نبيلة الخطيب
الشعر الإسلامي يشق طريقه معنى و فناً
حوار : نجدت لاطة
تزامت مقابلتي مع الشاعرة نبيلة الخطيب مع أمسية شعرية لها في رابطة الأدب الإسلامي في عمان. وقد كان أسلوب إلقائها مذهلاً، وخيّل لي أن صوتها آلة موسيقية تعزف الألحان لأشعارها، فتخالها عندليباً يشدو بين الأيك والخمائل. ولقد نال إلقاؤها إعجاب الحاضرين جميعاً، وأثنوا عليه كثيراً.
ولا عجب أن تلد فلسطين شاعرتنا، وهناك في وادي بلدة "باذان" بالقرب من مدينة نابلس، حيث أشجار اللوز والتين والعناب نشأت وترعرعت، وكان للينابيع العذبة التي تخترق "باذان" صوتٌ شكّل أصداء روحها.
وخاضت شاعرتنا غمار التجربة الشعرية فأجادت وأبدعت، وحصلت على الكثير من الجوائز الشعرية في المسابقات المحلية والدولية، فقد حازت على الجائزة الأولى في الشعر في مسابقة الكتّاب الأردنيين عام 1995م عن قصيدتها "عندما يبكي الأصيل" وحازت على جائزة مجلة "السيدة الأولى" الكويتية، ثم نالت الجائزة الأولى في مسابقة البابطين لعام 2001م عن قصيدتها "صهوة الضاد" وقد صدر لها ديوان عام 1996م تحت عنوان "صبا الباذان"، وفيما يلي نص الحوار:
السؤال: حدثينا عن بداياتك الشعرية:
كيف اكتشفت أنك شاعرة؟
كيف مارست كتابة الشعر في خطواتك الأولى؟
كيف صقلت هذه التجربة؟
الإجابة: لا يستطيع الشاعر أن يحدد بداياته الشعرية، إن حياته وشعره متداخلان تداخل الفصول والمشاعر، ولكن الإحساس بالجماليات حظه أوفر عنده من غيره.فيستخفّه تغريد عصفور، ويحلق خياله مع جناح فراشة بين الأزهار والرياحين، فيجري قلمه بنظم جميل بينما يحاول حل مسألة رياضية.. وإنما تصقل الموهبة الإبداعية بتلقائية وتطور طبيعي مع الاهتمام الذاتي وتنامي الشعور والإدراك الواعي، ولا يصقل الموهبة وينظم المشاعر ويزيد الوعي مثل العكوف على القراءات المتنوعة الطويلة.
السؤال: بمن تأثرت من الشعراء؟ ومن أثرى تجربتك الشعرية؟
الإجابة: نعرف أن الإنسان يمر بأطوار ثلاثة: التقليد ثم الاختيار ثم الابتكار، ولكنني حقيقة لم أشعر أنني تأثرت بأحد، وهذا لا ينفي الإفادة من القراءات والمطالعات، فأنا ابن ذاتي وصنيعة نفسي، أومن بان جمال صوتك أن يكون متفرداً وأن حُسن إلقائك أن يكون متميزاً: (ومن الجبال جدد بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود).
ولقد كان لوالدي فضل إغناء تجربتي الشعرية منذ نعومة أظفاري، بينما الصور والمعاني تتناسل في داخلي قبل أن يتكون على شفتيّ جنين الحرف الأول إبداعاً، بغرسه القيم النبيلة والمشاعر السامية في وجداني وعقلي. فأنا أعدّه مثلي الأعلى والقمة السامقة التي أجهد لمصافحة ذراعها.
السؤال: ما الذي يدعو الشاعرة نبيلة إلى كتابة قصيدة؟
الإجابة: عندما تحضرني القصيدة أكتبها، فأنا لا أطلبها ولا أستجديها، تأتيني وتتكون في داخلي من خلال فكرة سامية أو مشهد إنساني أو صورة جميلة، من هنا فإن القصيدة حين تولد لدي تكون قد اكتملت ونضجت ذات سمع وبصر وفؤاد.
