حوار مع أستاذ الاجتماع التونسي محمود الذوادي
حوار مع أستاذ الاجتماع التونسي محمود الذوادي
ميرزا الخويلدي
* في كتابك «التخلف الآخر»، تتحدث عن شكل جديد من صور التخلف، تتجه فيه لتحديد مسارين هما: التخلف اللغوي الثقافي والتخلف النفسي، ألا يتقاطع هذا الرأي، وخاصة في الحيز النفسي، مع نظرية مالك بن نبي بشأن القابلية للاستعمار؟
ـ بالنسبة لاستعدادية الإنسان المستعمَرْ للاستعمار، لا يمكننا أن نفهم ما قاله مالك بن نبي من دون تحديد الآليات التي تؤدي لهذه الحالة من الاستعداد للاستعمار، ومفهوم «التخلف الآخر» يصيب الهدف. لأن قابلية الاستعداد للاستعمار تتعلق أيضاً بالجانب النفسي الذي يتحدث عنه «التخلف الآخر»، وفيها الجانب اللغوي الثقافي بمعنى: أن الإنسان الذي يستعمر لغوياً، تم تجريده من أعزّ ما لديه، وبالتالي يصبح جاهزا للاستعمار.بالنسبة لنموذج تونس، فإن الزيتونيين الذين لديهم ما يمكن تسميته بالمناعة الثقافية لغوياً وثقافياً، كان من الصعب أن يسقطوا بسهولة في حالة الاستعداد للاستعمار. ومن هنا أنا أرى أن مقولة مالك بن نبي تصف واقعاً حقيقياً، لكنها لا تتحدث عن الآليات التي تؤدي إلى ذلك، ومفهوم «التخلف الآخر» في نظري يساعد على رسم تلك الآليات.
* اللغة
* وماذا بشأن اللغة.. كيف تصبح عنصراً للتخلف؟
ـ في تعريفي لـ«التخلف الآخر» كما قد قرأت، أشير إلى أن مجتمعات العالم الثالث تشكو من معلمين رئيسيين: الأول، هو معلم لغوي ثقافي، بمعنى أن الكثير من متعلمي هذه الدول لا يستعمل لغته الوطنية، كما هو الحال في أفريقيا، التي لا تستعمل لغتها الأصلية بل لغة المستعمر، لذلك فالجانب اللغوي الثقافي هو الجانب الذي يمثل جزءا رئيسياً من مفهوم التخلف الآخر، فإذا كان الناس لا يستعملون لغتهم في سائر مجالات العلوم، فإنها وباعتبارها كائنا حيا تتخلف تعريفياً، لأن اللغة هي مادة اجتماعية تنمو وتتخلف بمدى استعمال أهلها لها.
* في بعض البلدان التي تعرضت لغتها للاستلاب، حلت مكانها لغة تنتمي إلى ثقافة وحضارة أكثر تقدماً وحداثة، فلماذا حين استوردت النمط اللغوي من المستعمر لم تستورد معه حداثته وتقدمه وصناعته؟
ـ هذه من المفارقات الطريفة، ولكني أرى أن الحداثة بمعناها الكامل والمتسع هي عملية معقدة، وبالتالي فإن الدول والشعوب المتخلفة تعتقد أنها بمجرد استعمال اللغة ستصبح حديثة أو متطورة. اللغة هي أداة للتحديث، لكن الأهم في قضية الحداثة لم يتوفر لأن الشروط الموضوعية للحداثة لا تتم بمجرد اللغة، ولكن التصور الخاطئ يعطي الظن بأن مجرد استعمال اللغة من شأنه أن يعطي مفهوماً للحداثة. وهذا المثل نجده في النموذج التونسي، فبعض الناس يعتقدون أن استخدامهم للغة الفرنسية يجعلهم أكثر علمية وتقدما، وهو مفهوم غير صحيح.
