د.كمال أحمد غنيم

د.كمال أحمد غنيم

الأستاذ في الجامعة الإسلامية في غزّة الدكتور كمال غنيم:

الكلمة العربية فقدت بلاغتها في زمن العجز والانهيار
أما أصحاب الفعل والعطاء فقد امتلكت كلماتهم وقع السحر

غزة/ابتسام مصطفى

فلسطيني في الصميم، وابن مخيم النصيرات، وممّن هُجّر أهله في العام 1948.. شارك في الانتفاضة الأولى عام 1987، وجُرح، اعتقله الصهاينة أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991. باختصار، جرّب معظم طقوس الشخصية الفلسطينية وعاداتها.. ثم كتب الشعر في الشهداء.
شاعر وأستاذ محاضر في الجامعة الإسلامية بغزة، وناشط ثقافي بارز في فلسطين، نبعت تجربته الأدبية من الواقع الفلسطيني بحذافيره وتفاصليه. حول شعره وبعض القضايا الراهنة، كان لنا هذا الحوار.

1- من هو كمال غنيم... وكيف بدأت  مشوارك الأدبي؟

        أنا ببساطة شديدة: كمال أحمد غنيم، من مخيم النصيرات بغزة، وتمتد جذوري إلى "وادي حنين" بفلسطين المحتلة، وُلدت قبل نكبة فلسطين الثانية سنة 1967 بعام واحد، واكتملت أجنحتي الشعرية في ميلاد ثانٍ في انتفاضة فلسطين عام 1987.

        عشت تفاصيل حياة اللجوء، ودرجت وسط أزقة المخيم، وتشرّبت كئوس الصبر والمكابرة، ورأيت كيف يمكن وسط كل مراحل الجرح، إذا سُئلت عن الحال أن تقول في شموخ اللاجئ: (الحمد الله، الأمور تمام!).

        ولكل فلسطيني عشرات القصص من قصص المعاناة، ولي مثلهم أكثر من قصة وحكاية، فقد كادت أن تودى بعيني اليسرى طلقة مطاطية، ما زلت أعاني من آثارها، وقد جربت عذابات الأسر والاعتقال، وعايشت عشرات المرات أشكال الطوق والحصار، وكانت رحلة التعليم العالي كتاباً مفتوحاً من كتب الشقاء والنحت في الصخر، من إغلاق للجامعة في غزة، ومنع من السفر إلى نابلس ومصر، ولكن رحمة الله كانت أوسع مما نظن في كل مرة.

        وقد بدأ المشوار الأدبي من حضن الأسرة، التي عشق معظم أفرادها الحروف قراءة وكتابة، وبدأت من صحف يومية وكتب دورية، أخذ والدي وأخي الأكبر "محمد" بيدي نحوها، ولا زلت أذكر حتى الآن نشوة القراءة الأولى، وأنا أمتلك بساط الريح، وسيف عنترة، ومتاهات الواقع السياسي، ومفردات المعرفة العامة.

        عشقت الكلمة، واعتقدت بقداستها في مرحلة مبكرة، بدأت مع مطلع المرحلة الإعدادية، وتبلورت في السنوات الجامعية الأولى، قرأت العقاد والمنفلوطي والرافعي وكنفاني وأبو سلمى، والغزالي والقرضاوي، ومئات الأسماء الرائعة.

2- كيف أثرت تجربة الاعتقال على توجهك الشعري؟

        كانت تجربة الاعتقال قاسية، واستطاعت أن تضع الحروف على الكلمات طالما بقيت هلامية الملامح، وقد خشيت من تجربة الاعتقال على ذلك الطفل الهادئ الذي يسكن قلبي، كنت أتمنى في معظم الأوقات أن أنتزع ذلك القلب لأزرع مكانه قلباً من فولاذ، فما أصعب أن تكون شاعراً في زمن لا يعترف بالشعر والمُثل، وما أصعب أن تكون كاتباً في وطن يعشق الرصاص.