السؤال: في القصيدة التي ناجيت بها الطائر الأخضر الذي يحوم حول زهور الزنبق، هل كان الطائر يرمز إلى شيء ما في حياتك، أم أن جماله الباهر هو الذي استثارك؟
الإجابة: للطائر الأخضر قصة لن أذكرها، لأن العبرة فيما أوحت وأبقت.. لقد أحيا في نفسي معاني الإخلاص والوفاء وأعمق أحاسيس الحب والولاء. أحسست أن هذا العصفور هو ذلك البعيد في الذاكرة والجغرافيا، وأن الزنبقة هي تلك.. وأن الجاذبية التي أوجدها الله في الخلق هي في كل شيء.. في الرحيق وفي الجمال وفي الصفاء وهي في الوطن ومسقط الرأس ومرتع الصبا وجدول الماء الرقراق وحقول العناب. ورأيت فيه جمالاً.. ولكن الذي أثارني جمالات أخرى حملها العصفور معه وحطّ بها على زهرة الزنبق.. وكيف اهتدى إليها.. إن هذا المشهد الصغير في حجمه زادني إيماناً مع إيماني أن في الكون ما لا يدرك بالحواس الخمس وهذا الذي يتمايز به الخلق خفضاً ورفعاً. وقد قلت في القصيدة مخاطباً الطائر:
ماذا أتى بك: قـال الـوجـد والولهُ فطرت زهواً وخلت الكون لي وله
وكيـف تُقبِلُ- والأيـام غـاديـة - على تحَمُّل طيـف العمـر أوّلـه
أبعـد هـذا الفراقِ المرِّ تذكرنـي مَن أبرم الوعـد فـي حينٍ وأجّلهُ
وقلت فيها أيضاً:
يَظَلُّ بالورد مفتـوناً يَظـِلُّ بـه وإن سـقته عيون الـورد ظلّله
فيرشـف العمر من تلك اللّمى عبقاً سـبحانه من صبّه خمراً وحَلَّله
ما كان يبرح فـي الآكـام مورده إلا إذا العبق المكـنون أثمله
السؤال: الملاحظ أن شعرك الخاص بفلسطين ينبع منه الأنين والآهات، فتارة يناجي الآلام والجراح، وتارة يناجي أمهات الشهداء، ويبتعد - بشكل دائم - عن الشعر الثوري الصاخب.. ما رؤيتك في ذلك؟
الإجابة: كلما غار الجرح وزاد الألم كان الأنين أعمق وأخفت، لا يكاد يسمع، وتنحبس الآهة حتى لا تكاد تبين.. إن من يلسعه عود الثقاب يضج بصراخٍ عالٍ.. أما من يلقى في النار تنحبس كل تعابير صوته فلا تسمع منه إلا عن شدة قرب آهات مكبوتة عميقة لهي أشد وقعاً على النفس وأجرح للفؤاد.. وأمام صور الأمهات والشهداء والأطفال.. تتوارى الكلمة خجلاً وتذوب الأشياء في ذواتها.
السؤال: يشكو شعراء الشعر الحر من القافية في القصيدة العمودية، لكن الملاحظ في قصائدك العمودية، أن القافية لا تشكل لديك عبئاً، فكأن القوافي تنساب بين يديك فتختارين منها ما تشائين ومتى تشائين، فما الذي يساعد الشاعرة نبيلة على هذا التجاوب مع القافية؟
الإجابة: باختصار "عدم التكلف" فأنا كما ألمحت آنفاً لا أتكلف القصيدة، وبالتالي فإن كل ما فيها يأتي طائعاً مختاراً.. صورةً أو رمزاً أو قافيةً أو وزناً أو شكلاً.. وأجد أن الكلمة هي التي تختار موقعها، والمعاني هي التي تختار كلماتها، ولا أذكر أني عانيت في اختيار صورة أو كلمة أو قافية.. بل أحياناً تكون المعاناة معكوسة، حين تحط المفردات لإرادة المعنى فأجد حرجاً من الاختيار بينها، فأخط واحدة وأحتضن الأخريات أسترضيهن.
السؤال: هل - حقاً - كتابة القصيدة العمودية (ذي الشطرين) أصعب من كتابة الشعر الحر؟
الإجابة: بالنسبة لي الجواب "لا"، إذا جاءت القصيدة عمودية فهي الأسهل، وإذا جاءت تفعيلة فهي الأسهل، وهذا من فضل الله علي وله الحمد والمنة. أما بشكل عام فإني أزعم أن القصيدة العمودية لا يجيدها أو يقدر عليها كل أحد، فإن فيها ما ليس في الشعر الحر.. والذي أخشاه أن يكون اللجوء للشعر الحر إنما هو هروب من تبعات العمودي.
السؤال: ما رأيك بقصيدة النثر؟
الإجابة: القصيدة فن أدبي متميز، والنثر كذلك، فهما فنان لكلٍ طبيعته وشكله وقواعده وإبداعه.. أنا لا أعدُّ ما يسمى بقصيدة النثر شعراً، إنه فن أدبي نثري ويحكم عليه في هذا الباب حسنه حسن وقبيحه قبيح.. أما الخلط والمزج بينهما تحت مسمّى متناقض فهو ضياع لهما معاً.
السؤال: هل ما زال الشعر ديوان العرب، أم أنه انزوى جانباً وصار أقرب إلى التراث منه إلى واقعنا المعاصر؟
الإجابة: الشعر يسجل أحداث الحياة ونبضها، ومسيرة الشعر لم تتوقف منذ كانت، وحتى الشعر سجّل نفسه كجزء من حركة الحياة فلاقى من الصعود والهبوط كابن شرعي لواقعه.. وعبر تاريخه المعروف وهو يواكب الأحداث ويسجّلها ولكن بريشة فنان. لذا فإني أرى أن الشعر هو الديوان الفني والشعور للأحداث، أكثر منه تسجيلاً توثيقياً. فكما أن الحديث الشريف لا يؤخذ من كتب التاريخ والأدب فكذلك التاريخ لا يؤخذ من كتب الأدب والشعر.