* في كتابك أيضا تحدثت عن اليابان التي غزت العالم بصناعتها وبالتقنية المتطورة، ولكنها لم تغزُ العالم بأنماط ثقافتها على عكس الولايات المتحدة وأوروبا مثلا.. ما هذه المفارقة، ماذا يتوفر في الثقافة الغربية لا يتوفر في الثقافة اليابانية؟
ـ هذا التحليل واقعي، بمعنى أننا حين نشتري جميع السيارات اليابانية سنجد أن اللغة المستعملة فيها هي اللغة الانجليزية، وبالتالي فإننا لا نعرف الكثير عن اليابانيين لأننا لا نعرف لغتهم ولا نعرف ثقافتهم، وهذا يشكل عائقاً كبيراً لوجود هيمنة يابانية كاملة، لأن الهيمنة التي تدوم هي التي تكون جذورها ثقافية، والحال في المغرب العربي واضح، فالفرنسيون كانوا أذكى من الانجليز في استعمارهم، لأنهم استهدفوا الأساسات الثقافية عبر اللغة والثقافة، والنتيجة أن الاستعمار العسكري خرج من تونس سنة 1962، لكن الاستعمار اللغوي والثقافي ما زال على قدم وساق.
* عولمة القهر
* أيضاً تحدثت في أطروحتك الفكرية عن مفهوم الانسان العالم ثالثي المقهور وتصوره التحقيري لنفسه، هل يمكن أن يصنع القهر شكلاً عولمياً، خاصة أن ما اصطلحت عليه بالإنسان العالم ثالثي يمثل أكثر من نصف سكان الكرة؟
ـ لا يمكننا في البدء أن ننظر إلى تجربة الاستعمار وكأنها تجربة قد انتهت. ان التأثير الذي حدث في اللغة والثقافة والاقتصاد لا بد أن يجرح قليلاً أو كثيراً شخصية العالم الثالث. وفي العصر الحديث نلاحظ أن الكثير من المجتمعات في العالم الثالث لم تصبح دولا متقدمة، وبالتالي فإن عقدة أن الغرب أمامنا رغم استقلالنا عنه ما زالت تصاحبنا، فكيف ننتظر من إنسان يعيش في هذه الظروف أن ينظر إلى نفسه باعتزاز وفخر، إلى جانب ذلك فإن الكثير من الأنظمة السياسية تعطي الأولوية للغة المستعمر وثقافته وصناعته.
* لكن هناك شعوبا كانت من العالم الثالث وكانت مستعمرة كالصينيين مثلا، فكيف تخلصت من عقدة الاستعمار؟
ـ ما زالت بعض هذه الشعوب فاقدة لأدوات الحداثة الذوقية، وما زالت مستوردة لهذه الأدوات، وما زالت تنظر إلى الذات بمركب نقص لأن معطياتها الحاضرة لم تتغير كثيراً من دون إغفال أن الاستعمار الثقافي الذي بثّ ـ مثلما قال مالك بن نبي ـ الاستعداد للاستعمار.
* الهوية
* في موضوع الهوية، هل تستطيع الشعوب العربية التي خرجت من هيمنة الاستعمار تشكيل هويتها بمعزل عن تأثير مرحلة الاستعمار؟
ـ أنا قمت بدراسة مطولة عن العوامل المحددة للهوية، ووجدت أن هناك اربعة عوامل هي: اللغة، العقيدة، الأرض، الجنس العنصري. فالأرض أمكن استرجاعها في الدول المستقلة، وجانب العنصر، كلون البشرة مثلا، غير قابل للتغيير، فيبقى أمامنا أهم عنصرين، وهما اللغة والدين، وهما أهم المحددات اللغوية في الدراسات الاجتماعية. وفي المغرب العربي العلاقة لم تطبع مع اللغة العربية وليست هناك علاقة عضوية بين المجتمع وهذه اللغة، كذلك الحال في البلدان العربية بالنسبة لقضية الدين التي ما زالت تفرز جدلا ساخنا.