        والغريب أن تلك الرغبات العارمة انسكبت عشقاً وعاطفةً موارةً في قصائد المعتقل، و لأول مرة وجدتني وسط الأسلاك الشائكة، أرفرف كالفراشة، وأحتسي قطرات الندى، وأقبل الزهور، وكأنني أتهجى معادلة ميلاد الحياة من الموت، وكأنني أعرف الشعر من جديد:

        هنا دمنا على فبر سينسكبُ

        لينبت من تراب القبر من ذهبوا

        وينمو الورد جنب الشوك، والحنّون يلتهبُ

        ويحلو الموت وسط الصمت يا وطني

        وصمتي صرخة كبرى لها لهبُ

        وكف تفتح الأبواب في لهفٍ

        وتعلو... في سماء المجد تغتربُ

        وتبني ما تهدّم من جوانحنا

        وتنسج من ضياء الشمس أفراحاً...

        ونقتربُ

وفي قصيدة أخرى:

        وأمضي كالنسيم على الربى غرداً

        و حولي ألف أغنيةٍ

        وفي كفى طيور العشق ترتاحُ

        وطير العشق يا شيماء صدّاحُ

        وفي الأخرى عبير الفجر ينسابُ

        يشقشق في يدي نعساً

        وخيط العتمة الوسنان ينجابُ

        وأحنو كالفراش على زهور اللوز والوردِ

        أقبلها... فتلثمني على خدّي

        وأحسو دمعها شغفاً

        ولا أدري...

        أدمعي أم دموع الفجر ما أحسو؟‍

3- يتسم شعرك بالحزن كيف تفسر هذه الظاهرة؟

        الحزن مفردة إنسانية عرفها البشر منذ الخروج من الجنة، مروراً بالأنبياء والشهداء والعلماء والشعراء، انتهاءً إلى لحظة العودة للجنة.

        وقد كُتب على البشرية أن تخوض امتحانها العسير، وما أصعب مشاهد هذا الامتحان، منذ قتل الأخ على يد أخيه، ومروراً بقبول التضحية والفداء في عهد إسماعيل، ومرارة المكوث في بئر يوسف عليهم السلام جميعاً، وعام الحزن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علّمنا أن القلب يحزن، وأن العين من حقها أن تدمع...، ومن أنا وسط هذا الحشد المقدس؟‍ ومن أنا وسط هذا الواقع المرير الذي أحياه، ويحياه شعبي، وتحياه أمتي، وتحياه الإنسانية جمعاء؟ في ظل ضياع العدل وتصدع الميزان؟‍

        قلتها من قبل، وأقولها الآن: ليس الغريب أن أحزن، ولكن الغريب أن لا أحزن وسط كل تلك المعطيات، ولكنه حزن مقدس، مؤمن وصابر:

ما الشعر إلا نفحة قدسية

                وتوجع كتوجع الشهداءِ

في القلب قد نبض الهوى متحفزاً

                والنار تجأر من جوى الأحشاءِ

والليل يمضي واجماً ومحطماً

                والفجر يبزغ من دم البؤساءِ

لم يبق إلا طلقتان وصرخةٌ

                ويكون طوفان بلا إرجاءِ

صوت المصلين الألى بزغوا،

                حجر الشهيد، وصرخة الشعراءِ.

4- انتقالك من القصيدة التقليدية إلي شعر التفعيلة هل يعني هذا أن هذا النوع من الشعر فرض نفسه على رؤية الشعراء الإسلاميين؟

        الرؤية الفنية لها أكثر من مستوى، فهي تنطلق من بواعث وقناعات، لتعبر عن قيم موضوعية بأدوات جمالية، وللمستويات الثلاث: (البواعث، والقيم، والأدوات) حدود تختلف باختلاف كل شاعر عن الآخر، وهي على تداخلها وتمازجها، يمكن من باب المنطق والتحليل التعامل معها كلا على حدة.