السؤال: كان الإنسان العربي يقول في بيت لم يفهمه من قصيدة قديمة: المعنى في بطن الشاعر. ولكنه الآن أصبح يقول في القصائد المعاصرة: معاني القصيدة كلها في بطن الشاعر. ألا تعتقدين أن الشعراء المعاصرين - لا سيما شعراء الحداثة - هم وراء ابتعاد الناس عن الشعر بما ابتدعوه من رموز وأساطير وغموض بعيدة عن فهم العربي وتذوقه؟
الإجابة: الشعر تسجيل صادق الشعور حول حدث أو فكرة أو صورة حياتية، والشعور أمرٌ خفي لا يدركه إلا صاحبه حتى يظهر باللسان أو القلم، ومع ذلك فليس المطلوب من الشاعر أن يجعل من مكونات نفسه ومشاعره صفحة مكشوفة كل الكشف.. هذا الوضوح التام والكشف الجلي من غير ما حاجة إلى تأويل أو تفسير أو استشراف للمعنى من بعيد أحياناً، ومن قريب في أخرى، يقضي على لذة النظر في الشعر وإدامة مراجعته والبحث فيه، في الوقت ذاته أرفض الطلاسم والانحراف في الغموض وغلبة الأساطير، معتبرة الرمزية ذات المدلولات المعددة والمعاني المتنوعة سعة أفق وتحليق في رحلات فضائية فيها من المفاجآت والتلاوين ما يثري ويغني الإبداع الشعري، وبهذا يتميز الشعر عن غيره من ألوان الفنون، وكل ذلك ضمن دواء الفهم القريب والبعيد بما لا يصادم الذوق العربي الأصيل.
السؤال: ما تقييمك للشعر الإسلامي المعاصر؟ هل استطاع أن يوفي الأحداث التي نمر بها حقها؟
الإجابة: إن الحكم على الشعر الإسلامي المعاصر له ارتباط بطبيعة المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والمسلمون.. فالشعر الإسلامي يجهد في ملاحقة الأحداث والتعبير عنها ومسايرتها، ولأن صدمات الواقع المتتالية أكبر من أن يحتملها شعور أو تتصدى لها عاطفة، فإن المعاني المباشرة والفكرة الواحدة والصوت العالي يغلب في الأداء الشعري حتى يقترب في كثير منه إلى النظم والمباشرة والخطابية منه إلى عمق المشاعر والتلوين المجازي والإبداع الفني. فالشاعر المسلم يوصل فكرته ويخاطب العالم بوضوح، ولعل هذا ما يرفع عنه الحرج.. وبالجملة فإن الشعر الإسلامي اليوم يشق طريقه مجاهداً معنى وفناً.
ومن خلال متابعتي للشعر الإسلامي فإني أراه يحاول أن يكون مع الأحداث مواكباً ومسجلاً ومصوراً.. ولن يستطيع شعرٌ أن يوفي الأحداث الراهنة حقها الذي هو حقها، فأنى لمدادٍ يسيل من القلم أن يوفي حقه مداد يكتب التاريخ بمداد يسيل متفجراً من القلب والشرايين ليغمر كل الأسفار ببضعٍ من قطراته.
السؤال: لعلّك لاحظتِ مثلي عدم حضور الشباب في الأمسيات الشعرية والأدبية التي تقام في رابطة الأدب الإسلامي.. ما أسباب هذا الغياب للشباب؟ وأعني الشباب الذكور، لأن الشابات كان لهن حضور بشكل دائم.
الإجابة: هذه ظاهرة عامة غير مقصورة على رابطة الأدب الإسلامي، ذلك أن الشباب يتجاذبه طرفان أو قطبان: الإفراط والغلو في التفكير والتطلع نحو المعالي "عملياً"، أو التفريط والتهاوي في مستنقع الهبوط والإسفاف "عملياً" أيضاً. ويرى هؤلاء الشباب (في الأغلب) أن الشعر لا يُشبع رغباته ولا يُلبّي طموحه في الحالتين.. والشعر بحاجة إلى نوعٍ من الهدوء والاتزان العقلي والعملي "وقليلٌ ما هم".
السؤال: لقد كررت سؤالي هذا أكثر من مرة على الشعراء الإسلاميين: لماذا حُذف الغزل من الشعر الإسلامي المعاصر، إلى درجة أن الأعراس الإسلامية لا يوجد فيها شعر غزلي ولا أناشيد غزلية؟
الإجابة: وأنا أكرر جوابي في السؤال قبل الأخير فإن طبيعة المرحلة تجعل الشاعر المسلم والمنشد المسلم ينحاز إلى ما يراه الأهم، لا خموداً في عواطفه ومشاعره في الجانب الذي يعبر عنه الغزل، ولكن العواطف والمشاعر المتأججة الملتهبة تتجه نحواً آخر، هي موجودة وقوية ومندفعة ولكنها تنصب وتفرغ حسب أولويات المرحلة.