* ماذا تقصد بعولمة أزمة الهويات؟
ـ في مسألة اللغة مثلا، إذا كانت اللغة الوطنية ليست اللغة الأولى أو كانت لغة محقرة، فكل الدول التي تشكو من هذه المشكلة لا بدّ أن تكون عندها مشكلة في الهوية، لأن اللغة عامل محدد لتشكيل الهوية، وكذلك الحال إذا أصبح الدين مهدداً أو مشوشاً، وكما هو واضح فإن اللغة والدين يفرزان ثقافة، وفي عصر العولمة هناك الكثير من الأشياء التي أصبحت مؤثرة فينا على مستوى ما نسمعه ونشاهده ونتأثر به لغوياً وعقائدياً وفكرياً، والعالم الثالث هو أكثر عرضة لمثل ذلك لانعدام وجود مناعة ثقافية فيه. وإذا شئنا أن نصنف ففي العالم العربي يمكن القول ان قضية الهوية في المغرب العربي هي في أزمة أكثر منها في بلدان المشرق العربي، وهنا يتشكل نوع من الموزاييك لنوعية عولمة المشاكل وأزمات الهويات.
* الرموز الثقافية
* ما تعريفك للرموز الثقافية، وما هي مكانتها في التكوين الثقافي؟
ـ بالنسبة لي أعتبر أن مفهوم الرموز الثقافية هو مفهوم رئيسي، وأرى أنه يتجاوز مصطلح المفهوم لكي يصبح ـ ربما ـ نظرية، وهو ينظّر للأشياء من إطار الرموز الثقافية، وهو آتٍ من بحث إبستمولوجي، فأنا سألت نفسي لكي أجد أداة لفهم الإنسان والمجتمعات: ما هو الشيء الأساسي الذي تنبغي معرفته عن الإنسان حتى أرسي إطاراً فكرياً لمعرفته؟ وجدت أن استخدام هذا الإطار لفهم الإنسان والمجتمع هو تحديد الرموز الثقافية، بمعنى اللغة المكتوبة والمنطوقة، والعقيدة، وبمعنى الفكر، والعلم والمعرفة، والقيم الثقافية والأعراف، وهي جميعاً ما تميز الجنس البشري، وبها تحققت سيادة الجنس البشري على الكائنات الأخرى، أو بالتعبير القرآني (الخلافة في الأرض).
* ما الذي يميز الرموز الثقافية، ما هي طبيعتها؟
ـ هذا ما كنتُ أبحثُ فيه، لأن في علم الاجتماع يتحدثون عن الثقافة، ولكن لا يتحدثون عن طبيعتها ولا عن القيمة الثقافية لها، وتوجد فصول كاملة في علم الاجتماع لوصف العرف الثقافي والقيم الثقافية.ومن هنا بحثت عن معرفة الرموز الثقافية، واعتبرتها أنها أهم شيء في الإنسان وهي أهم من الجانب البيولوجي والفيسيولوجي في الإنسان، ورأيت أن هذه الرموز الثقافية لها بعض الخصائص الخاصة بها والتي تجعلها موروثاً إنسانياً مختلفاً عن الجانب البيولوجي والفيسيولوجي، ووجدت أن هذه الرموز الثقافية لا وزن لها ولا حجم بالمعنى المادي للأشياء، ووجدت أن الرموز الثقافية عندها معالم شبه ميتافيزيقية، فمثلاً الفكر، كعنصر من عناصر الرموز الثقافية، عمره قد يكون طويلاً وقد يكتب له الخلود وكأنه أصبح كائناً ميتافيزيقياً لا يموت، وكذلك الحال بالنسبة للغة العربية التي انتشرت في أرجاء العالم، فلها المقدرة على الخلود أو البقاء الطويل مع المجتمعات، وخصوصاً حين ارتبطت بالقرآن الذي ضمن لها الأزلية فلا يمكن أن تنتهي لأنها مرتبطة بمقدس قرآني. وهناك أشياء أخرى وجدتها تندرج في اللامادية في الرموز الثقافية، وجدت أن هذه الرموز لا تنقص بالأخذ منها، كالعلم مثلاً، فحين يلقي أحد محاضرة لا ينقص من المخزون العلمي له، بعكس العطاء المادي القابل للنقص.