        وأعتقد أن الحديث عن "شعر التفعيلة" يتعلق بالمحور الثالث، وهو الأدوات الجمالية، ولا أعتقد أنه مما يضيرنا أن نتعامل مع شكلٍ فني، يستمد جذوره من الشكل التراثي "الشعر العمودي"، ويعتمد على كثير من مفرداته وجمالياته، ولعل هذا الأمر ينطبق على كثير من الأشكال الفنية الجديدة، التي نحن مدعوون بقوة للتعامل معها، مثل: (القصة القصيرة، والمسرحية، والرواية، وسيناريو التمثيلية الإذاعية، والمسلسل التلفزيوني، والفيلم السينمائي، والرسوم المتحركة).

        نعم، نحن بحاجة إلى توظيف هذه الأشكال التي تمثل مشتركات ثقافية إنسانية، لا يمكننا أن نغض الطرف عنها، وكأننا نعيش في كوكب آخر، ولكن ينبغي أن نوظّفها ونستفيد منها، ونطورها، طالما حافظت على العمق الفني والبعد القِيميّ، واندرجت تحت إطار "الحكمة في الدعوة".

        ولكن، ينبغي أن نحرص على عدم التمادي في بعض الفنون، والتساهل في بعض المقاييس، مثل: قصيدة النثر، ومفاهيم الحداثة والإبهام، وقصيدة العامية، وغير ذلك مما يتصادم مع أكثر من محور من المحاور السابقة التي ذكرت، فإذا كانت لعبة مثل كرة القدم لها قواعد وحدود، فما بالنا بلعبة الشعر والقصة والأجناس الأدبية المختلفة؟‍

        أما على الصعيد الشخصي؛ فأنا ما زلت وفياً للقصيدة العمودية وشعر التفعيلة معاً، فكلاهما شكلان يمتلكان أسساً فنية ونقدية جميلة‍.

5- كونك عضوا في أكثر من اتحاد كتاب وعدة روابط أدبية ما مدى تأثير هذه الاتحادات على المشهد الثقافي الغزي والحركة الثقافية بشكل عام؟

        فقدت الكثير من المؤسسات فاعليتها في المشهد الثقافي، لأسباب كثيرة، منها غياب روح الفريق، وبروز "الأنا المتورمة"، وآخرها الظروف السياسية، والإغلاقات، والحواجز الصعبة‍‍.

6- ما دور الحركة النقدية برأيك في ايجاد شعراء مبدعين؟ و هل أثر ذلك على مسيرتك الشعرية؟

        الحركة النقدية تنقسم إلى أكثر من تيار، منها التيار الأكاديمي، وهو في الغالب يميل إلى الانتقائية، ويفتقد في كثير من الأحيان جرأة الكشف عن جديد، ويدمن بالتالي على مضغ بعض الأسماء، واجترار مفردات محددة، وأما الجاد منه فهو في معزل عن التأثير في الساحة الجماهيرية إلا من رحم ربي، وأما تيار النقد الصحفي فهو في الغالب غارق قي شبر السطحية والكتابة المسلوقة -إن صح التعبير-.

        والتيار الأنجح حالياً وبشكل نسبي هو تيار الجمهور العام الذي يحتضن الكثير من المبدعين الجدد، ويرحب بالجمال دون وسطاء ومحسوبيات أو مخاوف.

7- هل للكلمة دور فاعل فيما يجري على الساحة من أحداث متسارعة؟

        العلاقة بين الكلمة والحدث علاقة طردية متبادلة فيما يشبه دورات الحياة الطبيعية،  فكم من كلمة صنعت حدثاً، وكم من حدث صنع الكلمة.

        والقدرة على الكلام كثيراً ما تنبع من القدرة على الفعل، ولم تفقد الكلمة العربية بلاغتها إلا في أزمنة العجز والانهيار، وفي ظروف التراجع والانكسار، وعلى يد أولئك الذين جوّفوا الكلمات وأفرغوها من مضمونها، أما الذين استندوا إلى جدار الفعل وصرح العطاء، فقد امتلكت كلماتهم فعل السحر، وأصبحت الكلمة على أيديهم أعمالاً تصنع الحياة وتضج بالحيوية والعطاء.

