من خلال العنوان كيف تَصِفُونَ (طَبائعَ الإعصار) في مرحلة النورسي وفي الوقت الحالي، ما الفروق البارزة بين الإعصارين؟

- فرق هائل! ويكفي أن نوجِز ذلك بأن القرآن والأذان والحج كانوا ممنوعين على الشعب كله إلا باللغة التركية والآن عشرات المطابع تطبع القرآن الكريم والكتب الإسلامية وآلاف من مدارس تحفيظ القرآن الكريم والمساجد غاصة بالمصلين والفضل لله.

الاسلام اليوم : ما العناصر التي من الممكن لشريحة الشباب العربي والمسلم؛ وكذلك للحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي الإفادة منها في رسائل النور من جهة؛ والتجربة النُّورسِيَّة عمومًا من جهة أخرى؟

- المفروض على كل مسلم الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله "الحكمة ضالة المؤمن" فالاستفادة والإفادة من صلب واجب المسلم، ولعلَّ أهم ما يميِّز دعوة النور اهتمامها بالإنسان عقلًا وقلبًا وروحًا، وهذا يتمُّ بالدراسة الجادة لرسائل النور، وسيرى القارئ كيف أنها تربي نفسه وتغذي عقله، بل حتى تنظِّم عمله مع أهله وأولاده.

الاسلام اليوم : كيف تنظر وتستشرف مستقبل هذه الدعوة والدعوات الناشئة من رحمها؛ كجهود الأستاذ المفكر: "محمد فتح الله كولن"؟

- هذه الدعوة الناشئة من رحم النور -أقصد دعوة الأستاذ المفكر محمد فتح الله كولن- ستكون أُنموذجًا يُقتَدَى به في المستقبل القريب فيما إذا بُلِّغَتْ تَبلِيغًا خالصًا.. وكافيًا.. ووافيًا.