* طاقة الرمز
* هل لهذه الرموز طاقة بذاتها أم من خلال توظيفها؟
ـ لهذه الرموز الثقافية طاقات ماردة وعامل شحن للأفراد والمجتمعات، فعندما يعتقدون أن لهم الحق في الحرية والاستقلال والدفاع عن عقيدتهم، فإن قوة هذه الرموز الثقافية تصبح طاقات جبارة، خذ على سبيل المثال بيت ابي القاسم الشابي:إذا الشعب يوماً أراد الحياةفلا بدّ أن يستجيب القدرفإني أقرأه بمفهوم الرموز الثقافية، بمعنى أن الناس حين يؤمنون بأن لهم حقا ولا بدّ أن يدافعوا عنه كحقي الاستقلال والمساواة وغيرهما، يصبحون حينئذ طاقة ماردة أمام العدو، ولا يمكن التصدي لمقاومتهم، ولا بدّ حينئذ أن يستجيب القدر.
* السؤال الذي يفرض نفسه: لم عجزت هذه الرموز عن الفاعلية لدى الشعوب التي اعتنقتها وآمنت بها، فاللغة لم تكن فاعلة في المغرب العربي مثلاً؟
ـ إذا تحدثنا عن المغرب العربي، فإن ضعف الجانب اللغوي جاء بسبب الاستعمار في الأساس..
* إذن حين تجسد الرمز اللغوي على أرض الواقع تحول إلى مادي وليس إلى ما تسميه ميتافيزيقي؟
ـ اللغة العربية ما زالت موجودة، وإنما ضعف شأنها، وهذا يعود إلى أن رموزا ثقافية أخرى جديدة جاءت في ظروف خاصة وأثرت سلبياً على اللغة الوطنية وعلى العقيدة، وإن بدرجة أقل، ومن الواضح أن الرموز الثقافية الجديدة كاللغة الفرنسية مثلاً عند العديد من المتعلمين التونسيين ما زالت ـ بسبب الظروف الاستعمارية والظروف الحالية ـ تهيمن كثيرا، لكن لو أن هناك سياسات تحاول أن ترجع للغة العربية مكانتها، فلن يكون ذلك مستحيلا. ورمزية اللغة العربية يمكن أن تسترجع شأنها لو توفرت الظروف.
* كباحث في علم الاجتماع، ما هو تصورك لطريق الخروج من حالة التخلف التي يعاني منها العالم العربي؟
ـ انطلاقا من مفهوم الرموز الثقافية، يمكننا القول ان بداية المخرج من الأزمة تعني إعطاء الأولوية للجانب الثقافي، ونعلم أن أهم شيء في كينونة البشر هي تلك المنظومة الثقافية، والتي عبرتُ عنها بالمناعة الثقافية، لأن أي شعب لديه هذه المناعة فإنه من غير الوارد أن يصاب بفقدان الهوية أو الانسلاخ أو الاستلاب أو غيرها، خاصة على الأقل بالطريقة التي رأيناها.وحين نكسب رهان الهوية الثقافية فإننا سنطرح تساؤلات التقدم والتطور، ونتساءل حينها عن سبب غياب استراتيجية بحثية في الدول العربية، والمسألة تتم إذا كانت هناك قيادات سياسية مؤهلة لتطوير البحث العلمي بشكل مؤسسي، والمبني على أساسيات أهمها العلم والثقافة.فالمخرج باختصار يجب أن ينطلق من الإيمان بالذات وأننا مؤهلون كغيرنا لكي نخرج من مثالب التخلف بأنواعه المتعددة.
* من الشرق الأوسط