        وأكرر قولي: إننا مطالبون بإدراك أشكال الكلمة التي لا تتابع الحدث وتواكب التغيرات وحسب، بل تصنع الحدث، وتعيد ترتيب مفردات الواقع، فقد لا تتغير اللغة، ولكن يتطور شكل الخطاب، ولذلك لابد من الاهتمام بمساحات صحراوية من عطاء الكلمة الشعرية والنقدية والدرامية، لا في الكتب والمنابر فقط، بل في الصحف ووسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون وفضائيات وإنترنت، مع مراعاة عدم تجاهل المنطلقات وأشكال الخطاب الأولى، فلكل أهميته ومكانته ودوره وعطاؤه.

8- أين موقع النتاج الثقافي المنبثق من التصور الإسلامي من الحركة الثقافية العالمية؟

        النتاج الثقافي المنبثق من التصور الإسلامي شأنه شأن التصور الإسلامي نفسه، مغيّب عن الواقع على الرغم من ضخامة المقدرات التي يمتلكها، وإذا كان التصور الإسلامي الشامل للحياة في طور الصحوة والمقاومة الآن، فإن نتاجه الثقافي يسير في الخندق نفسه،  ويسعى لتسنم دوره الخطير في توجيه الدفة، وتحديد المسار، وتصويب الاتجاه، وصناعة النصر والتحرير، وإعادة تشكيل الواقع.

9- هل كان للثورة التكنولوجية وعالم النت دورا في تسهيل الانتشار للمبدعين؟ كيف تقيّم هذه التجربة؟

        من خلال واقع دراستي للمسرح الفلسطيني على سبيل المثال، تبين لي أن طباعة بعض المسرحيات ما قبل عام 1948 أسهم في نشرها وتمثيلها في أكثر من مكان وفي أكثر من فترة، بخلاف المسرحيات التي اكتفت بعرضها الأول وانتهت به، فقد ظلت محدودة الانتشار.

        كان ذلك والطباعة لمّا ترسخ أقدامها بشكل كبير بعد في واقع الحياة، فكيف بنا، وقد تعددت أشكال المطبوعات ووسائل الإعلام، وازدادت فاعليتها وسرعتها وسعة مجال انتشارها.

        ويمكن القول إن بعض وسائل الإعلام ما زالت تخضع لسيطرة بعض المتنفذين، وما زالت تحتاج إلى جهد كبير لاقتحام مجالها وإثبات الذات، أما بعض الوسائل مثل الإنترنت فهي مفتوحة المجال، ويمكن القول إن الكثير من الإبداعات قد فرضت ذاتها من خلاله، ولكن الميدان الحر  المتاح فيها قد يختلط فيه الغث بالسمين، ويقلل من تفاعل الناس مع الإبداعات الحقيقية، ولذلك فإن المسئولية جسيمة تجاه تلك الوسائل، وعلينا الاعتراف بأن المجال الفني من مسلسلات وأفلام ومسرحيات بما يتطلبه من تكاليف مالية باهظة ومتطلبات خبرات عالية ما زال التحدي الأكبر أمامنا، لأنه ليس من الصحيح أن نخدع أنفسنا بمشاهدة  خُمس الكوب المملوء بأجناس أدبية محددة‍‍

10-  ما هي أمنيات د. كمال غنيم ؟

        أملي الكبير في الله عز وجل أن نرى قريباً رايات النصر ترفرف فوق مآذن الأمة التي تعبت من رايات الحداد ورايات المقاومة، ولكنها ما فتئت تكابر وتواصل...، وأن نرى قبل ذلك وفي أثناء ذلك فعلاً ثقافياً وإسلامياً لا يترك مساحات واسعة من الإبداع نهباً للتصحر والضياع.